أشرنا في مقال سابق إلي ان الاعلام العربي هو إحدي النوافذ الكاشفة للنظام العربي وان فشل الاعلام العربي في القيام بدوره المفترض كفشل جامعة الدول العربية.. يعكس فقدان الشفافية والتبعية للانظمة وغياب الديمقراطية بعامة مما ساعد الآخرين علي دفع النظام العربي لمتاهة الفرقة وجعل منه الآن وقودا لصراع دموي مخيف يستنزف كل قواه لحساب الغير.. وكان ذلك خانقا للدور المصري تجاه العالم العربي الدور الذي كان متوقعا تأثيره بعد ثورة ٢٥ يناير.
وكما توقعنا سابقا عند الواقع العربي من خلال حال الاعلام العربي فنحن نتوقف عند المشهد المصري من خلال الاعلام ايضا..
وان برأنا الاعلام المرئي .. نجده الاكثر تأثيرا وكما سبق وذكرنا ان اعلامنا المصري المرئي الحكومي بدأ في اول الستينيات قويا مستنيرا ومازلنا نذكره ونذكر رواده بكل الفخر فقد حقق هذه البداية المشرفة رغم تواضع الامكانيات وخاصة التقنية الا انه كان يمثل طموحا كبيرا في التطور السريع والمشاركة في التغيير البناء والحداثة وكان ايضا رائدا بالنسبة للعالم العربي شأن الصحافة والمسرح والسينما والتعليم وغيرها.. وكان ذلك حتي منتصف السبعينيات تقريبا.. ثم جاء الطوفان.. وتحول الاعلام المرئي إلي مشكلة تواجهنا وتتضخم تدريجيا حتي تغطي أفق حياتنا.. ولم يأت ذلك من فراغ بل يقف وراءه بالدرجة الاولي متغيرات حلت بالواقع المصري من جهة ومن جهة أخري عوامل خارجية اقليمية ودولية.. ساهمت وارادت انقلاب الاحوال هذا.. بداية الداخل بدأت بخطة ممنهجة لمحو كل مكاسب تحققت للشعب المصري فيما سبق وابتدأ ذلك بانفتاح «السداح مداح» الذي سمح بامتداد زحف المحو علي كل المعايير التي قامت عليها نهضة كانت قد بدأت بتنمية متكاملة وعدالة اجتماعية وان جاءت علي حساب الديمقراطية السياسية لاعتبارات كثيرة كما قامت علي التحرر في الارادة الوطنية بعدوي انتقلت إلي معظم العالم الثالث- المهم امتد المحو لينال من قيم ومعايير الحياة لدي المصريين لتشويه العقل والوجدان للمصريين وخاصة في علاقاتهما بالانتماء .. وباشكال التلقي لدي المصريين.. وبالتالي امتد ذلك تباعا إلي الذوق العام والوعي وبشكل خاص إلي دور التليفزيون المصري وما كان قد انجزه مع العقل المصري والعربي ايضا وتنامي ذلك بما انتهي إلي تورط انتاج التليفزيون البرامجي والدرامي ليدخل في سباق بائس وخاسر مع القطاع الخاص الذي صار معياره الاساسي الربح السريع بأي شكل وعلي حساب أي قيمة . بعدما كان ملتزما بمعيار الجودة الذي يضمن بقاءه بفضل توازن فرضه التليفزيون المصري الذي بدأ يغمر المحطات العربية الناشئة التي تختار حسب الجودة إلي ان جري انقلاب الاحوال في الواقع والابداع .. ليتم اقتلاع المعايير التي ساد بها الاعلام المرئي المصري. ليحل مكان الجودة والاستنارة.. معيار الكسب السريع بأي ثمن وبأقصر الطرق وفي نهاية هذا الطريق ومع دخول التليفزيون في سباق بائس بمعيار التجارة لم يصمد فيه امام انطلاق القطاع الخاص.. فانتهي إلي ما يشبه التوقف والافلاس مهنيا وماديا وبالتالي تراجع الدور الرائد للتليفزيون المصري في الدراما والمواد البرامجية بالعالم العربي وبغياب التليفزيون عن المنافسة خلت الساحة تماما امام انطلاق منفلت للدراما حيث لا تلتزم بشئ سوي ما يجلب أكبر ربح.. واختلت فيها حتي معادلات الانتاج الصحيحة لتتغلب أولوية الاسماء والاجور الفلكية علي حساب باقي عناصر الانتاج بخلاف اختلال واسع فيما يقدم.. فطبيعة الموضوعات اغلبها يخضع لاثارة مجانية وقضايا مفتعلة زائفة ورغم ان التجديد مطلوب في الحياة والفن وسنة كونية.. الا ان مواهب مبشرة جدا ما تكاد تظهر حتي تدركها شروط السوق وتفسد عليها وعلينا امكانية قيامها بدور حقيقي في التجدد والتطوير.
كل هذا كان يتسارع ازدهاره وسيطرته ومعه تبلور بوضوح قاطع ظهور اليد المهيمنة علي كل الاطراف وهي يد «الوكالات الاعلانية» في الدراما والبرامج.. حيث تأكد الآن وللجميع انها اليد العليا في فرض شروط السوق التجارية علي الجميع.. وهي من تعطي الضوء الاخضر لما تقدمه الشاشات أو ان تمنع ما يتعارض مع شروطها وتلعب بورقة الاسماء والاجور كما تريد وتحدد طبيعة الاعمال حيث لم يعد هناك اي معني لحرية الابداع.. اذ تصادر ما لا يلائم شروطها.. بل تصادر علي اجيال بكاملها من المبدعين المحجمين عن الخضوع لشروط السوق. وبلغ من سطوتها ان التليفزيون المصري حينما كان ينتج كان مازال يخضع في اختياراته لما تطلبه الوكالات الاعلانية وتحدد ايضا توقيتات البث للاعمال والبرامج !
واذا لاحظنا انحسار الاعلانات عن شاشات التليفزيون المصري ادركنا قياسا علي ما ذكرنا انها الوكالات الاعلانية ايضا بل لنلاحظ الهجمة الواسعة للاعمال المدبلجة التي بدأت بالاعمال التركية حتي وصلت للاعمال الكرواتية.. وقد نري ان المستهدف منها الدراما العربية عموما.. ولكن ماذا نقول ان كانت هذه الاعمال كلها المدبلجة باللهجة الشامية!؟ الا يبدو هذا موجها للهجة المصرية.. أي الدراما المصرية التي اعتمدت علي ارتباط المشاهد العربي باللهجة المصرية وولعه بها ؟!
هنا يمكن ان نري في محاولات اضعاف التليفزيون المصري وما كان يمثله بعدا سياسيا وأيدي خارجية تقف وراء هذه الوكالات أو تساندها مثل دخول ممولين مجهولين في تمويل بعض المحطات بل وبعض الاعمال.. هذا يسمح لنا ان نضع الامر في اطاره الاوسع وهو استهداف مصر وقوتها الناعمة كأحد الاهداف الرئيسية لدي من يتربصون بنهوض مصر ثانية ويطمئنهم في ذلك انهم لا يجدون اي سعي من عدة حكومات تعاقبت منذ الثورة لحماية دور الاعلام المصري الهام والخطر في اوج المرحلة الصعبة التي نمر بها بعد ثورة ٢٥ يناير وهذا أمر غريب يستوجب التنبيه ونعود إلي دور الوكالات الاعلانية لنتابع ما تستهدفه في مجالات اخري غير الدراما سواء في المادة البرامجية وخاصة برامج التوك شوز والمواد الاخبارية.. وايضا دور الاعلانات نفسها وانفلاتها المخيف دون اي ضوابط او رقابة وصلة ذلك بالتردي الاخلاقي والمهني في القنوات الخاصة بالذات وما تحظي به في معظمها من الوكالات الاعلانية وكل ذلك يؤكد ان ما يجري ليس محض صدفة أو بغير قصد ولنتابع ذلك لاحقا فالامر ملح في مواجهة مخاطره.. وصداه المفزع الذي يتردد في كل جنبات البلد الكبير العريق !