علي فتحي يكتب: القديس الذي أدمن «ملح الأرض»

علي فتحي
علي فتحي

بقلم: علي فتحي

كلما أصابني النعاس لأيام دون أسباب وزهدت الروح كل ما كانت تشتهيه، وتكاسلت عن كل شيئ، أعلم يقينا أن أحدهم ممن أحببتهم سيحزم حقائبه راحلا في هدوء مفضلا أن لا يوقظني مهما ترقبته.. شعور انتابني كثيرا ومررت به مع كل من صعدوا للسماء من أحبتي، جميعهم راوغوني ،جميعهم بخلوا بسلام حار ونظرة وداع ولم تصلني إجاباتهم عن سؤالي:  هل الأمر شفقة بي من وجع فراق أم هو تلبية لموعد لا يحتمل التأخير؟


 منذ سنوات ما عدت أنا فقدت الكثير مني ومن توازني مع كل رحيل مباغت لعزيز، ما أكاد ألملم أشلاء نفسي حتى ينحنى الظهر مجددا لبقايا جديدة، آلام الروح تنهك الجسد وداء الروح يعيي من يداويه،.


هذه المرة أنا من أخلفت الميعاد، كنا قد تقابلنا بالقرب من مكتب أ. جمال الشناوي رئيس التحرير  فتصافحنا بحرارة كعادتنا سويا وكأننا نتذكر في عيون بعضنا حواديت وذكريات وشوارع عروس البحر مدينتنا التي حرمتنا منها القاهرة القاسية،  بوجهه البشوش الملائكي وعيون تحتضن بود المقربين وتزأر وتطرد كل اصحاب المصلحة والمنفعة والمنافقين ومزيفي الود كان يقابلني دوما ، حقا الصادقون ملامحهم تفضحهم.

 

* تعالى نقعد ونشربوا قهوة؟ 
لا يا علوة لما نتقابلوا بره علشان تشوف شغلك.
*على طول مستعجل؟
..دماغي فيها كتير ما صدقت أطلع معاش علشان أكتب. تحب تسمع الجديد؟ إيه رأيك في حمادة كنكة؟ 
* كل اللي بتكتبه بيزبط دماغي وبفهم رمزيته وبتوصلني رسايله بس فرمل شوية وأمسك اللجام بلا طيش شباب .. نضحك سويا.

*حلوة الفوكيرة بتاعة ملح الأرض والشقيانين تعالى نلعبوها سوا للبوابة يا كبير بعد إذنك

..يالا بينا يا علوة نقعدوا في وسط البلد ونظبطوا ميعاد ونظبطوها.

استمر حديثنا "على الواقف" لأكثر من ساعة وتلك ليست عادته أو عادتي ولكن حديثه وقفشاته يروقان لي دائما، هو يمر خاطفا كنسمة صيفية، كطيف، كالبرق، حدثني عن محطاته وأفكاره واحباطاته ومعاركه، شغفه للكتابة الذي استفاق وأحلامه التي تخطفه من النوم ولم يدرك أو استوعب أنها صحوة الموت، عاتبني علي كسلي ومدح في كتاباتي على ندرتها مؤخرا، ثم طبطب علي كتفي حين لمح في روحي الضجر من الكتابة، ورغبتي في الإنزواء مؤكدا علي أن الأقلام التى تترجل عن جوادها وميدان الحرب لا تستحق أن يتذكرها التاريخ. 

دخلنا سويا إلي مكتب رئيس التحرير تحدث بسرعة وايجاز  مصحوبا بخجل وحياء، ثم طلب منه الإذن بالانصراف بتهذيب، وأشار لي مؤكدا على اللقاء حسب الاتفاق.

 في نفس اليوم هاتفني بمكالمة طويلة مذكرني بموعدنا ، بعدها بأيام هاتفني للتأكيد، فتأخذني منه نفسا تائهة فلا يسعفني الرد لا أدرى لماذا، بروحه النقية الطفولية يكتب لي مجددا فيأخذني الخجل منه لزاوية أبعد، رغم حرصى على أن نفتش سويا عن "ملح الأرض" كمشروع يجمعنا على أرض الصحافة والإنسانية، الرجل كان مؤمنا بالإنسان الذي يسكن قلمه وضميره ولمحه بين ثنايا حروفي فكان يوصيني بألا اتغافل عنه، كثيرا ما كان يروقني أن كاتبا وشاعرا بحجمه ينعتني بالفيلسوف المزاجي الذى يتكئ على جدار الصدق فاقترب مني على حد قوله.. فأنتشي فخرا لثوان.
 
عباراته الحماسية لي كادت تنفخ الروح في كلماتي وتنعش ذاكرتها وتقيم أودها، كنت معجبا جدا بهذا الثائر منفردا، المناضل بنبل، المشاغب بتهذيب، الحالم كصبي لا يأبه للسنوات والزمن فيطارد حلمه برشاقة حتى ولو تخطى عتبة الستين من عمره، هذا الأنيق في ملبسه وجمله وعباراته، الجنتلمان ابن البلد في آن، ابن منطقتي "بحري" بالإسكندرية، القديس الذي عاش يفتش عن البسطاء الطيبين، ويكتب عن أوجاع سكان الأزقة والحواري والنجوع والكفور. الزاهد حد الدهشة، الحزين الضاحك حد السخرية والبكاء، الهامس كعاشق، الغاضب كمحارب.

 تقبل اعتذاري "محمد أبو ذكرى" أيها القلم الممشوق كرمح، المتيم في عشق الوطن والبسطاء كدرويش، فقد خلفت موعدي معك رغما عني ولا تعاتبني فقد خلفت أنت أيضا وعدك فترجلت عن فرسك وتركت الساحة وهجرتنا دون استئذان أو إزعاج.. 

سأسامحك حتما لغيابك الإجباري وأنت الذي لم تجبرك الحياة على شيئ ، لن أغفر لنفسي ولكن ليتك تسامحنى عند رب ومليك مقتدر أرادك بجوار رحمته وأراحك من عناء الرحلة ووعثاء السفر، وضمير إنساني وخزاته لك ولقلمك كانت أشد وجعا من مفارقة الروح للجسد.
 
اطمئن يا صديقي فكل ثروتك من كلمات علي "طريق النور " لن تضل الوجهة ولن ينهبها قطاع الطرق، "أخبار اليوم" بيتك يحتفظ بكل ما تملك ويوثق التاريخ والحكايات ويمجد الفرسان، سيتذكرك حتما "ملح الأرض" من "غلابة" الوطن فكل نفس بما كسبت رهينة وأنت مكسبك حلال.. سلام يا صاحبي.