كتب :ياسر عبد الحافظ
فى السجل الحافل لمعرض القاهرة للكتاب دورات بارزة، تظل مهما مضى عليها من زمن علامة فارقة ليس فى تاريخ المعرض فحسب وإنما كذلك فى التاريخ المصرى بشكل عام، أحداثها، ندواتها، وما جرى فيها ساهم بصورة مؤثرة فى الأحداث الجارية فى زمنها، وربما يمتد تأثيرها إلى عهدنا. والدورة الـ13 للعام 1981 يمكنها ببساطة أن تكون نموذجا على هذا، هى من صنعت لمعرض القاهرة ذلك الصيت والتأثير، وكان من شأن السير على نهجها أن يضمن للمعرض مكانة خاصة على خريطة المعارض العالمية.. فى القاهرة فقط وعبر أسبوعين، أكثر أو أقل بحسب الظروف، خلطة يتجاور فيها الثقافى والسياسى والاجتماعي، تناغم بين الترفيه والمعرفة، مساحة لا يملكها أحد تتسع لصراع أفكار تمتد نتائجه وتفرض نفسها بعد انتهاء الفعاليات.
أربعون عاما وشهورا قليلة مضت على الدورة المقامة فى الفترة من 29 يناير إلى 9 فبرايرعلى أرض المعارض بالجزيرة. افتتحتها السيدة جيهان السادات وبصحبتها منصور حسن وزير الثقافة، والشاعر صلاح عبد الصبور رئيس الهيئة العامة للكتاب. قيمة تذكرة الدخول عشرة قروش للأفراد وخمسة للجامعات والهيئات والقوات المسلحة. شاركت فيها 19 دولة ومنظمة عربية وأجنبية بينها لأول مرة الدنمارك وأندونيسيا.
لا تبدو معلومات صالحة ليبقى التاريخ تلك الدورة على عتبته وليس بين صفحاته، لكن إن أضفنا أنها الدورة الأولى التى شاركت إسرائيل فى أعمالها ساعتها سيتوقف السيد تاريخ ويبدى اهتمامه، على أن يظل ما حدث تحت ذلك العنوان المثير رهنا بقدرة الأطراف، مختلفة الانتماءات، على سرد تفاصيله، كل من موقعه وحسب انحيازاته.
والواقع أن البحث فى السجلات وبين قصصات الجرائد وأرشيف المجلات وما تم تدوينه فى الكتب من شهادات، عما حدث فى تلك الدورة الاستثنائية، يثبت أن التاريخ يمكن خداعه بالعناوين الساخنة، يدونها ثم يتركها بحثا عن غيرهامهملا التحقق والتثبت مراهنا على أن للحقيقة وجوهامختلفة وحق الاختيار يبيح تعدد زوايا النظر!
هل يعنى هذا أن إسرائيل لم تشارك فى فعاليات دورة المعرض الـ13؟
لم تكن هناك أى إشارة رسمية إلى مشاركة إسرائيل، والتصور الذى قد يتبادر إلى الذهن أن حجب الإعلان عن المشاركة الإسرئيلية جاء تفاديا لتصعيد المواقف مبكرا، وأن المسؤولين علقوا الآمال على أن تنقضى الدورة عبر وجود إسرائيلى هامشى من خلال توكيل إدكو إنترناشيونال بسراى 7، لكن ما ليس مفهوما وفق هذا السيناريو أن يقع الجناح الذى تشارك ضمنه إسرئيل ببعض أعمال كتابها، مباشرة أمام جناح االفتى العربيب الفلسطيني، والذى يجمع رواة الحدث على أنه زين كل واجهته بأعلام فلسطين، وأنه خلال زيارة للسفير الإسرئيلى إلياهو بن اليسارحاول بعض معاونيه تغطية الأعلام الفسطينية بأعلام وملصقات إسرائيلية فحدثت مواجهة بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى غادر على وقعها السفير الإسرائيلي.
الأخبار تشير إلى أن المعرض نظم خلال تلك الدورة لأول مرة ندوة ثقافية حول لغة الكتاب للطفل بإدارة سهير القلماوى وليس من الواضح ما الذى جرى فيها بعد تحول أرض المعرض إلى ساحة للرفض والمواجهة، ولتوزيع البيانات الداعية إلى المقاطعة اوفى الأسبوع الأخير من يناير 1981، كنت واحدا من صف طويل ينتمى بعضه لجيلنا، وينتمى آخرون لجيل الأباء ولجيل الأبناء، وقفوا جميعا أمام الجناح الصهيونى فى معرض القاهرة الدولى الثالث عشر يوزوعون بياناب.هذا ما حكاه صلاح عيسى فى مقال تحت عنوان اخروج عن النصب فى االآدابب البيروتية عام 1984، صلاح الذى ألقى القبض عليه مع حلمى شعراوى على خلفية تلك الأنشطة، هو نفسه من يعود ليقرأ المشهد نفسه بعد ثلاثين عاما وينقل عنه مؤلفا الكتاب الصادر حديثا احكايات من دفتر صلاح عيسى، هاجر صلاح ومحمد الشماع، وجهة نظر أخرى فى المسألة الم يكن هناك وجود صهيونى بالمعنى المفهوم وقتها، أو حتى ما أشيع واستمر فى أذهان البعض إلى الآن، أى لم يكن هناك جناحا إسرائيليا ولا دياوله، الأمر كان مجرد جناح هولندى يعرض كتب لمثقفين يهود. فقط هذا ما حدث، فلا وجود لجناح أو علم أو حتى مظاهرات..ب.
تمثيلية على حد وصف الكتاب نفسه، ليس المشاركة الإسرائيلية بل القبض على صلاح عيسى وحلمى شعراوى اللذان نقلا إلى سجن القلعة ليمكثا فيه 25 يوما. يصف حلمى الأمر على هذا النحو االنيابة ذاتها لم تكن تميل لتصعيد الموضوع وتحويله إلى اقضيةب. يسأله المحقق: ما أقوالك بشأن المنشورات التى كانت بحوزتك لحظة القبض عليك؟ فيجيب حلمى كنت أقرأها فقط لا غيرب فيلمح المحقق للمحامى بأن يتراجع موكله عما قاله، ويعدل أقواله بأنه كان فقط يسير بالقرب ممن يوزعون المنشورات بالصدفة. فيستجيب حلمىب.
ما الذى دعا صلاح عيسى لتغيير رؤيته للحدث بعد تلك السنوات؟ وكيف يمكن فهم شهادة حلمى شعراوى وتساهل النيابة فى التحقيقات؟ تكشف جريدة السفير فى تغطيتها الصحفية للحدث فى الأول من نوفمبر 81 أن الشاعر صلاح عبد الصبور رفض المشاركة الإسرائيلية بحجة أنها تأخرت عن تقديم طلبها فى الموعد المحدد فما كان من إسرائيل إلا الاتصال بالرئيس السادات تضغط لأجل المشاركة وتربط قضية التطبيع بذلك، فصدرت أوامر رئاسية بقبول الاشتراك، لكن صلاح عبد الصبور يتمكن للمرة الثانية من التصدى ويحجم الرغبة الإسرائيليين العارمة فى التواجد بقلب القاهرة، من مشاركة رسمية إلى السماح لبعض الناشرين الإسرائيليين ببيع كتبهم من خلال مكتبة اهاشيت لكن الحساسية المصرية التاريخية تجاه أى احتلال، والتضامن المبدأى مع القضية الفلسطينية، لم يقبلا التواجد الإسرائيلى ولو كان رمزيا، لتنتج حركة معارضة واسعة من الجمهور والثقافة المصرية أسفرت عن نقل جناح هاشيت بعيدا عن جناح االفتى العربيب ويبقى محاصرا بقوات الأمن.
السفير تنقل فى تغطيتها تصريحا لافتا من وكالة (أ ف ب) لمسؤول فى الخارجية المصرية يؤكد أنه لم يكن لسفير إسرائيل فى مصر أن يرفع العلم الإسرائيلى فى المعرض الذى يضم ممثلين لدور النشر وليس ممثلين لدول.
هل يمكن فى ضوء هذا كله إعادة قراءة ما جرى فى الدورة 1981؟ خاصة وأن نتائج تلك الدورة انضمت مع عناصر أخرى لتسهم فى رسم ملامح لعام امتلأ بالعنف وانتهى بمشهدى رحيل مأساويين، أحدهما سياسى والآخر ثقافي، لبطلين كل فى موقعه وبحجم مسؤولياته كان مشاركا فى خروج الدورة الـ13 على ما انتهت إليه: الزعيم السادات والشاعر صلاح عبد الصبور.
لكن الأمور فى القاهرة لا تبدو أبدا على هذا القدر من البساطة، ولا يمكن الإحاطة بها حتى ولو بقراءة المتناقضات، كيف يمكن مثلا فهم السياق الذى كانت تجرى فيه تلك الأحداث وفى الزمن نفسه وعلى الأرض نفسها، يتحرك الكاتب المسرحى الأمريكى آرثر ميللر، والذى كان يزور مصر ضيفا على صديقه الأمير صدر الدين خان حيث يقيم معه فى حارة درب اللبانة بحى القلعة، بيت المعمار المصرى) زار ميللر، الذى انصب جانب كبير من الاهتمام به على علاقته بمارلين مونرو، أسوان لأسبوعين وعاد ليتم لقاءاته، بقدم مكسورة، مع المثقفين المصريين فى القاهرة زيارة ميللر الطويلة، جاءت فى خضم تقلبات حادة تسود منطقة الشرق الأوسط بأكملها، خريطة مليئة بالتفاصيل، وتاريخ قابل للمراجعة طوال الوقت، تناقضات ليس من السهل فهم تجاورها، لكن ومن حسن الحظ أنه وخلال دورة 1981 وأمام سراى 7،كان فى الإمكان: أخذ قسط من الراحة فى الاستراحات المخصصة لذلك.. مع تناول الوجبات الخفيفة والمشروبات الدافئة والمثلجة.. هناك كان للزوار رؤية التاريخ يتمشى بينهم حاملا أوراقه وأقلامه يستعد لأعمال دورة تفتتح عاما لن يكف فيه عن التدوين!