مدارات

ذكاء الإنسان بين الاستعداد والحصاد

رجائى عطية
رجائى عطية

 لا يختلف أحد على أن العقل بملكاته وقدراته هو أميز ما تميّز به الإنسان عن باقى المخلوقات، وأن الإنسان على قدر من الذكاء لا يدانيه فيه أحد على وجه الأرض . 
والذكاء هو الاستعداد الداخلى الذى يواجه به الإنسان ما يعرض له فى الحياة وظروفها وأحداثها .. وهذه المواجهة تجرى بما يناسبها من استعداد وذكاء وملكات، وتتواكب طردياً وعكسياً مع مقدار الذكاء الذى يتفاوت من شخص لآخر، ولا يوجد ولم يوجد لدى جميع الناس بمقدار واحد أو بقوة واحدة، وتتجلى هذه الفوارق حين نقارن ذكاء البدائى بأوساط الناس، أو حين نقارن ذكاء هؤلاء بذكاء أمثال نيوتن أو أرشميدس أو أينشتين ! 
  واختيارات الشخص أى شخص تتبع ذكاءه، وهذه الاختيارات حتى لدى الأذكياء دائما احتمالية .. بمعنى أنها مقارنة وترجيح وتفضيل احتمال على غيره من الاحتمالات . ومن الملحوظ أن الذكاء يختلط بالمهارات، والإتقان هو ثمرة وعلى قدر هذا الاختلاط .. فإذا كان البشر بعامة أذكياء فى إشباع حاجاتهم وتحقيق أغراضهم والوصول إلى غاياتهم أياً كانت، فإنهم لا يتقنون فى كل الأحوال أداء ما يفعلونه أو يؤثرونه أو يفضلونه !
 ربما لأن الإتقان يحتاج إلى الجهد والمثابرة والمعاناة، ومن ثم فإن الرغبة فى تحقيقه تقتطع بشكل أو بآخر من راحة أو حرية الساعى إلى الإتقان .
 وأنت تستطيع أن تراقب هذا الإتقان بهذا المعنى فى بعض النباتات من الأشجار إلى الطحالب والأعشاب، وفى الفيروسات والبكتريا والفطريات، وفى الحشرات والطيور، وفى الثدييات والحيوانات العليا .
 وربما كان وجود الاستعداد للإتقان قد سبق وجود الاستعداد للذكاء فى قاموس الحياة، وهو قاموس بالغ السعة يبدو أنه يجمع عناصره فيتراكم جديدها على قديمها، وربما كان هذا التراكم والتراكب ضمن خطوات الكون والحياة فى النمو والترقى .. وقد نرى آية ذلك فى « الأجهزة » التى تؤدى وظائفها آليا بلا إرادة أو اختيار لدى كافة المخلوقات. 
ومن قديم الزمن، عرف الإنسان الآلة التى تخضع فى تشغيلها أو أدائها لإرادته وقوته، ثم عرف الآلة التى لا تخضع للقوة أو الإرادة إلاّ من بعيد .. أو من بعيد جدًا . لأن هذه الآلة من اختراع إنسان غيره، ومن صناعة وإنتاج إنسان آخر .. ومن ثم فلا تتدخل إرادة من يستعملها فى مستوى دقتها أو أدائها، وإنما يكون ذلك موافقا لما كان عليه إتقان مبتكرها أو صانعها ومنتجها . بل لم يعد إتقان أداء الآلة فى يد صاحب الآلة أو الماكينة أو طوع إرادته واختياره وتحت سيطرة ذكائه .. لأن الإتقان قد سبق من قبل إن كان إلى السيارة أو الطائرة أو القطار عند الصناعة والإنتاج .. ولذلك فإن مهارة القائد أو المدير تقتصر على إتقان أو عدم إتقان التشغيل .. دون مواصفات الآلة أو الماكينة التى لازمها درجة ما هى عليه من إتقان منذ تصنيعها وإنتاجها.  
 هكذا يصنع ذكاء البشر أوعية وأكسية لاستيعاب أحلامهم وأشواقهم ومحاكاتهم وغرورهم كجماعات وأفراد ليزدادوا لا ذكاءً على ذكاء وإنما ثراءً وشهرة .. بهما يتحقق النفـوذ فـى أى جماعة .. فما فى تكوين مدنيتنا الحالية هو قشرة سطحية ضخمة من الذكاء تستخدم إتقان المتقنين فى جذب ملايين الناس من كل حدب وصوب، من الأذكياء وغير الأذكياء، ومـن الأغبياء وأشباه الأغبياء !
 وهذا أخطاره هائلة لا تكاد تحصى على الحمقى وعلى الأذكياء معًا ! 
 وذلك الميل البشرى الغريزى إلى الكسوة بلباس أو ظاهر أو قشرة أكثر طلاوة وبريقًا، يبدو متقدمًا فى عيوننا أو متحضرًا طبقًا لتعبيرنا الحالى .. هذا الميل الذى يحشد ما يستطيعه ليسترعى الأنظار والإعجاب، ويلفت الأعين ويصرفها صرفًا ضريرًا عن التركيز على البشاعات الموجودة والمستشرية نتيجة للغفلة والتخلف السائدين بين الناس .. هذا الواقع المرّ شىء معروف يتردد ذكره وأثره من آلاف السنين فيما نسميه بالحضارات القديمة أو السالفة أو نسميه باللياقة والقيمة بالنسبة للأفراد !