مهمته فنية وبريء من ركاكة اللغة

ترجمة «أنيس عبيد».. وسر لعنات رواد السينما

أنيس عبيد مع أحد معاونيــــــه أثنــاء عمله فـــى المعمــل
أنيس عبيد مع أحد معاونيــــــه أثنــاء عمله فـــى المعمــل

كتب : أحمد الجمَّال

تحفل أعداد أميرة المجلات "آخرساعة" منذ عقود طويلة بموضوعات شائقة، ربما طاولها غبار الزمن، لكنها لا تزال تحمل رائحة العبق، وحين يقع تحت يدك عددٌ عتيق منها فهو بمثابة كنز يلقى هالة ضوء على مرحلة مهمة من تاريخ الصحافة، بل وتاريخ مصر عموماً فى ذلك الوقت.

وفي السطور التالية نستعرض «كنوز الأميرة» وما فيها من صفحات الماضى الجميل منذ أعوام وأعوام قبل أكثر من نصف قرن من الزمان.

تخرَّج أنيس عبيد (1909-1988) فى كلية الهندسة، وبعدها سافر إلى فرنسا، للحصول على درجة الماجستير فى الهندسة، لكن سرعان ما ارتبط اسمه بترجمة الأفلام السينمائية، وقد تابعت أجيال متتالية فى مصر والعالم العربي، الأفلام الأجنبية التى كانت تُعرض فى دور السينما مرفقة بترجمة لغة الحوار إلى العربية، حيث كانت تظهر فى نهاية الفيلم عبارة «ترجمة أنيس عبيد».

ويظن غالبية المشاهدين أن أنيس عبيد شخصياً كان يقوم بنقل أفلام هوليوود إلى لغتنا الجميلة، لكن تقريراً نشر فى «آخرساعة» عام 1969، أزال هذا اللبس، وأوضح أن مهمة الرجل كانت فنية فقط، وأن ركاكة الترجمة التى كانت سبباً فى أن يصب بعض المشاهدين لعناتهم على أنيس عبيد لم يكن له دخل بها.. فى السطور التالية نعيد نشر حكاية ترجمة الأفلام فى معامل أنيس عبيد.

التطورات التى مرت بها ترجمة الأفلام الأجنبية إلى اللغة العربية تعتبر إحدى الخطوات البارزة فى تاريخ السينما فى مصر، بل إنها تمثل كفاحاً طويلاً لهذا البلد فى سبيل تقدمه واسترداده لحقوقه واعتزازه بقوميته، فمنذ ثلاثين سنة مثلاً، كانت الأفلام الأجنبية - وكانت السينما وقتذاك صامتة لم تنطق بعد - تُعرض بدون أى ترجمة عربية، وكان يُكتفى بالترجمة الفرنسية التى توضع على شاشة مستقلة تحت الشاشة التى يعرض عليها الفيلم. وكان المصريون الذين يشاهدون الأفلام فى ذلك الوقت يقتنعون بهذه الترجمة التى تعبِّر لهم عما تُصوّره المشاهد المعروضة عليهم.

أنيس عبيد

وبعد أعوام رأت دور العرض الصغيرة، وهى من الدرجة الثانية أو الثالثة، أن تعرض للأفلام ترجمة عربية لتشجِّع الطبقات المتوسطة والفقيرة على ارتيادها، ولذا ابتكر أسلوب جديد للترجمة يقتضى وضع شاشة جانبية تظهر عليها الترجمة العربية.. وعُرفت هذه الترجمة دائماً بضعف أسلوبها وبأنها ركيكة، وذلك لأنه كان يعهد بترجمة الأفلام إلى بعض الأجانب الذين لا يعرفون من اللغة العربية إلا القدر الذى نعرفه نحن من اللغة الصينية أو اليابانية.. وفضلا عن ذلك فقد كانت هذه الترجمة تظهر فى بعض الأحيان مع الفيلم، وفى معظم الأحيان تسبق الفيلم نفسه أو تتأخر عنه فترة من الزمن لأن الذى كان يدير الجهاز من الداخل لم يكن يدرى شيئاً عن مطابقة هذه الترجمة للمشاهد المعروضة أو عدم مطابقتها.

الصحافة تثور

ومنذ 20 عاماً تقريباً، قامت على صفحات الجرائد والمجلات ثورة عاتية، فقد نادى الكتَّاب تمشياً مع الوعى القومي، بضرورة احترام لغة البلاد الرسمية ووضعها فى المكان اللائق على الشاشة.

وقد تبنى هذه الفكرة وعمل على تنفيذها شاب يُدعى أنيس عبيد، عز عليه أن يرى لغة بلاده قليلة مهملة، فأخذ يدرس الأساليب التى تتبعها الدول التى تحترم نفسها وتعتز بكرامتها فى ترجمة الأفلام إلى لغتها، ولم يكتفِ بدراساته الخاصة بل شد رحاله إلى أوروبا، حيث درس بنفسه الأجهزة التى تتم بها هذه العملية التى تحتاج لكثير من الدقة والمثابرة.

وكان له ما أراد، فعاد إلى وطنه وفى جعبته فكرة تامة عمّا يجب عمله لتحقيق هذا الهدف الذى كانت الصحافة تنادى به ليل نهار، وأخيراً اقتنعت الحكومة بضرورة إلغاء الشاشات الجانبية، وصدر قرار بإلزام شركات السينما بترجمة الأفلام إلى اللغة العربية ووضع هذه الترجمة على الفيلم نفسه، وقد نُفِذ هذا القرار منذ خمسة عشرة عاماً تقريباً، وكان أول فيلم ظهرت ترجمته من صنع أنيس عبيد.

أول معمل

وبدأ أنيس عبيد عمله فى دائرة ضيقة وبأجهزة محدودة، لكن بمثابرته استطاع أن يخرجها إلى نطاق أوسع، وأن ينشئ لنفسه معملاً خاصاً اتسع على مر الأيام حتى أصبح أكبر معمل من نوعه فى مصر والشرق الأوسط كله، وهذا المعمل يتولى طبع الترجمة لمعظم الأفلام الأمريكية والإيطالية والفرنسية التى تُعرض فى مصر والبلاد العربية، كما أنه يقوم بطبع الترجمة الفرنسية التى نراها فى كثير من الأحيان على الأفلام المصرية.

ويعتقد معظم رواد السينما أن أنيس عبيد هو الذى يترجم الأفلام، ولذا يصبون عليه اللعنات، كلما لاحظوا ركاكة فى اللغة والأسلوب مع أنه برىء من هذه التهمة، حيث إن الشركات نفسها صاحبة الأفلام هى التى تقدِّم له الترجمة العربية أو الفرنسية وهو يطبعها على النسخ (الموجبة) للأفلام فمهمته فنية وليست مهمته الترجمة.

وتضم المعامل التى أسسها أنيس عبيد أكثر من خمسين موظفاً تولى هو بنفسه تدريبهم وتعليمهم هذه المهنة التى استلزمت جهداً كبيراً فى استيعابها، وقد صمم هو جميع آلات معامله، وقد صنعت محلياً ومع ذلك فهى أفضل من الآلات الأوروبية، حتى أن كثيراً من الشركات الأوروبية ابتاعت منه بعض آلات طباعة الأفلام، كما باع هو بعض هذه الآلات إلى بلدان الشرق الأوسط.

ولم يكتف أنيس عبيد بذلك، بل إنه صنع جهازاً لطبع الترجمة على أفلام مقاس 16 مليمتراً، وهو يعد الجهاز الأول من نوعه فى العالم، كما أنه يعتبر من أدق الأجهزة.

(«آخرساعة» 9 ديسمبر 1952)