عاجل

اللغة العربية تنتعش

من توابيت المجمع اللغوي إلى حياة «الفيس بوك»

من توابيت المجمع اللغوى إلى حياة الفيسبوك
من توابيت المجمع اللغوى إلى حياة الفيسبوك

كتب : أحمد عبد اللطيف

لم تجد اللغة العربية في مصر، على الأقل فى العقود الأربعة الأخيرة، اهتمامًا بصحة استخدامها وكتابتها على المستوى الشعبي، كما وجدته فى السنوات الأخيرة. فاللغة الرسمية للدولة، وعلى مدار سنوات طويلة، ظلت تعاني من أخطاء كتابية فادحة، حتى في المرسومات الحكومية نفسها، مثّل الخلط فى الهاء المربوطة والتاء المربوطة والذال والزاى نصيب الأسد فى هذه الأخطاء، ربما يكون الخطأ الأكثر شيوعًا بين فئات المجتمع، بالإضافة إلى أخطاء أخرى معتادة فى النحو، تزداد صعوبتها بحسب طبيعة النص المكتوب. 

الأخطاء في الكتابة الصحفية، وبالأخص الأخبار المنشورة في الصحف الإليكترونية، أحد أسباب السخرية من الصحف وكاتب الخبر، ما يعتبر دليلًا على مستوى جودة الجريدة، والأخطاء في اللافتات أو المنشورات الحكومية مثيرة للسخرية، مع ذلك، كانت هذه الأخطاء محصورة في فئة المهن التى تمارس الكتابة، مثل الأدباء والمترجمين والصحفيين، وكان مكانها فى الكتب أو الصحف أو اللافتات، كانت ملفتة بالطبع، لكنها ظلت فى نطاق ضيق نسبيًا. هكذا تعايشنا لسنوات طوال مع أخطائنا بضمير مستريح.

مع تطور استخدام الإنترنت، وبالتحديد مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعى وخاصةً فيسبوك، انكشفت عوراتنا. لم تعد الكتابة وظيفة الكتاب والصحفيين، إنما وظيفة الجميع. من حق كل مواطن كتابة بوست ومن حق الأصدقاء والمتابعين كتابة تعليقات. فصار الخطأ من حق الجميع وفى العلن. ربما كانت مرحلة البلوجات هى الفترة الانتقالية من لغة الكتاب إلى اللغة الشعبية، مرحلة وسطى بينهما، لكننا لا زلنا نتحدث على نطاق ضيق اتسع قليلًا، بعكس الملايين من مستخدمى فيسبوك، وتنوع فئاتهم الاجتماعية والثقافية. 

الأخطاء الكثيرة واللافتة فى الكتابة، سواء فى الإملاء أو فى تراكيب الجمل، كانت سببًا رئيسيًا فى ظهور صفحات على فيسبوك يديرها مصححون ومحررون تستهدف تصحيح الكتابة، وتعليم اللغة العربية، وربما السخرية أيضًا من الكتابة الخاطئة. من أهم هذه الصفحات مبادرة «نحو وصرف”، ومؤسسها محمود عبد الرزاق جمعة، و”اكتب صح”، حسام مصطفى إبراهيم، بالإضافة إلى صفحات أخرى مثل «كبسولات لغوية”. ظهور هذه الصفحات، ونسبة المعجبين بها والمتابعين لها، دليل على اهتمام قطاع لا بأس به باللغة العربية الصحيحة، وفى نفس الوقت إشارة إلى تقصير ما فى أداء الجهات الرسمية المختصة باللغة العربية، مثل المجمع اللغوي. لكن التقصير لا يجب أن يكون لقلة الاهتمام، وإنما لاختلاف الوسيلة. لقد أصبحنا فى لحظة زمنية انقسم فيها العالم إلى نصفين، داخل الفيسبوك وخارجه، فى الداخل حياة وحركة واحتكاك مباشر بالجديد وبالأخبار، وفى الخارج حياة قديمة وتقليدية، أو هكذا ينظر إليها من بالداخل. لذلك، فما يحدث بالخارج يحتاج إلى إدخاله الفيسبوك ليكتسب هذه الحياة.

تجربة «اكتب صح» تجربة مشرقة، أفادت القراء والمتابعين، منذ بدايتها فى عام 2013. يقول حسام مصطفى إبراهيم» حينها كنت أعمل محرّر ديسك، ولاحظتُ فداحة الأخطاء التى يرتكبها زملائى الصحفيون، وعندما كنت أشرح لهم القاعدة بأسلوب عصرى وأمثلة من حياتنا اليومية، يستوعبون، ما جعلنى أدرك أن المشكلة ليست فى اللغة، إنما فى طريقة تقديمها، وترتيب دروسها، وربطها بعصرنا”. هذه الملحوظة الهامة عن عدم صعوبة اللغة وإنما صعوبة توصيلها، دفعت حسام إلى مكان تجمّع الناس، وكان هذا المكان بكلام حسام، هو السوشال ميديا. يقول المصحح والمحرر: «على فيسبوك أنشأت صفحة اكتب صح التى حققت فى غضون أيام قليلة انتشارًا فاق توقعاتى، ما جعلنى أتأكد أكثر أننى وضعتُ يدى على سلعة يحتاج إليها الناس، وبدأت أنشط أكثر على الصفحة، فأنشر صورًا من أخطاء عناوين الصحف والقنوات التليفزيونية ومنشورات فيسبوك، وأستخدم الكوميكس ومقاطع الفيديو القصيرة، وأحرص على إجابة أسئلة القراء التى كانت تدل على تطور الوعى تدريجيًا باستخدامات اللغة وتكشف نهمهم إلى درجة أعلى من المعرفة بالقواعد، فكنت أوازن بين ما أقدّمه لمبتدئ باللغة مُستكشفٍ لها وراغبٍ فى التبحّر فيها وسبر غورها».
تجربة محمود عبد الرازق جمعة، المشرقة أيضًا، فى الاهتمام باللغة العربية والإمساك بأخطائها الشائعة والانشغال بتجنبها، بدأت منذ عام ٢٠٠٨. حينها ألّف كتاب «الأخطاء اللغوية الشائعة فى الأوساط الثقافية”، الذى صدر حتى الآن فى ثمانى طبعات، عن شرقيات والمجلس الأعلى للثقافة ومكتبة الأسرة وبتانة. ثم فى ٢٠١٦ أنشأ صفحة «نحو وصرف» على فيسبوك، وتجاوز متابعوها ٧٧٠ ألف شخص.

يقول عبد الرازق عن أهمية وجود صفحة على الفيسبوك مخصصة للغة: «إنشاء الصفحة كان هدفه نشر المعلومات اللغوية فى نطاق أكثر اتساعًا من نطاق الكتب، لأن الكتاب يشتريه عدة آلاف، لكن صفحات مواقع التواصل الاجتماعى يتابعها آلاف، أو عشرات الآلاف، أو مئات الآلاف، وبعض الصفحات يتابعها ملايين. فأنشأتها، وحاولت أن أسبغ عليها طابعًا مغايرًا للصفحات الموجودة، والحمد لله تجاوزت غيرها من الصفحات القديمة، ربما بسبب محاولة الربط فيها بين اللغة العربية والواقع المعيش (سياسيًّا وثقافيًّا ودينيًّا ورياضيًّا وفنيًّا).

حسام مصطفى إبراهيم

بالعودة للسؤال الأول عن الاهتمام الجديد باللغة العربية وتصويب الأخطاء، يقول عبد الرازق: «هذا نتاج سنين متتالية من الحراك اللغوي، الذى كان يُواجَه فى البداية بالسخرية، حتى إن السخرية منه كانت سببًا أصيلًا فى انتشاره، فالناس يسخرون من الاهتمام بكسرة وفتحة وضمة، فى وقت يعانى فيه العالم ويلات حروب وأوبئة ومجاعات، وأزمات اقتصادية وسياسية طاحنة أدت هذه السخرية إلى انتشار ما يُسخَر منه، ومع الوقت بدأ لُبّ الأمر يظهَر ويُرَى ويلقى شيئًا من الاهتمام، خصوصًا مع تزايد عدد الكُتَّاب والقراء، فأصبح الكاتب يسعى ليكون كتابه خاليًا من الأخطاء، والقارئ يسعى لقراءة مادة صحيحة لغويًّا لا تُفسِد عليه متعة القراءة».

لكن محمود عبد الرازق، المحرر والمصحح، يرى سببًا إضافيًا، «الحالة النقدية العامة لدى الناس، فأنت حين تسمع خطيبًا دينيًّا، أو زعيمًا قوميًّا، أو قائدًا سياسيًّا، يتكلم فلا تستقيم له عبارة، تنفر بدرجةٍ ما من كلامه. ويتصاعد هذا النفور إذا كنت معارضًا للمتكلم».

حسام مصطفى يرى أيضًا أن النقد كان سببًا فى الالتفات للأخطاء، يقول: «هناك طلب متزايد على إتقان العربية إما لتجنّب السخرية مما يرتكبون من أخطاء، أو رغبة فى تحقيق الصواب اللغوي، أو حبًا فى العربية وإرادة إتقانها”، ويرى أن هذا الحراك عظيم فى ذاته أيًا كانت دوافعه.

الطريق إلى الإنترنت

يشير حسام مصطفى إبراهيم إلى واقع اللغة العربية اليوم مقارنة بما كان عليه منذ سنوات،

ويرجع الفضل إلى توغّل السوشيال ميديا فى حياتنا أكثر، وظهور عديد من المبادرات اللغوية مثل نحو وصرف وصحح لغتك وكبسولات لغوية واكتب صح، «هذا الحراك لفت أنظار الناس بقوة للقضية،

وأمدَّهم بزادٍ عصريّ من المعلومات، فالإلحاح له فعل السحر فى النفوس كما تعرف”.

لذلك، أراد حسام مصطفى «امتلاك وسائل أكثر قوة وديمومة للتواصل مع محبى العربية، فأنشأت موقع اكتب صح على الشبكة العنكبوتية، وبدأت أنشر فيه مقالات أطول، وأوفّر تدريبات عملية أكثر، كما أطلقت عبره مدققًا لغويًا، ومجموعة من الموسوعات التفاعلية التى توفر رصيدًا هائلًا متجددًا من المعلومات اللغوية والأخطاء الشائعة”. استمر جهد حسام مصطفى فى استغلال التكنولوجيا الجديدة للوصول إلى أكبر قدر ممكن من الناس، فأطلق قناة اكتب صح على يوتيوب، من أجلها «تعلّمتُ فنون التصوير والمونتاج والأداء الصوتي، وأعددتُ مجموعة من الفيديوهات القصيرة التى تتناول مواضيع أساسية فى الكتابة الإملائية والقواعد النحوية، ولا أزال أحدِّثها لليوم”.
طموح حسام لا يتوقف، هدفه الواضح تعليم اللغة العربية، لذلك «أنا بصدد إطلاق لعبة لغوية تفاعلية مبتكرة، لتعليم اللغة العربية من سن 10 سنوات حتى سبعين، أعكف على تصميمها منذ سنوات، وحان الوقت لترى النور، وأحسب أنها ستغير من طريقة التعاطى مع علوم العربية تمامًا وتطرح مفهومًا جديدًا للتعلم باللعب”.

فى نفس الإطار، يشير محمود عبد الرازق إلى فائدة التكنولوجيا الجديدة على مستوى آخر، أى المعاجم الإلكترونية، يقول: «المعاجم الإلكترونية عنصر أصيل من عناصر الاهتمام باللغة، فقبلها كان من الصعب التيقُّن من الصواب إلا لمن لديه معجم ورقى، ومع انتشارها أصبح من السهل التأكد من المعلومة، أو مقارنة المعلومات ومقارنة معانى الكلمات واستعمالاتها بين المعاجم، والمقارنة بين نصوص المعاجم الأصيلة (كلسان العرب ومختار الصحاح وتاج العروس) والمعاجم الحديثة التى تجمع كثيرًا من المعانى والاستعمالات من ألسنة العامة (كاللغة العربية المعاصرة، والغني، وعربى عامة).

بالإشارة إلى المعاجم الالكترونية، تذكر عبد الرازق دور مجمع اللغة العربية الرائد فى إنشاء المعاجم، يقول: «لقد أنشأ المعجمَين الوسيط والوجيز، تلخيصًا للمعاجم الطويلة الضخمة التى أصبح من الصعب اقتناؤها والاطلاع عليها، مع إضافة الكلمات المعرَّبة والدخيلة والمُحدَثة، كما أنشأ المعجم الكبير الذى يجمع كل تفاصيل الكلمات ومعانيها من كل المعاجم، مع المعاجم العلمية فى المصطلحات الفيزيائية والكيميائية وغيرها”.
الدور الأكاديمى والعلمى للمجمع لا يمكن إنكاره أو التقليل منه، إلا أنه صالح لزمن فائت. يقول محمود عبد الرازق «يتوقف عند هذا الحد دور المجمع، ولا نجد له دورًا حقيقيًّا بين جمهور الناس، ولا فى وسائل الإعلام والصحافة، وهذا يحرم قطاعًا كبيرًا من الناطقين بالعربية من جهود المجمع”. 

محمود عبد الرازق جمعة


يوجه حسام مصطفى نقده المحق للمجمع اللغوي، فرغم أنه يراه «هيئة مرموقة فى الوطن العربى بأكمله، صاحبة إنجازات لغوية ضخمة» إلا أنه «فى الوقت الحالى للأسف لا يشعر بها أحد ولا يعرف أحد بنشاطها، ربما لانفصالها عن الواقع اللغوى فى مصر، وابتعادها عن فهم حاجات الناس على بساطتها، ولو نشط علماؤها للاحتكاك مع العامة ووضع آليات قابلة للتطبيق، لتغيّر واقع اللغة العربية فى مصر.

فى نفس السياق، يشير عبد الرازق كذلك لأهمية معجم الدوحة التاريخي، ويصفه بأنه «مشروع شديد الأهمية، وتطوُّره جيد، لأن فكرة البحث وراء قصة كل كلمة وكيف نشأت وكيف تطوَّر معناها واستعمالها، تُخرِج الكلمات من كونها أدوات منطوقة للتواصل، إلى كائنات حية متطورة، فتَثبُت قيمتها فى العقل”. هو بالفعل مشروع رائد ومكمل لدور المجمع اللغوى بالقاهرة، وتمدد لمبادرات فردية تسعى لإحياء العربية.

حلول لتجنب الأخطاء

المبادرات الفردية واستغلالها للتكنولوجيا الحديثة أثارت اهتمام فئة من المجتمع، وساهمت فى الإشارة إلى أخطاء أقل ما يقال عنها إنها مخزية، «فى المدارس والوزارات ولافتات الشوارع وماكينات الصراف الآلى والمستشفيات والبنوك وحدث ولا حرج عن الأوراق الحكومية”، بحسب حسام مصطفى الذى يرى أن المشكلة بسيطة ويمكن حلها «لو تبنت الدولة مبادرة لتدريب العاملين لديها على أساسيات العربية، وجعلت من شروط الالتحاق بوظائفها التحصّل على دورة فى العربية، ووفرت مدققين لغويين فى كل القطاعات لتلافى ما هو موجود بالفعل من أخطاء، إضافة إلى بث الحياة فى أوصال مجمع اللغة العربية”.