فى الذكرى الـ30 لرحيله

يوســف إدريـس .. و«بـريــق» يـــــزداد دائـمـــا

يوســف إدريـس
يوســف إدريـس

كتب-حسن حافظ

في عام 1954، كانت مصر فى انتظار حدث أدبى غيَّر مسار الكتابة القصصية، فمع صدور مجموعة «أرخص ليالي»، برز يوسف إدريس كاسم جديد فى كتابة القصة القصيرة، وتربع منذ تلك اللحظة على عرش القصة القصيرة عربياً، فلا أحد ينكر تأثيره وعمق تجربته التى تميزت بتشريح النفوس والحفر فى الحالات الإنسانية والسعى الدءوب لكتابة قصة مصرية خالصة، وظل حتى رحيله فى مطلع أغسطس 1991، أحد كتاب الصف الأول، لذا تحتفى «آخرساعة» بذكرى وفاته الثلاثين كأحد أبرز القامات الثقافية فى تاريخ مصر المعاصر.

دخل يوسف إدريس (مواليد مايو 1927)، باب الأدب بنشر أولى قصصه القصيرة «أنشودة الغرباء» بمجلة القصة فى عدد مارس 1950، لكنه عرف النجومية من أوسع أبوابها فمجموعته الأولى حققت نجاحاً ساحقاً، وكانت محل تقدير من مختلف الأجيال الأدبية، وفى مقدمة الجميع عميد الأدب العربى طه حسين، الذى وافق على كتابة مقدمة المجموعة الثانية ليوسف إدريس، «جمهورية فرحات»، وكانت كلمات العميد بمثابة شهادة جودة واعتراف من أهم قامة أدبية وفكرية فى مصر والعالم العربي، فمن قبل قدم طه حسين للوسط الأدبى توفيق الحكيم وعمله الفذ مسرحية «أهل الكهف».


كلمات العميد حملت روح الأستاذ الذى يرعى تلاميذه ويفتح للمواهب الأبواب، وهى روح مفتقدة الآن، يقول قاهر الظلام عن كتاب إدريس الثاني: «أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدتُ فى كتابه الأول، على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صادق صارم لما يحدث فيها من جلائل الأحداث وعظائمها، لا يظهر فى ذلك تردد ولا تكلف، وإنما هو إرسال الطبع على سجيته كأن الكاتب قد خُلق ليكون قاصًا، أو كأنه قد جرب القصص حتى استقصى خصائصه، ونفذ إلى أسراره، وعرف كيف يحاوله فيبرع فيه».

ويكيل طه حسين المديح لإدريس ويتوقع من موهبته الكثير: «وكاتبنا يمضى فى هذه الطريق ثابت الخطو، وما أشك فى أنه سيبلغ من الأصالة والرصانة والتفوق ما بلغ الذين سبقوه»، ويشيد بأسلوبه «فهو لا يحب التزيد فى القول ولا يألف تبهرج الكلام، ولن تجد عنده كلمة قلقة عن موضعها أو عبارة إلا وهى تؤدى بالضبط ما أرادها على تأديته من المعاني. هو طبيب حين يكتب يضع يده على معناه كما يضع يده على ما يُشخص من العلل حين يفحص مرضاه، وينقل إلينا خواطره كما يصور أوصاف العلل، وكما يصف لها ما ينبغى من الدواء».

لم تأت كلمات طه حسين من باب المديح الأجوف بل كانت احتفاء بموهبة حقيقية أثبتت نفسها على الساحة الأدبية، إذ أثبت إدريس موهبته الفذة على الساحة الأدبية سريعا، عبر كتابة القصة القصيرة التى أصبح فارسها الأول، فضلا عن إبداعه فى المسرح والرواية وكتابة المقال السياسي، فترك مهنة الطب خلفه بعدما مارسها فى «قصر العيني» بين عامى 1951 و1960، ليتفرغ تماماً للأدب الذى وهب له عمره بينما منحه الأدب الشهرة والمجد.

رسخ يوسف إدريس من مكانته كأبرز كتاب القصة القصيرة عربيا، ما جعل الكثير يطلقون عليه لقب «تشيخوف العرب»، فى إشارة إلى أعظم من كتب القصة القصيرة على مستوى العالم، الروسى أنطون تشيخوف، والذى أثر فى يوسف إدريس بقوة، وقدم الأخير مجموعات قصصية وصلت إلى 20 مجموعة، تميزت بطابعها الإنسانى ومصريتها فى الوقت نفسه عبر التركيز على تفاصيل الحياة الصغيرة، ومعالجتها للقضايا الاجتماعية بمشرط جراح، لذا وصل بالقصة القصيرة المصرية للعالمية، ولا غرابة أنه كان أحد المرشحين للحصول على جائزة نوبل للآداب، ومن أشهر مجموعاته القصصية: «أرخص ليالي» و«جمهورية فرحات»، و«البطل»، و«حادثة شرف»، و«العسكرى الأسود»، و«قاع المدينة»، و«بيت من لحم»، و«لغة الآى آي».

ولا يقتصر إبداع إدريس على القصة إذ شارك بقوة فى الإبداع الروائي، فقدم روايات «الحرام»، و«العيب»، و«رجال وثيران»، و«البيضاء»، و«نيويورك 80»، وهو يغوص فى رواياته فى عالم الريف المصري، لينهل منه نماذج بشرية يعيد نحتها وتحميلها بقيم إنسانية عالمية تجعل من الرواية الإدريسية محملة بمستويات مختلفة من الرسائل الفنية التى تتناسب مع موهبته المتفجرة وصالحة للقراءة فى مختلف الثقافات، فرغم قلة الروايات التى تركها خلفه فإنها تعد علامات من الأدب الرفيع.

وقد شارك فى تأسيس هوية المسرح المصري، فبعد الدور الريادى لتوفيق الحكيم فى تأسيس المسرحية المكتوبة والتى تقرأ فضلا عن تمثيلها، جاء دور جيل يوسف إدريس ونعمان عاشور وألفريد فرج وعبدالرحمن الشرقاوي، فى تأسيس مسرح أكثر التصاقا بنبض الشارع المصري، وهو ما نظر له يوسف إدريس فى «نحو مسرح مصر»، للبحث عن شكل مسرحى معبر عن الخصوصية المصرية، ويجد غايته فى أشكال الحكواتى والسامر وخيال الظل والأراجوز، وهى أشكال يمكن تطويرها للوصول لمسرح مصرى شكلا ومضمونا، وهو ما حاول تنفيذه فى مسرحيته الأشهر «الفرافير»، وهى مكتوبة بشكل يضمن اشتراك الجمهور والممثلين فى إنتاج العمل المسرحي، ليواصل هذا النفس التجريبى فى مختلف مسرحياته «ملك القطن»، و«جمهورية فرحات»، و«اللحظة الحرجة»، و«المهزلة الأرضية»، و«المخططين»، و«الجنس الثالث»، و«البهلوان».

وحول قيمة يوسف إدريس الأدبية، يرى الدكتور عبدالسلام الشاذلي، المفكر والناقد الأدبي، أن «إدريس قيمة وقامة ومعلم تخرجت الكثير من الأجيال الأدبية من عباءته، فما من كاتب كتب قصة قصيرة فى العالم العربى دون أن يمر على يوسف إدريس، فهو مدرسة إلهام لفن القصة القصيرة، إذ استطاع تطوير أشكال القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، وقد عرفته أولا كقارئ لقصصه الشهيرة، وأحسست أننى أمام كاتب ناضج يشرح المجتمع المصرى كما يشرح الطبيب المريض ويكشف عن علله، فكأنه مارس التشريح للمجتمع المصرى بالورقة والقلم، من منطلق حبه لهذا الشعب لكى يصل إلى نبضه ويفهم فلسفته على الرغم من فقره وبؤسه، كما جسده فى رواية «الحرام»، والتى وصلت إلى العالمية ومثلت فى عدة بلاد غربية وحققت نجاحا كبيرا فى أنها شخصت أزمة الفقر فى دول العالم الثالث». 

ويضيف الشاذلى لـ«آخرساعة»: «لم تتوقف ريادة إدريس على القصة القصيرة فهو رائد أصيل فى تأصيل مسرح المصرى بعمله التجريبى (الفرافير)، عندما حاول أن يعطى الفن المسرحى طابعه المصرى الأصيل، وصنع مسرحا له طابعه المصرى الخاص المعتمد على تطوير فكرة الحكواتى فى الأدب الشعبي، كما أنه كاتب مقالة من الطراز الأول وكان صاحب جولات وصولات فى العديد من الصحف المصرية، والتى عبر من خلالها فى جرأة وقوته فى عرض وجهة نظره حتى ولو كانت على خلاف مع السلطة السياسية، ونذكر من الكتب التى جمعت أشهر مقالاته (بصراحة غير مطلقة)، و(عن عمد اسمع تسمع)، و(أهمية أن نتثقف يا ناس)، و(فقر الفكر وفكر الفقر)».

وعن مكانة عميد القصة القصيرة، يقول حلمى النمنم، الكاتب الصحفى ووزير الثقافة الأسبق: «أحد أبرز الوجوه الإبداعية فى مصر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية السبعينيات، وهو متميز بشكل أساسى فى القصة القصيرة والمسرح، ففى القصة قدم لغة وسيطة بين العامية والفصحى مع اقترابه بشدة من العامية، كما نجح فى تقديم هموم قطاع مهمل من المجتمع المصرى بصورة غير مسبوقة، فالفئات الكادحة من مهمشى المهمشين فى المدن والريف استطاع أن يقدمها يوسف إدريس فى قصصه بإجادة، فهو أول من قدم عمال التراحيل فى رواية الحرام، فهو ركز على مشاكل المهمشين فى الريف وعرضها بشكل إنسانى واستطاع أن يضع أيدى المجتمع على الوجع الحقيقي، وكان لديه القدرة على الغوص فى المجتمع والكشف عن أمراضه، فكان أول من أشار إلى فساد القطاع العام وتوقع مآله، وهو نفس ما كرره فى أعماله المسرحية، بل والروائية أيضا، فقد ترك بصمة لا يمكن أن يجادل فيها أحد».