البستان

في رثاء الشاعر الأخير .. سعدي

سعدي
سعدي

محمد‭ ‬شعير

مثل‭ ‬النحات‭ ‬الذى‭ ‬يرى‭ ‬التمثال‭ ‬كامنا‭ ‬فى‭ ‬الكتلة‭ ‬الحجرية‭ ‬المصمتة،‭ ‬كان‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ (‬1934-2021‭) ‬يرى‭ ‬القصيدة‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬شئ‭ ‬يحيط‭ ‬به‭: ‬مشاهد‭ ‬الطبيعة،‭ ‬غابات‭ ‬النخل،‭ ‬وجوه‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬نشرة‭ ‬الأخبار،‭ ‬الحوار‭ ‬العابر‭ ‬مع‭ ‬مترجل‭ ‬فى‭ ‬الشارع،‭ ‬أرواق‭ ‬الأشجار‭ ‬المتساقطة،‭ ‬صورة‭ ‬كوندليزا‭ ‬رايس‭ ‬أمام‭ ‬البيانو،‭ ‬الصواريخ‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬بغداد،‭ ‬بوابة‭ ‬بناية‭ ‬ونوافذها،‭ ‬يافطات‭ ‬الشوارع،‭ ‬مؤامرات‭ ‬الساسة‭ ‬وأحاديثهم‭ ‬على‭ ‬شاشات‭ ‬التلفاز،‭ ‬وابتساماتهم‭ ‬فى‭ ‬الصور‭ ‬الملفقة‭ ‬فى‭ ‬الجرائد،‭ ‬صيادو‭ ‬السمك،‭ ‬ميادين‭ ‬العواصم،‭ ‬وحانات‭ ‬العالم،‭ ‬أوراق‭ ‬الأشجار‭ ‬المتساقطة‭ ‬فى‭ ‬الخريف،‭ ‬كأس‭ ‬النبيذ،‭ ‬قبلات‭ ‬العاشقين،‭ ‬النوافذ‭. ‬الصمت‭ ‬أيضا‭ ‬لدى‭ ‬صاحب‭ ‬االأخضر‭ ‬بن‭ ‬يوسفب‭..‬كان‭ ‬شعرا‭.‬

عندما‭ ‬ولد‭ ‬سعدي،‭ ‬اختار‭ ‬والده‭ ‬أن‭ ‬يسمّيه‭ ‬امحمد‭ ‬سعديب‭ ‬وظل‭ ‬يحمل‭ ‬الاسم‭ ‬لسنوات،‭ ‬حتى‭ ‬صدر‭ ‬قانون‭ ‬يمنع‭ ‬الأسماء‭ ‬المركّبة،‭ ‬فاختار‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يسمى‭ ‬نفسه‭ ‬اسعديب‭. ‬اختار‭ ‬اسمه‭ ‬بنفسه،‭ ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬المصادفات،‭ ‬ربّما،‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬الشاعر‭ ‬الفارسى‭ ‬الشهير‭ ‬سعدى‭ ‬الشيرازي‭. ‬يقول‭: ‬اقرأت‭ ‬باكراً‭ ‬قصائده‭ ‬التى‭ ‬كتبها‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬مقلّداً‭ ‬المتنبي‭. ‬وقرأتُ‭ ‬قصائده‭ ‬المترجمة‭ ‬عن‭ ‬الفارسية‭ ‬وهى‭ ‬الأجمل‭. ‬قرأت‭ ‬حافظ‭ ‬أيضاً‭. ‬وحين‭ ‬خرجت‭ ‬لأوّل‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬قصدت‭ ‬مدينة‭ ‬شيراز،‭ ‬حيث‭ ‬ضريحاهما‭ ‬يتوسّطان‭ ‬المدينة،‭ ‬محفوفين‭ ‬بالورد،‭ ‬كما‭ ‬أنّنى‭ ‬سمّيت‭ ‬ابنتى‭ ‬الصغرى‭ ‬شيراز‭. ‬إنّها‭: ‬اشيراز‭ ‬سعديب‭. ‬أما‭ ‬كيف‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬صوته‭ ‬الشعرى‭ ‬الخاص‭ ‬كما‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬اسمه،‭ ‬فتلك‭ ‬مسألة‭ ‬أخرى‭: ‬اكانت‭ ‬البداية‭ ‬فى‭ ‬أواخر‭ ‬الأربعينيات‭. ‬لم‭ ‬ألتحق‭ ‬بركب‭ ‬القصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬إلا‭ ‬متأخراً‭ ‬عام‭ ‬1959‭. ‬اتجهت‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬التفعيلة‭ ‬بعدما‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭. ‬هذا‭ ‬التأخير‭ ‬جاء‭ ‬لأننى‭ ‬كنت‭ ‬أتهيّب‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الشعر،‭ ‬كأننى‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬هاوية‭ ‬لا‭ ‬قرار‭ ‬لها،‭ ‬كنت‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬14‭ ‬عشر‭ ‬قرناً‭ ‬وأتساءل‭: ‬كيف‭ ‬أجد‭ ‬مكاناً‭ ‬لى‭ ‬وسط‭ ‬هؤلاء؟ب‭.‬

اكتشف‭ ‬سعدى‭ ‬أنّ‭ ‬الفرد‭ ‬العادى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬نصيب‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭. ‬كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬للمجموع‭. ‬الفرد‭ ‬غائب‭ ‬أو‭ ‬مغيَّب‭. ‬هكذا‭ ‬قرّر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬االفرد‭ ‬العادى‭ ‬ملهمي،‭ ‬لأتحدّثْ‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬البسيط‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬اليومية،‭ ‬لأتابع‭ ‬المنسيَّ،‭ ‬والمهملَ،‭ ‬والمسكوتَ‭ ‬عنه‭. ‬قلت‭ ‬فلأكن‭ ‬بسيطاً،‭ ‬ولتكن‭ ‬لغتى‭ ‬كذلكب‭.‬

لكن‭ ‬روحه‭ ‬ظلّت‭ ‬قلقة‭. ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يصل‭ ‬صاحب‭ ‬اقصائد‭ ‬أقل‭ ‬صمتاًب‭ ‬إلى‭ ‬مقترح‭ ‬جمالى‭ ‬وفنّى‭ ‬فى‭ ‬قصيدته‭ ‬حتى‭ ‬يغادره‭ ‬إلى‭ ‬مقترح‭ ‬جديد‭. ‬ومن‭ ‬هنا،‭ ‬كان‭ ‬سعدى‭ ‬فاتحاً‭ ‬للسكك‭ ‬التى‭ ‬استلهمها‭ ‬شعراء‭ ‬كثيرون‭ ‬لاحقاً‭. ‬أصبحت‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬هدفاً‭ ‬شعرياً‭ ‬له‭. ‬الموقف‭ ‬والمشاهد‭ ‬العابرة‭ ‬تصلح‭ ‬لتكون‭ ‬قصيدة‭ ‬شعرية‭. ‬وضح‭ ‬فى‭ ‬حوار‭ ‬معه‭: ‬اربما‭ ‬كانت‭ ‬مساهمتى‭ ‬الحقيقية‭ ‬أنّنى‭ ‬أسهمت‭ ‬فى‭ ‬ديموقراطية‭ ‬النصّ‭ ‬الشعرى‭ ‬العربي‭. ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أجعله‭ ‬متاحاً‭ ‬وأقل‭ ‬نخبوية‭ ‬وأن‭ ‬أخلّص‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬البلاغة،‭ ‬وأدخل‭ ‬مبدأ‭ ‬السرد‭ ‬بشكل‭ ‬دائم،‭ ‬وأن‭ ‬أخفف‭ ‬من‭ ‬الإيقاع‭ ‬العالى‭ ‬فى‭ ‬العروض‭ ‬رغم‭ ‬أننى‭ ‬استخدم‭ ‬البحور‭ ‬ذاتها،‭ ‬إنما‭ ‬بطريقتيب‭.‬

ربما‭ ‬لهذا‭ ‬صار‭ ‬سعدى‭ ‬الأقرب‭ ‬للأجيال‭ ‬الشعرية‭ ‬الجديدة‭: ‬حتى‭ ‬إنّ‭ ‬بعضهم‭ ‬يعتبره‭ ‬الأب‭ ‬الروحى‭ ‬لقصيدة‭ ‬النثر‭ ‬العربية‭. ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬راهنه‭ ‬وهو‭ ‬يكتب‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬اقصيدة‭ ‬موزونة‭ ‬فى‭ ‬هيئة‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬موزونة‭ ‬ب‭. ‬الوزن‭ ‬ليس‭ ‬الحدّ‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬الأدبية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬عامل‭ ‬من‭ ‬العوامل،‭ ‬كان‭ ‬يعنيه‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الشعرية‭. ‬كان‭ ‬سعدى‭ ‬إذن‭ ‬فاتح‭ ‬سكك‭ ‬وآفاقا‭ ‬جديدة‭ ‬للشعر‭ ‬والفن‭.‬

عاش‭ ‬سعدى‭ ‬رحالة‭ ‬بين‭ ‬المدن،‭ ‬منفيا‭ ‬ولكنه‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬حل‭ ‬به‭ ‬كان‭ ‬يروض‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬مكافحة‭ ‬الحنين‭ ‬لأماكن‭ ‬الطفولة‭ ‬والصبا‭ ‬واالسماء‭ ‬الأولىب،‭ ‬لأن‭ ‬االنوستالجيا‭ ‬معوِّقة،‭ ‬تفقِد‭ ‬الفنانَ‭ ‬توازنَه‭ ‬الضرورى‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬مادّتهب،‭ ‬ولأنّ‭ ‬اجنة‭ ‬الطفولة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬الآنب‭. ‬هذه‭ ‬الجنة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قائمة‭ ‬إلا‭ ‬فى‭ ‬الذاكرة‭ ‬الطفوليّة‭ ‬التى‭ ‬دأب‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬استحضارها‭.‬

صار‭ ‬العراق‭ ‬عنده‭ ‬اأيقونةب،‭ ‬سلسلة‭ ‬ذهبية‭ ‬تتدلّى‭ ‬من‭ ‬رقبته‭ ‬أهداها‭ ‬إليه‭ ‬فى‭ ‬السويد‭ ‬اجواهرجى‭ ‬عراقىب‭. ‬هكذا‭ ‬تجاوز‭ ‬صاحب‭ ‬اقصائد‭ ‬مرئيةب‭ ‬فكرة‭ ‬المنفى‭ ‬الأبدى‭ ‬التى‭ ‬ارتبطت‭ ‬به،‭ ‬لأنّ‭ ‬كلمة‭ ‬االنفى‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬صالحة‭. ‬كل‭ ‬أرض‭ ‬حللتُ‭ ‬بها،‭ ‬أعتبرها‭ ‬أرضيب‭.‬

اعتبر‭ ‬سعدى‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬معلّمه‭ ‬الأوّل‭. ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬قرابة‭ ‬ونسب‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬تأثيره‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬البدايات‭. ‬يقول‭: ‬اكان‭ ‬الأعمقَ‭ ‬تأثيراً‭ ‬فىّب‭. ‬وفى‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬سعدى‭ ‬الأولى‭ ‬تحضر‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬التى‭ ‬يراها‭ ‬اأهم‭ ‬شاعرة‭ ‬عربية‭ ‬فى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭... ‬هى‭ ‬فاتحة‭ ‬طريق،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬الأكثر‭ ‬بحثاً‭ ‬فى‭ ‬الشكل‭ ‬الشعرىب‭.‬رحل‭ ‬سعدى،‭  ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬الرثاء‭ ..‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يرثى‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬عليه‭ ‬الحزن،‭ ‬وهو‭ ‬العاشق‭ ‬للشعر‭ ‬والأمل‭ ‬والحياة‭. ‬نحتفى‭ ‬به‭ ..‬لا‭ ‬نرثيه‭!‬