إنها مصر

العشوائيات النفسية !

كرم جبر
كرم جبر

فى الثمانينيات والتسعينيات وفى بداية حياتنا الصحفية كانت مانشيتات الصحف الشهيرة هى "سكان بلا مساكن"، ولم يكن أحد يتخيل أن مصر سيأتى عليها يوم وتنتهى أزمة الإسكان.

لم يكن أحد يتخيل أن العشوائيات التى كنا نطلق عليها "أحزمة ديناميت" وتحاصر القاهرة، سيأتى عليها يوم وتنتقل إلى أماكن آمنة ومساكن آدمية نظيفة.
أتذكر جيداً أتوبيس اسمه "كارتر" كان يقطع المسافة من رمسيس إلى جامعة القاهرة فى أكثر من ساعة ونصف، وكان مكوناً من عربتين وسطهما "طبلية" دائرية ينبعث منها الدخان "العادم" ليملأ المكان.

أتذكر فيلم "كراكون فى الشارع" والمسلسلات والتقارير الصحفية التى كانت تسخر من هموم وآلام ومعاناة من لا يجدون سكناً أو يعيشون فى مساكن تشبه حفر النار.

وسكان المقابر الذين ضج بهم الأموات وكانوا موضوعات دسمة للفضائيات العربية والأجنبية، التى تعرض مأساتهم ليس حباً فيهم، ولكن غلاً وشماتة فى مصر وشعبها.

ونشأت أجيال امتلأت بالكراهية والحقد والغل والشعور بالمعاناة،لأنهم يعيشون فى أماكن أشبه بعلب الصفيح، ليس فيها أدنى مقومات الحياة.
وظهرت أمراض اجتماعية، وأخطرها "العشوائيات النفسية" التى نشاهد حصادها المر الآن، فى تصرفات وسلوكيات بعيدة تماماً عن السمات المميزة للشخصية المصرية.

لا تتصوروا أن اختفاء التراحم والمودة والتواصل والشهامة والمروءة والأخلاق وغيرها، لأن الناس بطبيعتهم سيئون، ولكن لأن ظروف الحياة القهرية فرضت عليهم أن يكونوا كذلك.

مثلا: إذا ركب الناس أتوبيساً ووجدوه غير مزدحم، ذهبوا فى هدوء للكراسي، أما إذا كان مكتظاً فيتزاحمون ويدوسون بعضهم ويمارسون أسوأ عادات "الرذالة"، ثم تسمع شخصاً يحتك بسيدة ويقول لها "مش عاجبك اركبى تاكسي"، فترد عليه "لو معايا فلوس التاكسى مش هستنى أسمع الكلمة دى من واحد زيك".

أخلاق الزحام تعدم الشعور بالانسانية، وتجعل البشر كائنات فظة وغليظة القلب واللسان، ويأتى السؤال الحائر هو: هل سيأتى يوم تتوافر فيه الحياة الكريمة للناس؟
الإجابة كانت على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسى فى افتتاح مشروعات الإسكان الاجتماعى السبت أول أمس، وهو يؤكد أن كل إنسان يحتاج إلى شقة فى مصر سيحصل عليها، وبمعنى آخر انتهت أسطورة أزمة الإسكان لسنوات طويلة قادمة.

تغيرت الفلسفة ولم تعد الدولة حارساً على أزمات الناس، وإنما ذراع طويلة تضرب المشاكل فى الجذور وتجد حلولاً مدروسة، لتغيير شكل الحياة.
مصر الآن ليست مصر منذ سبع سنوات، نحن الآن دولة قوية تعرف ماذا تفعل وإلى أين تريد أن تصل، ولا يشغلها أحد عن أهدافها الكبرى.