نقطة فوق حرف ساخن

الانتحار القومى

عمرو الخياط
عمرو الخياط

سنوات طويلة امتدت عبر أجيال متعددة وممتدة حذرت فيها الدولة المصرية من خطورة الانفجار السكانى الذى أصبح ظاهرة مخيفة فى الوقت الذى جاءت فيه الاستجابة الشعبية لهذه التحذيرات باستهانة ولم تكن على قدر كثافة التحذيرات ومدى خطورة الظاهرة سواء على الاقتصاد أو التنمية المستدامة التى دوما كانت الدولة المصرية تسعى إليها مع الفارق الشديد فى تنفيذ هذا السعى وتحويل الشعارات إلى أقوال حقيقية، وعدم إدراك هذه التحذيرات من قبل المواطن أدى إلى أن أصابت شظايا الانفجار السكانى كافة موارد التنمية.
 

العشوائية التى أصابت المجتمع المصرى من جراء الزيادة السكانية التهمت كلفة نواتج ومحصلات التنمية، لتتحول هذه الزيادة العشوائية من ثروة قومية إلى كارثة قومية، حتى أصبح  الأمر إرهابا للدولة وتهديدا لمستقبلها واظهارها بمظهر العجز الدائم القادر على التجدد ذاتيا. ومن ثم أصبحت كارثة الزيادة السكانية إحدى أدوات الإرهاب ولكنه إرهاب مادى وعبء اقتصادى ليتساوى كلاهما فى هدف واحد هو تقويض الدولة المصرية. 


الزيادة السكانية العشوائية التى حدثت طوال العقود الماضية والمستمرة حتى الآن لم توازها حركة فى ذات الوقت أى تنمية مستدامة لتصبح معينا نهلت منه جماعات التطرف والإرهاب، خاصة أن هذه الزيادة السكانية العشوائية انتجت بيئة خصبة تتنوع فيها كافة المآسى التى عانى منها المجتمع عبر السنوات الماضية من مناطق عشوائية وفقر وجهل وتفشٍ لأمراض وهو ما قدم للتنظيمات الإرهابية مناخا مفتوحا من البؤساء والمحرومين وغير المتعلمين أصبحوا فريسة سهلة للاستقطاب والتجنيد والانخراط فى صفوف تنظيمات القتل تلك هى الحقيقة التى لا نبالغ فى ذكرها.


حاول الكثيرون ممن استفادوا من هذه العشوائية فى الزيادة السكانية إلى ممارسة ضغوط عن طريق الإعلام واستخدام الدين وكذالك اجتماعيا على الدولة المصرية باستخدام مفردات وهمية تتمثل فى أن الزيادة السكانية ثروة قومية وأن الدولة فشلت فى إدارة هذه الزيادة وتوظيفها لصالح التنمية دون أن يحدد أحد منهم أسلوبا علميا لإدارة هذه الثروة أو وضع مسار تنموى موازٍ يتيح لهذه الزيادة العشوائية تعليما وتأهيلا فتتحول من مجموعات استهلاكية تستنزف موارد الدولة إلى مصادر للعمل والإنتاج.


فى الوقت الذى عاش فيه المواطن المصرى الحالة كاملة مستندا إلى شعور غريب معتمدا على التواكل لدرجة المغامرة طوعا بالدفع بأجيال إلى مستقبل غير آمن ومجهول تحت شعار أن كل مولود قادم إلى الحياة برزقه متجاهلين أن البؤس والشقاء والمعاناة هم أيضا نوع من الرزق.


وحاول المستفيدون استخدام تفسيرات دينية لنصوص كى يبرروا هذه الحالة والدعوة لها حتى انهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك بأنها تكليف دينى! متناسين عن عمد أن كل راع مسئول عن رعيته ولم يتقدم أحد من هؤلاء الذين ادعوا بما هو غير صحيح فى النصوص والأحاديث ويشرح أو يوضح كيف سيتحمل رب الأسرة مسئولية رعاية أسرته التى لا يتناسب عددها مع إمكانياته المحدودة وهو يعلم ذلك جيدا؟. وكيف سيواجه ربه بعدما فشل فى رعاية أسرته وحمايتهم وتقديمهم للمجتمع كعناصر انتاجية وليست عناصر عالة على المجتمع.


هؤلاء الذين روجوا للزيادة السكانية وجعلوها بدون علم تكليفا ربانيا لم يخبرونا كيف يمكن تحويل النصوص الدينية الواضحة بجلاء والتى تهدف لإسعاد الناس وانضباط البشرية إلى مبررات للشقاء والبؤس؟ كما هم يريدون.


وإذا كانت دعواتهم للتكاثر العشوائى اعتمدت على أساس من التوكل على الله، فإنهم تناسوا أيضا أن التوكل على الله سبحانه وتعالى فى أساسه مبنى على العمل والسعى نحو الرزق والأخذ بأسبابه وهو ما يؤكد أن دعواتهم مبنية على مفاهيم مجهولة وغيبية وخلط متعمد منهم بين التوكل والتواكل وصولا إلى التنطع بشكل واضح وصريح على النص الدينى وأيضا على المجتمع الذى يعيشون فى رحابه.


وإذا ما وافقنا على فكرة الأعداد الغفيرة كما يدعون ويطالبون به المواطن ويسعون بكافة الطرق لإقناعه والوقوف أمام تحذيرات الدولة من الزيادة العشوائية فى السكان واعتبرنا ذلك هدفا فى حد ذاته دون أن تكون هناك إرادة أو حتى اكتراث بايجاد حركة تنمية لرعاية الأجيال الناشئة وفقا لإمكانيات الدولة المتاحة فما فائدة هذه الأعداد الغفيرة التى يطالبون بوجودها وهم من أنصاف المتعلمين وأنصاف الأصحاء؟

وأُذّكر أصحاب دعوات العشوائية السكانية بأن كل الغزوات التى انتصرت فيها جيوش المسلمين كانت أقل عددا من جيوش أعدائهم؟ تلك حقيقة هم يتجاهلونها بل يسعون لإخفائها طمعا فى تحقيق مآربهم مع الأخذ فى الاعتبار أن حركة التكنولوجيا المتطورة التى اجتاحت العالم ونحن جزء منه أتاحت الاستغناء عن أعداد غفيرة من الأيدى العاملة التى لم تعد فاعلة فى أسواق العمل.


التكافل فى الإسلام حدد مسئولية الرعاية المشتركة لأفراد الأمة وفق قدرات وإمكانيات كل فرد وما يسر له فى حياته فلو طبقنا هذا المعنى على ما نحن فيه فوجب علينا أن نسعى إلى تطبيق الواجب الشرعى داخل كل أسرة تدرك وتعلم تفاصيل إمكانياتها باعتبارها الوحدة الأساسية لبناء المجتمع، فإذا كان كل رب أسرة مدركا ذلك ولكنه يصر على تقويض وإضعاف هذه الوحدة فإنه يرتكب بقصد أو متعمدا جريمة فى حق المجتمع الذى سينمو مرتكزا على قواعد اسرية ضعيفة فينهار البنيان المجتمعى بأكمله.


مع مرور الزمن وعدم الالتفاف نحو تحذيرات الدولة من مغبة الزيادة السكانية التى صارت مع مرور الوقت إلى عشوائية دون تنظيم حتى على مستوى الأسرة فإنها تحولت إلى كارثة قومية وخلفت العشوائيات التى صارت سبة فى جبين المصريين حتى تصدى لها الرئيس وقضى عليها مؤخرا ولكنها كانت أفرزت مشاكل اجتماعية معقدة لجرائم اخلاقية وجنائية، وفى الوقت الذى انتشرت المساجد الأهلية بشكل ملحوظ فى تلك المناطق إلا أن المشايخ الذين اعتلوا منابر هذه الجوامع وهم فى ذات الوقت الداعون والمبررون لهذه الزيادة فشلوا فى مواجهة الظواهر غير الاخلاقية التى تسببت فيها هذه الزيادة وهو ما أفقد خطبهم ومواعظهم قيمتها وفرغوها من مضمونها بعدما انعدمت تأثيراتها على بيئتها المحيطة بل والملاصقة التى تواجدوا فيها. 


الغريب أن الخطاب الدينى المشجع لحالة التناسل والتكاثر اعتمد على استدعاء لحالة تاريخية مستمدة من عادات قبلية انتشرت قبل الدعوة الإسلامية، ومع ذلك اعتبروها فرضا إسلاميا دون الاهتمام بخطورة إظهار الفكرة الإسلامية كما لو كانت غير قادرة على مواكبة الأزمنة المختلفة بتغير ظروفها ومستجداتها.
وبرغم الخطاب الدينى المكثف لتبرير الظاهرة فإنه لم يفشل فقط فى مواجهة التأثيرات الجنائية لها بل فشل أيضا فى مواجهة تأثيراتها الفكرية، التى ولدت تيارات متطرفة تنامت فى مجتمعات الفقر والجهل واعتنقت أفكارا تكفيرية نسبتها إلى الإسلام وجعلته أسيرا لمظاهر خارجية مخالفة لجوهره بل حولته من وسيلة لتحقيق جودة الحياة وتطوير المستقبل إلى وسيلة للهروب من واقع اليم ملىء بالبؤس والشقاء.


هنا تظهر حقيقة استخدام تنظيمات التطرف لهذه الظاهرة التى تعد مفرزتها الرئيسية لإنتاج عنصر بشرى ليس لديه أى إمكانيات سوى الجهل والفقر والرغبة الدائمة للهروب من محيطه البائس.


تخيل أن هذه الجماعات لم تجد وازعا يردعها أخلاقيا أو إنسانيا أو شرعيا عن استخدام الإسلام كأداة لتخدير مجتمعى من أجل خلق بيئة حاضنة لأفكارهم، ليس هذا فحسب بل تستخدم الأزمة السكانية كأداة دائمة للضغط على الأنظمة والدول لخلق حالة نفور دائمة من الدولة خاصة لدى الطبقات الأكثر احتياجا فلا تجد أمامها وسيلة للفرار إلا إلى أحضان هذه التنظيمات.


هنا تتجاوز الأزمة ظاهرها الاجتماعى والتنموى والاقتصادى لتكشف عن وجه آخر أكثر خطورة تستخدم فيه الثروة السكانية أداة لإنتاج أدوات الإرهاب بيئة وفكرا وعنصرا بشريا قابلا للاستقطاب والتجنيد.


تخيل أن هذه التنظيمات تحرص طوال الوقت على إيجاد نسبة إفقار وتجهيل ثابتة فى المجتمع من أجل ضمان استمرار وتجدد بقائها ووجودها وإمكانية استخدامها الدائمة لخطاب الفقر.


نحن أمام جريمة مكتملة الأركان نجحت للأسف فى أحيان كثيرة فى تحويل الإنسان إلى عبوة ناسفة مملوءة ببارود الجهل والفقر والمرض واليأس والإحباط لتصبح جاهزة للانفجار فى وجه المجتمع حين يصدر التكليف التنظيمى لها بذلك.