من دفتر الاحوال

المواطن «صفر»

جمال فهمى
جمال فهمى

فى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، حينما كانت الثورة الصناعية والتقنية مازالت فى مطلعها ولم تصل بعد إلى مستوى القفزات الأسطورية شبه اليومية التى تعصف بحياة البشر حاليا، كتب الأديب والمسرحى الأمريكى الرائد إلمر رايس (1892-1974) نصا مسرحيا بديعا تناول فيه مبكرا (نسبيا) أزمة الإنسان فى عالم تتسارع فيه تكنولوجيا انتاج السلع والآلات بحيث صارت هذه الأخيرة تهدد بتغيير، ليس فقط  الكثير من أنماط الحياة الطبيعية المعتادة، وإنما تهدد الشرط الإنسانى نفسه إذ ينزلق الكائن البشرى باطراد نحو التشيؤ ويزيد البؤس وفقدان العدالة، بل ربما يتفاقم الأمر أكثر وأكثر فيتآكل الوجود الإنسانى نفسه وتحل الآلة مكان البشر خصوصا الأغلبية الضعيفة والفقيرة منهم.


أما المسرحية فاسمها «آلة الجمع» أو الآلة الحاسبة، وقد كتبها إلمر رايس وعرضت فى مدينة نيويورك عام1923، وتعمد إلمر رايس أن يسمى بطلها «مستر زيرو» ، وهو كما ترى عزيزى القارئ ، اسم يختصر معانى كثيرة تقولها المسرحية التى بنيت وقائعها فى فصلين متتابعين وخطين متوازيين وقد صاغها رايس فى مواضع كثيرة بلغة غرائبية تبدو أقرب للسريالية، رغما عن واقعيتها الشديدة التى لامست بقوة حال المجتمع الأمريكى آنذاك.


تحكى المسرحية حكاية «السيد صفر» هذا ، وحال وجوده وهو على قيد الحياة فى الدنيا ثم فى الآخرة التى أختار رايس أن يعيده منها إلينا لنتابع مسار هذا الرجل حتى عندما انتقل إلى الأموات بعد أن قتل مديره احتجاجا على استكمال تهميشه وتأكيد تفاهته وبؤسه وصفريته التى يكابدها فى كل مكان سواء فى البيت أو فى الشارع أو فى العمل .. نفهم أن السيد صفر كان عامل حسابات غلبان يمضى ساعات العمل المملة يجمع ويطرح ويضرب فى ارقام لا يعرف عنها شيئا سوى أنها كذلك، أى مجرد أرقام تكبر أو تصغر بينما هو مجرد صفر على الشمال لا قيمة له ولا يثير اهتمام أحد.


 إذن يبقى وضع صاحبنا الوظيفى هكذا حتى يقرر مديره أن يستغنى عنه مستبدلا إياه بآلة تقوم بما كان يفعله، عندئذ يثور على تلك الحياة الصفرية التى عاشها ويصب جام غضبه على مديره فيقتله وكأنه يقتل فى شخص هذا المدير كل مظاهر البؤس والتهميش وانعدام القيمة التى صبغت حياته كلها، لكنه يعرف متأخرا أنه ارتكب جريمته من دون إدراك أن قدرته على تغيير مصيره، محدودة بل صفرية.


هذه الحقيقة يكتشفها صاحبنا الصفر فى الآخرة حيث يفترض أنه يستطيع الاختيار بين مصائر مختلفة، لكنه يحتار حيرة عظيمة ويجد نفسه تائها متأرجحا بين عشرات الخيارات والمصائر، وفى لحظة يشعر بخوف ورعب شديدين من مصائر مجهولة لا يعرفها ولم يجربها أبدا، هنا يكون اختياره العودة الى ما كان عليه .. ببساطة اختار أن يعود صفرا كما تعود أن يعيش فى ماضى حياته على الأرض، لقد رأى فى حياته الماضية التى ثار عليها حتى القتل، بعض الأمان ، ولو كان أمانا وهميا !!