الحلم المصري.. مجد ونبوغ

سلمى قاسم جودة
سلمى قاسم جودة

البحث عن الحق المفقود.. استعادة الحقيقة الغائبة ورد الاعتبار لقامات عظيمة صانعة أمجادا وريادة مبهرة فى مجال الصناعة. هى رسالة  نبيلة للأديب والباحث النفيس مصطفى عبيد من خلال كتابه الرائع والقيِّم «سبع خواجات.. سير رواد الصناعة الأجانب فى مصر» الصادر مؤخرا عن دار شخابيط، اختار المؤلف  الإبحار ضد التيار، والتعرض لشح الوثائق والتصدى لتاريخ حقبة مديدة أتلفها الهوى من قبل هواة «الشوفينية» وكل مستفيد أو مصاب برهاب الأجانب أو «xenophobia»، هى مهمة عسيرة تقتضى الجسارة، الأمانة والاستنارة، فالسقوط فى قبضة الهوى، التشويه، الأبلسة وطمس الذاكرة آفة شديدة الخطورة.. فهاهى مصر.. الهجرة.. إليها بمثابة الحلم الذى راود العالم بأسره، فالمجد.. السحر والثروة هنا فى الأرض الواعدة البكر والعريقة فى آن.. «المتشائم لا يكتشف أبدا أسرار النجوم ولا يستطيع الإبحار فى أرض مجهولة، ولا يستطيع أن يفتح سماءً جديدة لروح الإنسان».. «كلمات هيلين كيلر».
كل شىء ممكن فى المحروسة، فالسماء منقوشة بموكب النجوم يتوجها القمر، والأرض الشاهقة الخصوبة والسخاء، والمصريون أهل مودة ولطف، أما سحق  المستحيل فسمة من السمات المصرية الأصيلة، ومن ثم تصبح الهجرة إلى بوتقة الحضارات وجهة كل حالم، طامح وباحث عن النجاح والنفوذ وخبيئة الوجود المتجذرة فى مصر.


المعرفة والمتعة صنوان ينهل منهما القارئ للسبع خواجات، لمصطفى عبيد، السبع صنايع، ولكن البخت ليس ضائعا، بدأت هجرة هؤلاء الأجانب منذ القرن التاسع عشر وكانت مصر آنذاك ترحب بكل الجنسيات، المهارات، وبكل قادم يفضى مشروعه لتبادل الخيرات والمصالح، وكان محمد على باشا والخديو إسماعيل وعباس حلمى الثانى فى سعى دائم لتحديث مصر، وأن تحظى بالتطور والازدهار، هى مرحلة تتميز بالكوزموبوليتانية وتعدد الجاليات، وأكثرها تعدادا كانت اليونانية، الشوام، الأتراك، الأرمن، الطليان، الإنجليز، الفرنسيين، البلجــــيك والسويســـريين. يستعــرض الكاتب مصطفى عبيد السيِّر الخاصة، هنرى نونس البلجيكى مؤسس اتحاد الصناعات وهو القامة العملاقة فى صناعة السكر التى اشتهرت بها مصر، صامويل سورناجا الإيطالى نجم صناعة الطوب والخزف، لينوس جاش مطوِّر صناعة المنسوجات وهو السويسرى الأشهر، أرنست ترامبلى الأب الروحى لصناعة الأسمنت، ثيوخارس كوتسيكا إمبراطور السبرتو، وهو يوناني، جوزيف ماتوسيان الأرمنى مبتكر السيجارة الشعبية فى مصر وأشهرها كليوباترا، ثم الشامى الكونت دى زغيب واضع اللبنات الأولى  أو "pioner" رائد صناعة المربى  والشربات فى مصر وصاحب القصور الغنّاء، الشاهقة الفخامة ذات الألق المعمارى المهيب.. إمبراطور السبرتو كوتسيكا اليونانى الذى أدخل وطوّر صناعة الكحول، وهى تدخل فى إنارة الشوارع آنذاك وصناعة العطور والدواء، ولقد بدأ سفرته العملية مثل الكثير من أهل اليونان الذين شعروا بأن مصر بمثابة الوطن الثانى لهم. فى أعمال البقالة بدأ فى الإسكندرية فلا أشهر من الزيتون، الكالاماتا اليونانى والجبن، وكوتسيكا المسكون بالنبوغ والطموح الجامح، لاحظ الإقبال على الخمور والكحول من قبل الجاليات الأجنبية بمصر، وقام بالتعاقد  مع الجيش  البريطانى فى السودان، وفيما بعد لم يقنع بالتجارة وسهولتها أو الوساطة والسمسرة، ولكنه سعى لإقامة صناعة عظيمة أثمرت العديد من الفوائد فى المجالات المختلفة، وأقدم على التضحية «بالمكاسب الكبيرة» السريعة، ليقتفى أثر المكسب الزهيد المحقق لإنجازات على المستوى البعيد المدى، وتميز بموهبة قراءة المستقبل مثل كل النوابغ، ولقد ساهم بل أسس العديد من المشروعات الخيرية مثل المستشفى اليونانى بالإسكندرية، وهو يحتوى على ٢٥٠ سريرا، ولقد قضى فيه آخر أيامه الشاعر الأشهر كفافيس، وقام أيضا التايكون اليونانى بالدعم وبالمساهمة فى هيئة الإسعاف والطوارئ خاصة أن تلك الفترة كانت ناضحة بوباء الكوليرا، وفى مجموعة (يا قلب من يشتريك) لسعيد الكفراوى قصة عن حى كوتسيكا بالقرب من حلوان، والبديع فى تلك الحكايا أو السير الذاتية التى يعرضها الكتاب الثمين فضيلة الانتماء لمصر والتماهى مع الشعب التى يتمتع بها هؤلاء العظماء، فهم ليسوا غرباء أبدا حتى بعد تعرضهم للتأميم بعد يوليو ٥٢ اختاروا الحياة بل الموت والدفن فى مصر، وأيضا من أشهر أهل اليونان سبيرو سباتس مؤسس ماركة المشروبات الغازية ذات شعار النحلة، اختارها نظرا لعمله فى الصغر بأشهر مناحل العالم اليونانية، ثم نسطور چيناكليس صاحب مزارع العنب والمنطقة الحاملة اسمه بالإسكندرية.. أما ملك السجائر الأرمنى ماتوسيان فتلك الماركة الشهيرة للتبغ ستجدها ماثلة فى (ثلاثية) نجيب محفوظ وفى (زقاق المدق).. ولقد ألهمه فيلم (كليوباترا) لإليزابيث تيلور آنذاك الذى تكلف ٢٠ مليون دولار فكرة اسم علبة السجائر الذهبية المزينة بصورة ملكة مصر، وأهدى العلبة للزعيم جمال عبدالناصر طامحا فى أن يستبدل (كِنت) (kent) بكليوباترا، وإذا كانت «آفة حارتنا النسيان» كما ذكر محفوظ فأقول إن التناسى أكثر فداحة.