علاج المحيَّر الهائم  الخائف من لومة اللائم لِنَجم الدين الكُبرى أبي الجنَّاب أحمد بن عمر بن محمد الخَيْوَقِي الصوفى المتوفى سنة 618هـ

مخطوطة نادرة تكتشفها «أخبار الأدب»

مخطوطة نادرة
مخطوطة نادرة

«تمارس «أخبار الأدب» دورها التنويرى بعدة مستويات، منها كشف كنوز التراث العربي التي علاها الركام وإخراجها إلى القراء في ثوب عصري جديد.. وهذا ما حدث  مع مخطوطة نادرة في التصوف لم يتم تحقيقها من قبل، بل قامت «أخبار الأدب» بالاتفاق مع علماء الأزهر الشريف بالكشف عنها وجلائها للقراء، وقد أثمر هذا التعاون الذى امتد إلى عدة أشهر الكشف عن مخطوطة قديمة جدًا فى التصوف الإسلامي لنجم الدين الكبري، تدعى: «علاج المحير الهائم.. الخائف من لومة اللائم».. وهذه هي المخطوطة كاملة في «البستان».

اللوحة الأولى من النسخة الأولى

نبذة عن حياة المؤلِّف


هو الشيخ الإمام الزاهد القُدْوَة أَبُو الجنَّاب [بتشديد النون] أَحْمد بن عمر بن مُحَمَّد الخَيْوَقِي الصُّوفِي، سَاكن خوارزم، المشهور بنجم الدين الكُبْرَى، على صيغة (فُعْلَى) كـ (عُظْمَى)، على لفظ  تأنيثِ (الأَكْبَر)، وقد تنطق ألفه بالإمالة: (الكُبْرِي)، ومنهم من يمدُّ فيقولُ: (الكُبَرَاء) جمع (كَبِيرٍ)، ثم خُفِّفَ وغُيِّرَ، وذكروا أنه لفرط ذكائه لُقِّبَ بالطامَّةِ الكُبرى، ثم خُفِّفَ بحذف الموصوف، فقيل له: (الكُبْرَى).


مولده:

النسخة الأولى المودعة بمكتبة
 أياصوفيا باستانبول ـــ تركيا

ولد سنة خمس وأربعين وخمسمائة بقرية (خَيْوَق) [بفتح الخاء، وقد تُكْسَر]، وهي من قرى خوارزم، وأهلها شافعية دون جميع بلاد خوارزم فإنهم حنفية، وينسبون إليها فيقولون: (خَيْوَقِيّ)، وهو من شذوذ الكلام؛ لأن الواو صحَّت فيه وقبلها ياء ساكنةٌ، والأصل أن تقلب وتدغم، ومثله في الشذوذ (حَيْوَة) اسم رجل.


رحلته في طلب العلم:

طاف البلاد وسمع بها الحديث، وأخذ عن الشيخ روزبهان الكبير، وقدم إلى القاهرة، ونزل بالخانكاة الصلاحيّة سعيد السعداء، وسمع بالإسكندريّة من الحافظ أبي طاهر السلفيّ، وبتبريز من محمّد بن أسعد، وبأصبهان من أبي المكارم أحمد بن محمّد اللبّان، وأبي سعيد خليل بن بدر بن ثابت، وأبي عبد الله محمد بن أبي زيد الكرّانيّ، وأبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن نصر الصيدلانيّ، وأبي الحسن مسعود بن أبي منصور الجمّال، وسمع بِمَكَّة من الْمُبَارك بن عَليّ بن الطباخ، وبهمذان من أبي الْفضل مُحَمَّد بن بنيمان الهمذاني، وأبي الْعَلَاء بن الْعَطَّار، وبأصبهان من طَائِفَة من أَصْحَاب أبي عَليّ الْحداد، وَغير هَذِه الْبِلَاد من خلق كثير، واستوطن خوارزم مشتغلاً بالإرشاد والعبادة.


تلامذته:

اجتمع عنده خلق فأخذوا عنه، كالشيخ سيف الدين الباخرزي، وسعد الدين الحموي، وكمال الخُجندي، ومجد الدين البغدادي، وعين الزمان جمال الدين، ونجم الدين دايه، ورضي الدين لالا، وسلطان العلماء بهاء الدين ولد، فكانوا من أصحابه.
كما سمع مِنْهُ: أَحْمد بن عَليّ بن النفزي، وعبد العزيز بن الْحُسَيْن بن هلالة الطبيري الأندلسيان وَغَيرهمَا.، وخطيب داريا شمخ، وناصر بن منصور العرضي، وغيرهم.


مذهبه وعِلْمُه:


كان - رحمه الله - شَافِعِيّ الْمَذْهَب كما هو حالُ أهل (خَيْوَق)، وكان ثِقَةً إِمَامًا فِي السُّنَّة، وكان له معرفة بالفقه والحديث والتفسير، وحصل الأصول، وهو شيخ الصُّوفِيَّة في خوارزم، ولبس الخرقة من الشيخ إسماعيل القصري والشيخ عمار بن ياسر، ثم انتهت إليه المشيخة بناحية خوارزم وما يليها، وكثر أتباعه وانتشر مريدوه في تلك النواحي، وانتفع به خلائق في سلوك طريق الله تعالى.

اللوحة الأخيرة من النسخة الأولى
أخلاقه وزهده:
كان - رحمه الله - ذكياً إلى الغاية، وكان يسبق شركاءه في التعليم وهو صبي، فلقَّبُوه بالطامَّةِ الكُبرى، ثم خُفِّفَ بحذف الموصوف، فاشتُهِرَ بـ (الكُبْرَى).
كما كان ملجأً للغرباء، عظيمَ الجاهِ، لا يخاف في الله لومة لائم، صَاحب سنةٍ، مُعظمًا بَين النَّاس، أَقَامَ ثَمَاني عشرَة سنة يخْتم الْقُرْآن فِي كل لَيْلَة قَائِمًا فِي صلَاته.
وقال تلميذه ابن هلالة: جلست عنده في الخلوة مرارا، وشاهدت أمورًا عجيبة، وسمعت من يخاطبني بأشياء حسنة.
 

مناظرته للإمام الفخر الرازي:


اجتمع به الإمام فخر الدين الرازي وفقيه آخر، وقد تناظرا في معرفة الله - تعالى – وتوحيده، فأطالا الجدال، فسألا الشيخ نجم الدين عن علم المعرفة فقال: وَارِداتٌ تَرِدُ على النفوس تعجز النفوس عن ردِّها، فسأله الإمامُ فخرُ الدين: كيف الوصولُ إلى إدراك ذلك؟ قال: تترك ما أنت فيه من الرئاسة والحظوظ، أو كما قال، فقال: هذا ما أقدرُ عليه وانصرفَ، وأما رفيقه فإنه تزهَّد وتجرَّد وصحب الشيخَ، ففتح الله عليه.


مؤلَّفاته:


صنَّف نجم الدين الكُبرى - رحمه الله - تفسيرًا كبيرًا للقرآن العظيم في اثني عشر مجلدًا (على طريقة الصوفية)، وصنف (عين الحياة في التفسير) بالأزهرية جزء منه في تفسير الفاتحة، وله عدّة رسائل في التصوّف، منها: رسالة في (علم السلوك)، و(أقرب الطرق الى الله)، و(فوائح الجمال وفواتح الجلال) بالفارسية، ورسالة في (فضل الذِّكْر) بمكتبة الدولة ببرلين – ألمانيا (برقم 3733)، و(الأصول العشرة النَّجميَّة) بمكتبة الفاتيكان برقم: 5/1436 (5)، ومكتبة رضا في رامبور بالهند برقم: 1/329 (36)، و(الرسالة الكُبْرَوِيَّة) بالمتحف البريطاني بلندن برقم 1922/20، ومكتبة جون ريلاندز في مانشستر – إنجلترا برقم 121 A، والمكتبة الآصفية بحيدر آباد بالهند برقم 1/368 (94, 3)، و(ساكنات الصالحين) بمكتبة الفاتح في استانبول برقم 5426 (من 136 ب - 163 أ)، و(الزَّيغ والطريقة) بالمكتبة المركزية بجدَّة بالمملكة العربية السعودية برقم 231/3 مجاميع، و(هداية الطالبين ومطية السالكين) بالمكتبة الظاهرية في دمشق برقم 8207، و(آداب الصوفية) بمعهد المخطوطات العربية بمدينة باكو بأذربيجان، برقم 4410/2785 b، و(رسالة إلى الهائم الخائف) محل التحقيق.
 

وفاته: 

استشهد - رحمه الله - في سبيل اللَّه لما استولى التتار على خوارزم في ربيع الأول من سنة ثماني عشرة وستمائة، وهرب السلطان محمد آذن أصحابه في الرحيل وقال: رأيت ناراً قد خرجت من المشرق، فأحرقت إلى قرب من المغرب، فثبت هو في مكانه إلى أن دخل الكفار البلد، خرج فيمن خرج ومعه جماعة من مريديه، فقاتلوا على باب خوارزم فصاروا مقبلين غير مدبرين، واستُشهد معه ثمانون من مريديه بعد أن قاتلوا معه، وجاهدوا في سبيل الله أعظم جهاد، حتى أكرمهم الله معه بالشهادة، رحمه الله.


النُّسَخ التي اعتمدنا عليها فى التحقيق:
اعتمدنا في تحقيق هذه الرسالة على نسختين:


الأولى: مودعة بمكتبة آيا صوفيا باستانبول – تركيا، برقم (2052) وأوراقها في المجموع من (61 أ - 72 أ)، ومسطرتها (13 سطرًا)، وتاريخ نسخها: يوم السبت، الخامس والعشرين من ذي الحجَّة سنة 686هـ، وخطها نسخي، واتخذنا هذه النسخة أصلًا.

والثانية: مودعةٌ بالمكتبة الأزهرية، برقم (3273 تصوف) [131224 دمياط]، رسالة رقم (1)، وتاريخ نسخها سنة 839هـ، وخطُّها نسخي معتاد، وأوراقها في المجموع من (1-11)، ومسطرتها  (17 سطرًا)، وقياسها: 24 × 16.

من لومة اللائم لأبي الجنَّاب أحمد بن عمر بن محمد الخَيْوَقي الصوفي الحمدُ لله الذي تواضعَ كلُّ شيءٍ لعظمته، والحمد لله الذي ذلَّ كلُّ شيءٍ لعزَّته، والحمد لله الذي استسلم كلُّ شيءٍ لقُدرته، والحمدُ لله الذي خضع كلُّ شيءٍ لملكه، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسله (بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).  صلَّى اللهُ عليه صلاةً يغبطها الأوَّلون والآخرون.

أمَّا بعدُ، فهذه رسالةٌ إلى الهائم، الخائف من لومة اللائم، الطالب بقلبه، الهارب بقالبه، لا يزال يقوى نورُ الله في قلبه، بسبب ما يسمع في كلام الله تعالى من مواعيده، وما يفهم من سنن رسوله - صلى الله عليه وسلم – وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان – رضي الله عنهم – وأحوال المشايخ ومقاماتهم وحكاياتهم؛ فإنهم في الحقيقة جنود الله في أرضه وسمائه يَدْعُون عبادَهُ إليه، فنورُ الله يحمله على سلوك طريق التحقيق، وملامةُ الإخوان والخلَّان تمنعه من سواءِ الطريق، والنَّفس المشككة والشيطانُ [1/أ] المَريدُ يُوسوسانه، ويمنعانه ويردعانه ولا يدعانه على بُرهانِه، فهذا المسكينُ تارةً تتجلَّى له شمسُ اليقين فيمشي في ضوئها، وتارةً تحجبه ظُلُماتُ الشَّكِّ والرّيب فيتحيَّرُ ويَتِيهُ في هوائها (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) .

والصَّدرُ الأولُ من الصحابة - رضي الله عنهم – لمَّا شاهدوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم – ومعجزاته، وسمعوا القرآنَ منه غضًّا طريًّا كَتَبَ الله الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمُ (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).  فبروح الله عاشوا مع النبيِّ - عليه السَّلامُ – فمِنْ باذلٍ رُوحَهُ، وباذلٍ مالَهُ، وباذلٍ أهلَهُ، وتاركٍ زينةَ الدُّنيا، ويختارُ الفقرَ على الغِنَى، والذُّلَّ على العِزِّ، والقتلَ على الحياةِ، يطلبون بذلك رِضا الحقِّ - سبحانه وتعالى – ورضا رسول الله - عليه السلامُ – حتى قال [الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -]: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [متفق عليه]، قال عمرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: (يا رسولَ الله، أنتَ أحَبُّ إليَّ من وَلَدِي ووالِدِي والنَّاسِ أجمعينَ إلَّا نفسي، فقال - عليه السلامُ -: (لا، حتَّى أكونَ أحبَّ إليكَ مِن نفسِكَ)، فقال عمرُ - رضي اللهُ عنه -: (أنتَ الآنَ أحَبُّ إليَّ من وَلَدِي ووالِدِي ونَفْسِي والنَّاسِ أجمعينَ)، فقال - عليه السلامُ -: (الآنَ يا عُمَرُ) [رواه أحمد في مسنده]، فمدحهم الله تعالى [1/ب]، فقال: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)،  وقال في موضعٍ آخرَ: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ  ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)،  فأينَ الآخِرونَ من الأوَّلينَ؟، وأين المتخلِّفونَ من السَّابقين؟، مع هذا يقولُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم –: «مَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ»، أورده مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ القُشَيْرِيُّ في (صَحِيحِه). [الحقُّ أنه ليس في صحيح مسلم، وإنما أخرجه الترمذي في سننه (2869) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ].

فالآنَ نشرعُ في عِلاجِ المتحيِّرِ الهائم، الهارب من لَوْمَةِ اللائم، فنقول: قال المشايخُ الذين لقيناهم: «كان الناسُ في الصَّدر الأولِ يسرقُ منهم الشياطينُ والنفوسُ فيتداركون، أمَّا في زماننا فصارَ الأمرُ كلُّه للنُّفوس والشياطين، فاسرِقوا أنتم منهم شيئًا»، فقلنا: «وما نسْرقُ منهم؟» قالوا: «الساعة من عمركم  فاجعلوها لله - تعالى -».
فيا أيُّها المُريد الصادقُ، والطالبُ المخلصُ، طَهِّرْ ظاهرَكَ وباطِنَكَ، فإنَّ المُتَلَوِّثَ لا يَصْلُحُ للحظيرة القُدسيَّة والحضرة الرَّبانيَّة، وطهارةُ الظَّاهر والباطن لا تكملُ إلا بأمورٍ عشرة:

الأول: طهارةُ البدن كلِّه من مُوجِباتِ الغُسل، وطهارةُ [2/أ] الأعضاء من مُوجِباتِ الحَدَث، فقد قال - عليه السلامُ -: «الوُضُوءُ سِلاحُ المُؤْمِنِ» [لم أقف عليه في كتب السُّنَّة]، و«الوُضُوءُ على الوُضُوءِ نُورٌ على نُورٍ» [ذكره العراقي في «تخريج أحاديث إحياء علوم الدين» (317) وقال: لم أجد له أصلا. لكن ورد في معناه حديث: «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ»، أخرجه أبو داود في سننه (62)، والترمذي في سننه (61)، وقال : وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ]. 

ولأنَّ الرُّوحَ القُدسيَّةَ دُسَّتْ في التُّرابِ، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)  والدَّسُّ في التُّرابِ إنَّما حصلَ بتناوُلِ لُقيمَاتٍ حُظوظيَّة، والماءُ خُلِقَ مُزيلًا للتُّرابِ والطِّينِ، فإذا استُعمِلَ الماءُ في الطَّهارة العُظمى والصُّغرى غسلَ آثارَ التُّرابِ عن وجهِ الرُّوحِ القُدسيَّة ويُخفِّفه عن الأثقال التُّرابية، فإذا داومَ على الطَّهارة أوشكَ أن يتلأْلَأَ فيه الأنوارُ الرَّبَّانيَّة من طريق العكس ثمَّ ينعكس منه إلى مرآة الخيال فيرى ذلك بعين قلبه.

الثَّاني: الخلوَة، وهي العُزْلَةُ من الشَّواغلِ في بيتٍ مظلمٍ لا يتداخَلُ فيه شعاعُ الشَّمسِ وضَوْءُ النهار، فيسدّ على نفسه طَرِيقَ الحَوَاسِّ، وسدُّ طَرِيقِ الحوَاسِّ شرطٌ لفتحِ حواسِّ القَلْبِ، ألا ترَى أنَّكَ لا ترى شيئًا في اليقظَةِ، فإذا نمتَ رأيتَ أشياءَ كثيرةً؟ كذلكَ إذا سُدِّدَتْ عليكَ في اليَقَظَةِ طُرُقُ الحوَاسِّ انفَتَحَتْ عليكَ حواسُّ القَلْبِ، وكان رسولُ الله - عليه السلام – حُبِّبَ إليه الخلوة قبل النُّبُوَّة، فكان يتحنَّث في جبلِ حراءٍ وهو التعبُّدُ [2/ب] بالليالي ذواتِ العدد، وكان يرى النُّورَ قبل النُّبُوَّة بخمسة عشرَ سنةً، ولأنَّ النفسَ تأنسُ إلى النَّاسِ واللهوِ واللعبِ، فإذا حبسها الإنسانُ عن الناسِ.

واللهوِ واللعبِ ضعفت واضمحلَّ برهانها، فإذا ذهب بُرهانُ النفسِ واضمحلَّ ظهرَ برهان القلبِ واستنارَ بنور الغيب.
الثالثُ: دوامُ السُّكوتِ إلَّا عن ذكرِ الله - عزَّ وجلَّ -، قال - عليه السلام -: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» [أخرجه الترمذي في سننه (2616) ، وابن ماجه في سننه (3973) وقال الترمذي : «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»]، وينجو بالسكوت عن الكذب والنفاق، قال الله - تعالى -: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ، ولمَّا سألَ زكريَّا يحيى - عليه السلام – أُمِرَ بالسُّكوتِ ثلاثةَ أيَّامٍ، قال - تعالى -: (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) ، فصارَ السكوتُ علامةَ أخلاقِ يحيى وحياته، فنطقَ يحيى وهو صبيٌّ، فلا يَبعُدُ أنَّكَ إذا سكتَّ عن فُضولِ الكلامِ سمعتَ كلامَ القلبِ الذي هو طفلُ الطريقِ مع الله - سبحانه وتعالى -، ولمَّا أرادَ الله - تعالى - أن يتكلَّمَ عيسى بنُ مريمَ طفلًا صغيرًا أمرَ أُمَّهُ مريمَ بالسُّكوتِ، فقال - عزَّ من قائلٍ -: (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا)() - أي: صَمْتًا – (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)، وفي الجُملَةِ إذا نطقَ اللسانُ سكتَ القلبُ واستمعَ، وإذا سكتَ اللسانُ نطقَ [3/أ] القلبُ.

الرَّابع: دوامُ الصوم، قال [- عليه السلام – حكايةً عن الله -] تعالى -: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» [أخرجه البخاري في صحيحه (7492) ، ومسلم في صحيحه (1151)]، وقال [- عليه السلام –] : «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» [أخرجه البخاري في صحيحه (1894) ، ومسلم في صحيحه (1151)]، ولا بُدَّ للمجاهدِ مع النَّفسِ والشيطانِ من جُنَّةٍ لا تُصيبه سهامُ إبليسَ - لعنه الله -، ولأنَّ الصومَ يؤثِّرُ في تقليلِ الأجزاءِ الترابيَّةِ

والمائيَّةِ فيصفو قلبُهُ من الرَّين والغيْمِ والغَين، قال - عليه السلام –: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ»، وفي روايةٍ: «مِائَةَ مَرَّةٍ» [أخرجه مسلم في صحيحه (2702)]، فالرَّيْنُ للكُفَّارِ، قال اللهُ - تعالى -: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ، والغَيْمُ للمؤمنين، قال أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ: «يَا رَسُولَ اللهِ، كُنْتُ أَقْرَأُ اللَّيْلَةَ سُورَةَ الكَهْفِ، وَإِذَا سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِ رَأْسِي فِيهَا مِثْلُ المَصَابِيحِ، فقالَ عليه السَّلامُ -: «تِلْكَ السَّكِينَةُ»، وفي روايةٍ: «تِلْكَ المَلَائِكَةُ تَنَزَّلَتْ لِقِرَاءَتِكَ» [أخرجه البخاري في صحيحه (3614)، ومسلم في صحيحه (795)]، والغَيْنُ للأنبياءِ كما جاء في الحديثِ.

الخامسُ: دوامُ ذكرِ الله - تعالى – باللسان مع حضورِ القلبِ بالقُوَّةِ الشديدةِ من غير رفعِ الصوتِ به، بحيثُ يَدخُلُ أَثَرُهُ في العُروقِ والشَّرايينِ، فإنَّ الشيطانَ يَنْحَبِسُ عن ذِكْرِ اللهِ، وأفضلُ الذِّكْرِ (لا إلهَ إلا الله)؛ ولأنَّ النَّفْسَ قد استولتْ على القلبِ وادَّعَتْ الاستقلالَ، وعسكرُها الهوى والشهوةُ ووسوةُ الشيطان [3/ب]، فإذا قال العبدُ: (لا إلهَ إلا الله) وهي نفيٌ وإثباتٌ، فينوي به نفي الآلهة التي تدَّعي الرُّبوبيةَ وتظهر الألوهية من النفس والهوى والشهوة والشيطان، قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، وقال: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، ففي نفي العبدِ الذَّاكِرِ (لا إلهَ) نفيُ سُلطانِ هَوَى الأعداء، وفي إثباتِ العبدِ الذَّاكِرِ (إِلَّا اللهُ) إثباتُ سُلطانِ الحقِّ، وعسكرُهُ القلبُ والعِلمُ والقرآنُ والسُّنةُ والإلهامُ، فإذا ظهر سُلطانُ الحقِّ وعسكرُهُ خرجَ القلبُ من بِئْرِ الطبيعةِ إلى فضاءِ قُرْبِ الحقِّ، فيرى ما لا عَينٌ رأتْ، ويسمعُ ما لا أُذُنٌ سمعتْ، ويَخطُرُ عليه ما لا يَخطُرُ على قلبٍ غريقٍ في بحر الطَّبيعةِ، وإنما يخرجُ من بِئْرِ الطبيعة قلبٌ متمسِّكٌ بحبلِ القُرآنِ وذَيْلِ الذِّكْرِ، قال اللهُ - تعالى -:  (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا)، أي: بالقرآن والسُّنَّة، وقال: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال لرسوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، ولأنَّ الذِّكرَ يصعدُ بنفسه إلى الله - عزَّ وجلَّ – فقال اللهُ - تعالى -: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)، فمَن تمسَّكَ به فقد صعدَ من حضيضِ البُعدِ إلى عُلُوِّ القُرْبِ ويستحقُّ مناجاةَ القريب [4/أ]، قال اللهُ - تعالى -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، وقال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، وقال - تعالى-: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).ولأنَّ الذِّكرَ نورٌ، فإذا استولى الذِّكرُ على القلبِ تنوَّرَ القلبُ، وتنوَّرتْ عيناهُ، فيرى في الظُّلُماتِ ما لم يكن يرى مِن قبل ذلك، ولهذا إذا وقع الإنسانُ في سكرات الموت يرى ما لا يراهُ الحاضرُ معه، قال [اللهُ] - تعالى -: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)، فإذا داومَ العبدُ على الذِّكْرِ صارَ العبدُ وليًّا لله - تعالى -، ويكونُ اللهُ وليَّهُ فيُخرجه من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، قال اللهُ – تعالى -:  (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)، وكذلك قال اللهُ - تعالى -: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). 

وفيه إشارةٌ إلى أن يَذكُرَ العبدُ بقوَّةٍ شديدةٍ؛ لأنه ذكرَ القلوبَ بصِفَةِ القَسْوَةِ، والقَسْوَةُ صفةُ الحَجَرِ، قال [اللهُ] - تعالى -: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)، والحَجَرُ إذا كانَ قاسيًا لا ينكسرُ إلَّا بضربٍ شديدٍ بِالمِعْوَلِ القَوِيِّ، فالحَجَرُ القَلْبُ، والمِعْوَلُ اللِّسَانُ الذَّاكِرُ، والحَدِيدُ الذِّكْرُ، وجمعَ اللهُ تعالى في كتابه بين الحديدِ والذِّكْرِ بلفظِ التنزيلِ [4/ب] والإنزالِ، فقالَ [- عَزَّ مِن قائلٍ -]: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، وقالَ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فعلى هذا التقريبِ إذا اتَّصَلَ الذِّكْرُ بالقلبِ انْقَدَحَتْ منهما نارٌ، فتحرِقُ الحُجُبَ وتَرْفَعُها إلى الله - تعالى -، قال [اللهُ] - تعالى -: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ])، وقال - عليه السلام -: «إنَّ لله - تعالى – سبعينَ ألفَ حِجَابٍ من نُورٍ وظُلمَةٍ، ولو كَشَفَهَا لاخْتَرَقَتْ سُبُحَاتُ أَنْوَارِ وَجْهِهِ إلى تحتَ الثَّرَى»، وفي روايةٍ: «إلى ما انتَهَى بَصَرُهُ» [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (5802) بلفظ : «إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - دُونَ سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَمَا يَسْمَعُ مِنْ نَفْسٍ شَيْئًا مِنْ حِسِّ تِلْكَ الْحُجُبِ إِلَّا زَهَقَتْ»، وإسناده ضعيف]. 
السَّادِسُ: التسليم، ويدخُلُ في هذا البابِ الرِّضا والتَّفويضُ ومبادئُ التَّوكُّلِ، قال اللهُ - تعالى -: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقال [- تعالى -] في مدحِ الصَّحابَة - رضوان الله عليهم -: (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، وقالَ: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)، وقال - تعالى -: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا).ومن موجِباتِ التَّسليمِ الرِّضا بقَدَرِ الله المَقدورِ وقضائه المُبْرَمِ من الفَقْرِ والغِنَى، والحُزْنِ والخَوْفِ، والقَبْضِ والبَسْطِ، والأُنْسِ والهَيْبَةِ، والمعرفةِ والمحبَّة، والمَحْوِ والإثْبَاتِ، والحُضورِ والإِحْضَارِ، والشُّهودِ والإشْهَادِ، والبُعْدِ والإِبْعادِ، والقُرْبِ والتَّقريبِ، والصَّحْوِ والسُّكْرِ، والصَّبْرِ والشُّكْرِ، ومحوِ الأَثَرِ ومحوِ العَيْنِ ومحوِ الأَيْن [5/أ]، والمجاهدةِ والمشاهدةِ، والخُمودِ والجُمودِ والهُمُودِ، وبُدُوِّ المنازلِ التي نَسَجَتْ عليها العَنكبوتُ، والمنادمَةِ  والمُدَاوَمَةِ، والمُجالَسَةِ، والمُناجاةِ والمُجاوَرَةِ، والمُكاشفَةِ والمُحادَثَةِ، «وحدَّثَنِي قلبي عن ربِّي»، وتجلِّي الألواحِ التي عليها العلومُ اللَّدُنِّيَّةُ، والتَّجلِّي والتَّخلِّي، والعُبوديَّةِ والحُرِّيَّةِ، والخوفِ من العاقبةِ والسَّابقةِ، والعنايةِ الأزليَّةِ والكِفايةِ الأبَديَّةِ، وظهورِ شمسِ الغيبِ [من مَشرِقِ الهِدايةِ] التي يُقالُ لها: مقدم الغيب وشيخ الغيب وميزان الغيب، وشمس القلب وشمس الإيقان وشمس العِرفانِ وشمس الإيمانِ، وشمس الروح الرُّوحانية التي هي النفس الناطقة، ودهليز القلب الذي يطلع منه شواهد الصفات اللطيفية والجمالية والجلالية والعظمة والأحدية والقهر والغلبة والعزَّة والكمال، فيلتبس الستار بالزلزلة والتدكدك، وقُرِئَ في سِرِّهِ:  (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)، ويلوذُ بأذيالِ الرَّحمةِ والفضل والعطف من السواطع الرَّبَّانية واللوامع الوَحدانية التي تُنازِعُ الأرواحَ والأجسادَ، وكأنَّه قرأَ يومَ المَعادِ: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، وحينئذٍ تهربُ عساكرُ الشكوكِ والريب، وتنزلُ الملائكةُ [5/ب] حولَ القلبِ، وتمطرُ عليه سحائبُ الرحمة بقطراتِ النور، فيمتلئُ من الحُبورِ والسرور وما لا يعلمها إلا هو - سبحانه وتعالى -، وحينئذٍ يكلُّ السانُ عن وصفِ عَظَمَتِهِ وجلالِهِ وكبريائه، ويقرأ حينئذٍ بلسانِ قلبِهِ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ). 

السابع: نفي الخواطر، وهو أشدُّ شيءٍ على أرباب المجاهَدات، قال اللهُ - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)، وقُرِئَ: (طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ)، وقال [اللهُ] - تعالى -: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا)، وقال [اللهُ - تعالى -]: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)، وقال حكايةً عن يَعقوبَ - عليه السلام -: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ [أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ])، وقال [ - تعالى - ] في قصَّة يوسف - عليه السلام -: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ])، وقال - تعالى -: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، وقال [اللهُ - تعالى -]: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)، وقال: ([ثُمَّ] لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ [وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ])، وقال: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)، وقال [- عَزَّ مِن قائلٍ -]: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)، وقال [- تعالى - ]حكايةً عن كليمِهِ موسى - عليه السلامُ -: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، إلى غير ذلكَ من الآيات الدالَّةِ على وساوس الشيطانِ وهواجسِ النفوس [6/أ]. 

وأخبارُ الرسول - عليه السلام – الصحيحةُ تدلُّ على ذلك أيضًا، كقوله [- عليه السلام-]: «إنَّ الشَّيطانَ لَيَجْرِي مِن ابنِ آدمَ مجرى الدَّمِ، فخَشِيتُ أن يَقذِفَ في قلوبكم شيئًا» [أخرجه البخاري في صحيحه (6219)، ومسلم في صحيحه (2175)]، وكقوله - عليه السلام -: «إنَّ الشَّيطانَ إذا سمع الأَذانَ أدْبَرَ وله حُصَاصٌ، فإذا قُضِيَ التَّأذِينُ أقبلَ ... الحديث»، إلى قوله: «يقولُ له: اذْكُرْ كذا، اذْكُرْ كذا، لِمَا لم يكنْ يَذْكُر، حَتَّى يضلَّ الرجل لا يدريَ كَمْ صَلَّى» [أخرجه البخاري في صحيحه (1222)، ومسلم في صحيحه (389)]، وكقوله - عليه السلام -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَفِرُّ عَنْ ظِلِّ عُمَرَ» - رضي اللهُ عنه - [أخرجه الترمذي في سننه (3690 ) بلفظ «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ» . وقال الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ]، وكقوله [- عليه السلام -]: «تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، فَذَعَتُّهُ [أي: خَنَقْتُهُ] وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: ([رَبِّ] هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)، فَتَرَكْتُهُ خَاسِئًا» [أخرجه البخاري في صحيحه (461)، ومسلم في صحيحه (541)]، وقال [- عليه السلام -]: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَيُولَدُ مَعَهُ قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ، فقالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» [أخرجه مسلم في صحيحه (2814)]، إلى غيرِ ذلكَ مِن الأحاديثِ. 

وآثارُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ - رضي اللهُ عنهم [أجمعين] – تدلُّ على ذلكَ - أيضًا -، قالَ عبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً [أي: ما يقعُ في القلب بواسطة الشيطان، وتسمَّى وسوسةً]، وَلِلْمَلِكِ لَمَّةً [أي: ما يقعُ في القلب بواسطة الملَك، وتسمَّى إلهامًا] ، فَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَلَمَّةُ الْمَلِكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ» [أخرجه الترمذي في سننه (2988) وقال : «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ»]، يؤيِّدُ قولَ ابنِ مسعودٍ [- رضي الله عنه –] قَوْلُهُ - تعالى -: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [6/ب] وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا).

والمقصودُ أنَّ الخواطرَ خمسةٌ لا سادِسَ لها:
أوَّلُها: خاطِرُ الحقِّ - سُبحانَه [وتعالى] -، وهو الخاطِرُ الأوَّلُ، ومعنى قولِنَا: (الخاطر الأوَّل): أن لا يكونَ له سببٌ سابقٌ، فيكون الخاطرُ مضافًا إليه وحُكمًا له، بل يقعُ في القلبِ من غيرِ سببٍ سابقٍ، فهو  خاطِرُ الحقِّ - سُبحانَه [وتعالى] -.  
 

وهو على نوعَيْنِ: 


نوعٍ تُعارِضُهُ الخواطِرُ في اليَقَظَةِ، لكنْ لا تُزْعِجُهُ ولا تُزَعْزِعُهُ ولا تُحَرِّكُهُ ولا تَنْفِيهِ، بلْ يَبْقَى في القلبِ مُطْمَئِّنًا أبدًا.
ونوعٍ يُقالُ له: الإلهامُ، وهو حقٌّ، وخاطِرُ الحقِّ، قال اللهُ - سُبْحانَهُ -: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا). 
وحقيقةُ الإلهامِ: خَلْقُ اللهِ - تعالى – عِلْمًا في القلبِ المُلْهَمِ، لا يَقْدِرُ الشيطانُ على خَلْقِ شيءٍ ما، فضلًا عن أن يَخْلُقَ عِلْمًا في القلبِ، قال - عليه السلام -: «إنَّ الشيطانَ يضَعُ خُرْطُومَهُ على قلبِ ابنِ آدَمَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ تَعالَى – خَنَسَ» [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (34774) عن ابن عباس موقوفًا]، وكذلِكَ قالَ [اللهُ] - تعالى -: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ). 

والثَّاني: خاطرُ القَلْبِ، وإنَّما يُعْتَبَرُ خاطِرُ القلبِ إذا سَلِمَ القَلْبُ مِن استيلاءِ الشَّيْطَانِ وهوَاجسِ النَّفْسِ، وهُذِّبَ بمُشاهَدَةِ جمالِ الحقِّ وجلالِهِ، ونفَى من الخِصَالِ الذَّميمةِ الدَّنِيَّةِ والذُّنوبِ التي تَرِينُ عليه كما تَرِينُ على قُلوبِ الكُفَّارِ، وقال الله - تعالى – في صفة قلوب الكفار: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى [7/1] قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقال في صفة قلوب المؤمنين: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، وقال [اللهُ] - تعالى -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، وقال [اللهُ] - تعالى -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، وقال اللهُ - تعالى -: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، وقال - عليهِ السَّلامُ – لِوَابِصَةَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ وَأَفْتَوْكَ» [أخرجه أحمد في مسنده (17999) والدارمي في سننه (2575) وإسناده ضعيف لانقطاعه]، وقال - عليهِ السَّلامُ –: «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» [أخرجه الترمذي في سننه (2518) وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ]. 

فخاطِرُ القلبِ علامتُهُ أن تَطْمَئِنَّ النَّفْسُ والقلبُ معه والجَوارِحُ عندَهُ، فلا يَعْتَرِضُ قَلْبُهُ كائنًا ما كانَ، بل يَسْتَسْلِمُ لذلِكَ ويَسْتَرْشِدُ ويَسْتَرْسِلُ ويَنْطْلَقُ من قُيُودِ الشَّكِّ والرَّيبِ.  

والثَّالِثُ: خاطِرُ المَلَكِ، وتَنزِلُ معه السَّكِينَةُ، قال اللهُ - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)، قيل: السَّكينةُ رِيحٌ هَفَّافَةٌ، وقيلَ: لها رأسٌ كرأسِ الهِرَّةِ، وقيلَ: السَّكِينَةُ جَمْعٌ من المَلائِكَةِ، وهذا الخاطِرُ قريبٌ من خَاطِرِ القلبِ، إلَّا أنَّ بينهما فَرْقًا دقيقًا، نطقَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ، قال الصَّحابِيُّ [– هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما -]: «كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلَّمَ – جَوَادًا، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ لِيُعَارِضَهُ القُرْآنَ كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» [7/ب] [أخرجه البخاري في صحيحه (1902)، ومسلم في صحيحه (2308)].

والرَّابِعُ: خاطِرُ الشَّيْطَانِ، فإنَّهُ يدعو إلى الضَّلالةِ، فَإِذَا دَعَا إلى الذَّنبِ وامْتَنَعَ المُجاهِدُ ونَفَى الخَاطِرَ دَعَاهُ إلى نوعٍ آخرَ من الذُّنُوبِ، وله لَطائِفُ عَجِيبَةٌ في الإِضْلَالِ، فيُضِلُّ كُلَّ وَاحِدٍ بحسبِ ما يَلِيقُ بِذَلِكَ، أمَّا الجُهَّالُ فيُضِلّهم بجَهالَتِهِمْ، وأمَّا العُلَماءُ والزُّهَّادُ فيُضلّهم من نوعٍ آخَرَ، أمَّا العالِمُ إذا أرادَ أن يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ فيأتيهِ ويَقُولُ: أَحَصَلَ لَكَ جميعُ أنواعِ العلومِ حتَّى اشْتَغَلْتَ بالعملِ؟ فَهَلَّا عَمِلْتَ بِقَوْلِهِ – عليه السلامُ -: «لَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» [أخرجه الترمذي في سننه (2681)، وقال : «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ»]، ويَقْرأُ عليه قَولَهُ - تعالى-: (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، وقولَهُ [- تعالى -]: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، والنَّفْسُ تُوافِقُهُ فَتُمَنِّي صاحِبَها وتَقُولُ: الأيَّامُ والأعوامُ كثيرةٌ، فتَعَلَّمِ الآنَ وعَسَى أن تَعْمَلَ بذلِكَ في آخرِ عُمُرِكَ، إلى أن تأتيه المَنِيَّةُ فَجْأَةً.  
قال الشَّيْخُ – رَحِمَهُ اللهُ -: إِنِّي كنتُ أُجاهِدُ في اللهِ فجاءَ لِيُشَوِّشَ عليَّ الخَلْوَةَ والمُجاهَدَةَ، فقالَ: إِنَّكَ رَجُلٌ عالِمٌ مُتَّبِعٌ آثَارَ رَسُولِ اللهِ [- صلى الله عليه وسلَّمَ –] فَلَوِ اشْتَغَلْتَ الآنَ بِطَلَبِ الآثارِ عن المَشايِخِ الحُفَّاظِ وأحاديثِ الرَّسُولِ [- عليه السلامُ –] كانَ خَيْرًا لكَ مِنْ هَذَا، ولو بَقِيتَ في المُجاهَدَةِ تُفَوِّتُ عليكَ المَشايِخَ الكِبارَ وإسْنادَهُمُ العالي، فكِدتُ أنْ أَزِيغَ بِوَسْوَسَتِهِ، فَهَتَفَ بي هَاتِفٌ [8/1]:

وَمَنْ يَسْمَعِ الْأَخْبَارَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَهْ    
حَـــــــرَامٌ عَلَيْـــــــــهِ سَمْعُهَــا بِوَسَــائِطِ

وتَذَكَّرْتُ قولَ الشيخِ محمَّد بن الحُسَينِ السلميِّ في آخِرِ عُمُرِهِ: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ، عُلُوُّ الإِسْنَادِ مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا»، فعلمتُ أنَّ هذا الخاطِرَ مِن وَساوِسِهِ، فَنَفَيْتُهُ وانْتَهَيْتُ، فَانتقلَ إلى وَسْوَسَةٍ أُخْرَى، فقالَ: «ما أحسنَ ما تعرفُ حِيَلِي ووَسْوَاسِي، فَلَوْ جَمَعْتَهَا وجَعَلْتَهَا كِتَابًا سَمَّيْتَهُ (كِتَابَ حِيَلِ المَرِيدِ عَلَى المُرِيدِ) كانَ ذُخْرًا لكَ في الدُّنيا والآخِرَةِ، يَسْتَمْسِكُ به الطَّالِبونَ لله - تعالى – وينجون به من مكائدِ الشَّيطان وحِيَلِهِ»، وههمتُ بذلكَ وبِجَمْعِهَا، فَنَبَّهَنِي الشَّيخُ - رحمه الله – أنَّ هذا أيضًا من مَكائدِهِ وحِيَلِهِ؛ لِيَقْطَعَ عليكَ الوَقْتَ والأُنْسَ والذِّكْرَ وجمعيَّةَ القلبِ، فانتَبَهْتُ وانْتَهَيْتُ.
فالحاصِلُ أنَّ الخَواطِرَ تأتي على المجاهِدِ كَسَيْلِ العَرِمِ، فالواجِبُ عليه في الأَوَّلِ وبِدايَةِ أَمْرِهِ النَّفْيُ، وفي آخِرِ أمرِهِ التَّميِيزُ بينَ الخَواطِرِ. 

والخَامِسُ: خَاطِرُ النَّفْسِ، وهُوَ بمنزلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لا عَقْلَ له ولا تَمْيِيزَ، فَيَشْتَهِي الشَّيْءَ فَيَسْتَدْعِيهِ، ولا يَرضَى إلَّا بتحصيلِ ذلكَ الشَّيْءِ، كالصَّبِيِّ إذا أرادَ اللَّعِبَ بالكِعَابِ [8/ب] أو بالجَوْزِ مع الصِّبْيَانِ، فإذا دُفِعَ إليه أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ لا يَرضى بذلك بدلًا عَن اللعِبِ بالكِعَابِ والجَوْزِ، وهذا الخاطِرُ أشدُّ الخواطِرِ على المُرِيدِينَ؛ لأنَّ النَّفْسَ كَالمَلِكِ في داخِلِ الإنْسَانِ، وعَسْكَرُهُ الرُّوحُ الحَيَوانِيُّ والبشريَّةُ والطَّبيعةُ والهوى والشَّهوة، وهي في نَفْسِها عَمْيَاءُ لا تُبْصِرُ المَهالِكَ، ولا تُمَيِّزُ الخيرَ من الشَّرِّ، إلَّا أنْ يُنَوِّرَ اللهُ - تعالى - بَصِيرَتَها بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ، وجَمِيلِ صُنْعِهِ، وواسِعِ رَحْمَتِهِ، فَتُبْصِرُ الأَعْدَاءَ والمَعارِفَ، فَتَجِدُ البُنْيَانَ الإِنْسَانِيَّ مَمْلُوءًا مِن خَنَازِيرِ الحِرْصِ، وتَكَالُبِ الكَلْبِ، ونَمِرِ الغَضَبِ، وبَلَادَةِ الشُّحِّ، والشَّهْوَةِ الحِمَارِيَّةِ، ونَهمَةِ الثِّيرَانِ، وحِيلَةِ الشَّيْطَانِ، ونِيرَانِ الحَسَدِ، فعندَ ذَلِكَ تَصِيرُ لَوَّامَةً تَلُومُ نَفْسَهَا على الصَّبْرِ بالسُّكْنَى والأَمْنِ مَعَ هَؤُلاءِ الأَعْدَاءِ، فَتَحْتَالُ حينئذٍ في إِخْرَاجِها وقَلْعِهَا مِن داخِلِ البُنْيَانِ، فإذا فَرَغَتْ مِن إِخْراجِها، وكَنَسَتِ البيْتَ من رَذائِلِها وَزَيَّنَتْهُ بِشُعَبِ الإِيمَانِ البِضْعَةِ والسِّتِّينَ في روايةٍ، أو البِضْعَةِ والسَّبْعِينَ في روايةٍ، فتصيرُ عند ذلكَ مُزَيَّنَةً مُطْمَئِنَّةً، فذلكَ قَوْلُهُ - تَعالَى -: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ [9/1] رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي).وهذه النَّفْسُ لَيْسَتْ شيئًا آخَرَ، بل هيَ القَلْبُ، لكنْ لها أحوالٌ ثلاثَةٌ، ففي الحالةِ الأُولى: نَفْسٌ أمَّارَةٌ بالسُّوءِ، وفي الحالةِ الثَّانيةِ: نفْسٌ لوَّامةٌ كما بيَّنَّاهُ، وفي الحالةِ الثَّالِثَةِ: حالةُ الاستقامةِ والتَّمكينِ حِينَ طُلُوعِ شمسِ اليَقِينِ، وحينئذٍ نُسَمِّيهِ قَلْبًا. 

وإنَّما أَمَرْنَا المُرِيدَ في الابتداءِ بنَفْيِ الخواطرِ جميعًا؛ لأنَّهُ دَخِيلٌ في الطَّرِيقَةِ ليسَ له أهْلِيَّةٌ أن يُمَيِّزَ بينَ الخَوَاطِرِ، فَطَرِيقُ تَمْيِيزِهِ أن يَنْفِيَ الخَوَاطِرِ جَمِيعًا، فمَا كانَ محمودًا كخاطِرِ الحقِّ والمَلكِ والقَلْبِ، فَيَثْبُتُ ولا يَنْتَفِي بِنَفْيِهِ، وما كانَ من الشَّيْطَانِ أو النَّفْسِ فَيَنْتَفِي، قالَ اللهُ - تعالَى -: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ).  

والثَّامِنُ: رَبْطُ القَلْبِ بِالشَّيْخِ لأنَّهُ رَفِيقٌ في الطَّرِيقِ، قالَ اللهُ - تَعالَى -: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، وقالَ - عليهِ السَّلامُ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» [أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1760) وقال:«هَذَا إِسْنَادٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْحَارِثَ بْنَ غُصَيْنٍ مَجْهُولٌ»]، وقالَ - عليهِ السَّلامُ -: «اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» [- رَضِيَ اللهُ عنهما –] [أخرجه الترمذي في سننه (3799) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ]، وقالَ - عليهِ السَّلامُ -: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبْتِ النُّجُومُ أَتَى أَهْلَ السَّمَاءِ مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أَهْلَ الْأَرْضِ [9/ب] مَا يُوعَدُونَ» [أخرجه مسلم في صحيحه (2531)]، وقال اللهُ - تعالى – حكايةً عن نبيِّهِ موسى وولِيِّهِ الخضرِ - عَلَيْهِمَا السَّلامُ -: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، فالشَّيْخُ هو الَّذِي سَلَكَ طريقَ الحَقِّ، وعَرَفَ فيها المَخَاوِفَ والمَهالِكَ، فيُرْشِدُ المُرِيدَ ويُنَبِّهُهُ في الأَحْيَانِ والمَنازِلِ والمَقَاماتِ والأَحْوالِ، ويُشِيرُ عليهِ بما يَنْفَعُهُ وما يَضُرُّهُ، ولَا يَكُونُ الشَّيْخُ وصُحْبَتُهُ أَقَلَّ مِنَ الجَلِيسِ الصَّالِحِ كما جاءَ في الحَدِيثِ: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ الْعَطَّارِ، إِنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْرِهِ عَبَقَ بِكَ رَائِحَتُهُ ، وَمَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ الْقَيْنِ إِنْ لَمْ تَحْرِقْكَ نَارُهُ عَبَقَ بِكَ دُخَانُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ» [أخرجه البخاري في صحيحه (2101)، ومسلم في صحيحه (2628)].

ومن الأَوْلِيَاءِ مَن يُوصلُهُ الحَقُّ - تَعالى - إلى دَرَجاتِ اليَقِينِ بالجَذْبِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ - أَيْضًا – جائِزٌ، ولكِنْ لا يَصْلُحُ مِثْلُ هذا الرَّجُلِ لِإِرْشَادِ الخَلْقِ؛ لأنَّهُ وَاصَلَ اللهَ - تعالى - بِغَيْرِ عَمَلٍ واجْتِهَادٍ، والَّذِي يَصْلُحُ لإرْشَادِ الخَلْقِ شَيْخٌ سَالِكٌ سَلَكَ الطَّرِيقَ فَعَرَفَ مَضَارَّهَا ومَنَافِعَهَا، والمَنازِلَ والمَقامَاتِ، والأَحْوالَ في الكَرَاماتِ، وحَظِيَ بالمُشاهَدَاتِ بِواسِطَةِ المُجاهَدَاتِ. 

التَّاسِعُ: النَّوْمُ مِنْ غَلَبَةٍ، وحَدُّ الغَلَبَةِ: أَنْ يَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [10/أ]، فَحِينَئِذٍ يَنَامُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ ويَعْرِفَ ما يَقُولُ ويَذْكُرُ، قالَ اللهُ - تعالى -: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، وقال: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)، [وقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)()]، وقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ)، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى])، وقال: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً)، والإشارةُ فيه بتخصيصِ اللَّيْلَةِ دونَ النَّهارِ بمُجانَبَةِ النَّوْمِ؛ لأنَّ مَنْ يَنْتَظِرُ الوَعْدَ لا يَنَامُ، وقالَ [اللهُ] - تعالَى -: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ])، وقالَ - عليه السلام -: «وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» [أخرجه الترمذي في سننه (2485)، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ»]، ولِأنَّ النَّوْمَ رَاحَةُ البَدَنِ والمُجاهَدَة إِتْعَابُ البَدَنِ، فَيَتَضَادَّانِ، وحقيقةُ النَّوْمِ سَدُّ حَوَاسِّ الظَّاهِرِ لِفَتْحِ حَوَاسِّ القَلْبِ، وفَتْحِ حَوَاسِّ القَلْبِ لِتَنْسَدَّ حَوَاسُّ الظَّاهِر. 

والحكمةُ في النَّوْمِ أنَّ الرُّوحَ القُدْسِيَّ واللَّطِيفَةَ الرَّبَّانِيَّةَ أو النَّفْسَ النَّاطِقَةَ غَرِيبَةٌ في هذا الجِسْمِ السُّفْلِيِّ، مَشْغُولَةٌ بِإِصْلَاحِهِ وجَلْبِ مَنافِعِهِ ودَفْعِ مَضَارِّهِ، مَحْبُوسَةٌ فيه ما دَامَ المَرْءُ يَقْظَانَ، فإذا نامَ ذَهَبَ إلى مَكْمَنِهِ الأَصْلِيِّ، ومَعْدِنِهِ اللَّدُنِّيِّ، فيَسْتَرِيحُ بواسطةِ لقى الأرْوَاحِ، ومعرفَةِ المعاني والغُيُوبِ، فما يَلْقَى في حينِ ذَهابِهِ إلى عالمِ الملكوتِ من المعاني يَراها [10/ب] بالأمْثِلَةِ في عالَمِ الشَّهادةِ، وهو السِّرُّ في تعبيرِ الرُّؤْيَا، فإذا هَجَرَ المُجاهِدُ النَّوْمَ والاستراحَةَ ذابَتْ عليهِ أَجْزَاءُ الأرْكانِ الأربعةِ من التُّرابِيَّةِ والمائِيَّةِ والنَّارِيَّةِ والهَوائِيَّةِ، فَيَعْرَى القَلْبُ عَنِ الحُجُبِ، فحينئذٍ ينظُرُ إلى عالم الملكوتِ بعينَيْ قلبِهِ، ويَشْتاقُ إلى رَبِّهِ.

العاشِرُ: المُحافَظَةُ على الأمرِ الوَسَطِ في الطَّعامِ والشَّرابِ، لا فَوْقَ الشِّبَعِ ولا الجوع المُفْرِط، قال اللهُ - تعالى -: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)، وقال [الله] - تعالى -: ([وَالَّذِينَ] إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، فخيرُ الأُمورِ أوْسَاطُها، وكِلا الطَّرفينِ مذمومٌ.

وقالَ - عليهِ السَّلامُ -: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَاءٍ وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأَكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» [أخرجه البخاري في صحيحه (5393)، ومسلم في صحيحه (2060)]، وقالَ - عليهِ السَّلامُ -: «ثُلُثُ لِطَعَامٍ ، وَثُلُثٌ لِشَرَابٍ، وَثُلُثٌ لِنَفَسٍ» [أخرجه الترمذي في سننه (2380) وقال : «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»]، وذَمَّ أَقوامًا بِكَثْرَةِ الأَكْلِ، فقالَ [- تعالى -]: ([وَالَّذِينَ كَفَرُوا] يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ [وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ])، وقالَ: (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ)، وقالَ - عليهِ السَّلامُ -: «إِذَا سَكَتَ كَلْبُ الْجُوعِ بِرَغِيفٍ وَكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَعَلَى الدُّنْيَا الدَّمَارُ» [أخرجه البيهقي في شُعَب الإيمان (9881)]، وقالَ - عليهِ السَّلامُ -: «أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا» [أخرجه الترمذي في سننه (2347)، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ»]، إلى غيرِ ذلكَ مِن الأَخْبَارِ الوارِدَةِ في هذا البابِ.

[و] سُئِلَ الشِّبْلِيُّ – رحمه اللهُ – عن اليَقِينِ فقالَ: «الجُوعُ الجُوعُ الجُوعُ»، وقال غيرُهُ: «الآفاتُ كُلُّها مجموعةٌ في الشِّبَعِ، والخَيْرَاتُ [11/أ] كلُّها مجموعةٌ في خلاء البَطْنِ»، يَشْهَدُ على صِحَّته قَوْلُهُ - عليهِ السَّلامُ -: «مَا مُلِئَ وِعَاءٌ شَرٌّ مِنْ بَطْنٍ» [أخرجه الترمذي في سننه (2380) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»].

فَآفاتُ الشِّبَعِ كَثِيرَةٌ، منها أنه يُقسي القلبَ، ويُغلِظُ الحُجُبَ، ويُظْلِمُ المُشاهَدَةَ، ويُورِثُ الكَسَلَ والبَطالَةَ [في مقامِ المُجاهَدةِ]، ويُنْقِصُ الطَّهارَةَ، وذلك يُوجِبُ اجْتِنابَ المَلائِكَةِ، وتَضْيِيعَ الأوقاتِ، وخَلاءَها عَن قِراءَةِ القُرْآنِ والصَّلاةِ، حتَّى قِيلَ لِرَجُلٍ مِن أصحابِ الوَرَعِ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى شُرْبِ السَّوِيقِ وَتَرْكِ الخُبْزِ ؟»، [والسَّوِيق: طعام من دقيق الشعير أو الحنطة المقلوّ، ووصفه بعض الأعراب بأنه: عُدَّةُ المسافر، وطعام العَجْلان، وبُلغَةُ المريض. (تاج العروس: س و ق)]، قَالَ: «بَيْنَ مَضْغِ الطَّعَامِ وَبَلْعِهِ قِرَاءَةُ كَذَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ - تعالى -» [ذكر هذه القصة شمس الدين السخاوي في المقاصد الحسنة ص166]، فانظُرْ كيفَ كانَ حِرْصُهم على عِمارَةِ العُمر العَزِيزِ.

وكانَ رَاعٍ مِن رُعاةِ الغَنَمِ يَرْعَى، فَاسْتَسْقَاهُ إِنْسَانٌ، فقالَ: «لَيْسَ عِنْدِي مَاءٌ»، فاسْتَدْعَى مِنْهُ لَبَنًا، فَحَلَبَ له في إِنَاءٍ فَشَرِبَ العَطْشَانُ، وفَضَلَ فَضْلَةٌ فَقَالَ: «أَمَا تَشْرَبُ أَنْتَ؟»، قالَ: «لَا، إِنِّي صَائِمٌ»، فَقَالَ: «كَيْفَ تُطِيقُ الصَّوْمَ فِي هَذَا اليَوْمِ الشَّدِيدِ الحَرِّ؟»، فَقَالَ: «أَدَعُ أَيَّامِي تَذْهَبُ ضَيَاعًا؟!».
رَزَقَكُمُ اللهُ بَصِيرَةً نافِذَةً وَإِيَّانَا، بِرَحْمَتِهِ، والله الهادي.

تمت الرسالةُ في يوم السَّبت، الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 686هـ.

خاتمة نسخة الأزهرية:
رَزَقَكُمُ اللهُ بَصِيرَةً نافِذَةً وَإِيَّانَا، بِرَحْمَتِهِ وجُودِهِ، إِنَّهُ الجَوَادُ الكَرِيمُ، الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ، والحمدُ لله وكَفَى، وصَلَواتُهُ وسَلامُهُ على نَبِيِّهِ محمَّدٍ المُصْطَفَى، ثُمَّ على عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.
تَمَّ في العَشْرِ الأُوَلِ مِنْ جُمادَى الآخِرِ سنة 839هـ.
رَبِّ اخْتِمْ لِكَاتِبِهِ ولِصَاحِبِهِ بِالحُسْنَى. آمِينَ.
ولِكَافَّةِ المُسْلِمِينَ.