كتب "محمد سلماوى
فى يوم الثلاثاء ٢٥ يناير ٢٠١١، انبثقت فجأة من قلب ميدان التحرير زهرة خلابة من أزهار عباد الشمس بهرت العالم أجمع، حيث انطلقت ثورة شعبية قدر لها أن تغير وجه الحياة فى البلاد، وتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ مصر الحديث، وسرعان ما نبتت أزهار مماثلة فى بقية أنحاء البلاد، فما أُعلن عنه كمظاهرة لبعض الشباب الناشطين سياسيًّا بمناسبة عيد الشرطة، تحول بفعل تراكمى ممتد عبر أربعة عقود إلى انفجار شعبى ضخم، ظل يتسع مداه من ميدان التحرير إلى بقية شوارع وميادين القاهرة. وانتشرت تلك الأزهار، رموز الأمل والتجدد، من القاهرة إلى بقية مدن الجمهورية، حتى اكتست أرض مصر الطيبة بتلك الزهور المتطلعة دومًا إلى حيث الشمس الساطعة. وما بدأ كمطلب للمتظاهرين بتعديل مادتين فى الدستور، وتغيير الحكومة، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، تصاعد ونما مع الزهور التى تفتحت فى جميع أنحاء البلاد حتى تمكن، بعد ١٨ يومًا فقط، من إزاحة السحب الداكنة التى حجبت ضوء الشمس سنين طويلة، فسقط نظام الحكم الذى تمترس فى الأرض ثلاثة عقود فى ثبات وجمود سُمىِّ خطأ بـ«الاستقرار».
كان الإخوان المسلمون قد أصدروا إلى جميع أعضاء الجماعة أمرًا صريحًا بعدم المشاركة فى مظاهرات ٢٥ يناير، وكذلك السلفيون الذين أعلنوا صراحة أن الشرع يحرم الخروج على الحاكم. لكن مع اتساع مدى المظاهرات وتحولها إلى ثورة شعبية، غير كل من الإخوان والسلفيين موقفهم بين ليلة وضحاها، ونزلوا الميدان طامعين فى ثمار تلك الثورة.
كان ميدان التحرير مفتوحًا للجميع، واحتضن كل أطياف المشهد السياسي، وكل فئات المجتمع ومختلف الطبقات الاجتماعية وجميع الأعمار. لكن فى قلب الثورة كان الشباب الأنقياء البعيدون عن الأيدولوجيات السياسية، وإن جاءت شعاراتهم مرددة بالسليقة للأفكار والمبادئ التى طرحتها الثورة الأم عام ١٩٥٢، والخاصة بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ومدنية الدولة، كما رفع البعض صور عبد الناصر الذى جسد هذه المطالب.
وكنت قد أصدرت قبل الثورة بأسابيع قليلة روايتى «أجنحة الفراشة»، التى انتهت أحداثها بقيام ثورة كبرى فى ميدان التحرير يقود شعلتها الشباب، مستخدمين وسائط الاتصال الحديثة، وانضمت إليهم بقية فئات الشعب، ما أصبح يهدد الحكم القائم، فأُعلن حظر التجول وطُلب من القوات المسلحة أن تتدخل، لكن قيادة الجيش رفضت ذلك اتساقًا مع تاريخها الوطني، ما تسبب فى سقوط الحزب الحاكم وترنح النظام.
انتهيت من الرواية فى سبتمبر ٢٠١٠ وسلمتها للصديق الناشر محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين وصاحب الدار المصرية اللبنانية التى كانت تنشر أعمالى فى ذلك الوقت. ونظرًا لحساسية موضوع الرواية قلت له أن يقرأها ويخبرنى برأيه من دون أن أطلب منه صراحة نشرها. ولم يمضِ أسبوع حتى اتصل بى فسألته عن رأيه فى الرواية فقال:
- أعجبتنى جدًّا، لكنها تودى فى داهية!
لم يكن أحد قد قرأ الرواية قبل محمد رشاد إلا اثنان من الأصدقاء النقاد أعتبرهما - ويعتبرهما غيرى - أكبر ناقدين عربيين فى وقتنا الحالي، وقد حثنى أحدهما على نشرها. أما الثانى فقد أخبرنى محمد رشاد أنه حذره من نشر الرواية. فقلت له:
- ليس من الضرورى أن تنشرها، لقد أردت فى الأساس استطلاع رأيك كناشر كبير أثق فى تقديره.
فاستدرك بسرعة:
- من قال لك إننى لن أنشرها؟ سأنشرها بالتأكيد. وسنبدأ التحضير لها على الفور حتى تنزل فى معرض الكتاب فى يناير القادم.
ومضى نحو شهرين انشغلنا خلالهما بمراجعة «البروفات» والغلاف الذى صممه الفنان أحمد اللباد، وكان قد صمم غلاف مجموعتى القصصية «إزيدورا والأتوبيس» الصادرة عن الدار نفسها قبل ذلك بسنتين. وفى شهر ديسمبر طُرحت الرواية فى الأسواق حتى تكتسب موقعًا على الساحة يجعلها تدخل معرض الكتاب فى الأسبوع الأخير من يناير، وقد سبقتها سمعة تساهم فى ترويجها بالمعرض. لكن ما هى إلا أيام واندلعت فجأة الثورة التونسية التى لم يتوقعها أحد. وأحسست أن الدهشة التى يمكن أن تولدها فكرة قيام ثورة فى الوطن العربى للمرة الأولى منذ عام ١٩٥٢، والتى طرحتها فى الرواية، لا بد ستقل بعدما تحققت النبوءة فى تونس، أو على الأقل سيقال إننى استلهمت روايتى من ثورة تونس ولم أقدم طرحًا جديدًا غير منقول عن الأحداث الجارية.
على أن الترحاب الذى قوبلت به الرواية، التى حملت رقم إيداع وترقيمًا دوليًّا صادرين عام ٢٠١٠، غطى على كل ذلك. وكان الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل أول من أفرد لها مقالًا كاملًا فى «الأهرام»، أكد فيه قيمة الرواية ووصفها بأنها «رواية مثيرة»، وأنها «سبيكة من الأدب الرفيع تتضمن عصارة ثقافية عالية فى فنون التشكيل والموسيقى والحياة، مع اقتدار فذ على صناعة الرموز وتكثيف المشاعر وتتبع التحولات الإنسانية والمجتمعية». وفى استعراضه لأحداث الرواية يوضح الدكتور فضل أن هناك خطين دراميين متوازيين، أحدهما يتعلق بقصة ضحى مصممة الأزياء التى تبحث عن هويتها، والثانى يتعلق بالشاب أيمن الذى يبحث عن أمه التى طلقها والده وهو طفل وكان يظنها ماتت، والحقيقة أن جميع شخوص الرواية يبحثون عن أنفسهم داخل وطن يبحث عن نفسه هو الآخر، وفى النهاية لا يتلاقى كل هؤلاء إلا بخلاص الوطن فى ميدان التحرير، فيقول الدكتور فضل فى نهاية مقاله:
«عندئذٍ يطل السيناريو الشجاع الذى يرسمه محمد سلماوى لمستقبل مصر... حيث تصبح بوتقة الوطن هى البؤرة التى يتجمع فيها الشعاعان المتوازيان على طول الرواية، وتلتقى فيها المصائر، وهى تمضى نحو شمس المستقبل. »
وتوالت المقالات، فكتبت جريدة «المصرى اليوم»: «تعرض الرواية لعوالم جديدة طارئة على الرواية العربية على مستوى الطرح السياسى الذى جاء كتوليفة متماسكة وموضوعية مع النسيج السردى للعمل... ولا نغالى إذا قلنا إنه يمكن اعتبارها شهادة روائية وإنسانية على اللحظة التاريخية التى تعيشها مصر».
وكتبت جريدة «نهضة مصر»: «يقدم محمد سلماوى حكايات أجاد فى رسمها للقارئ بالكلمات، ليعبر من خلالها عن أحلام شعب ومعاناته ومصيره فى المحن والأزمات. »
وكتبت جريدة «الأخبار»: «هى الرواية المدهشة التى انبعثت حية على أرض ميدان التحرير»، بينما كتب عبد الرحمن الراشد فى جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية: «لو أن السلطات المصرية تقرأ الروايات بدل تقارير البوليس ربما ما وقعت فيما وقعت فيه فى ميدان التحرير المكتظ بالتويتريين والفيسبوكيين الثائرين الذين لا تكفى السجون لاستيعابهم.»
وانتشرت الرواية انتشارًا سريعًا فطبع منها ست طبعات متتالية، وكان زملاء صحفيون كثر يقولون، حين يجرون معى حوارًا حول الرواية: «لعلك الوحيد الذى لم يفاجأ بالثورة»، فأجيب: «بل أنا أكثر من فوجئ بها، فأن تكتب أن ثورة تقع فى ميدان التحرير شيء، وأن تنزل الميدان فتجد ما توقعته يحدث كما وصفته شيء آخر». أو يسألونني: «كيف تمكنت من التنبؤ بما حدث؟»، فأقول:«إنها عين الفراشة التى تحلق عاليًا فتتمكن من أن ترى من بعيد ما هو قادم».
فى ذلك الوقت اتصلت بى الفنانة الكبيرة سميرة أحمد لتقول إنها قرأت الرواية فى ليلة واحدة، وإنها راغبة فى تحويلها إلى فيلم سينمائي. ثم أضافت:
- وعلى الرغم من أن دور البطلة لا يصلح لي، فإنه سيسعدنى القيام بأى دور آخر كى أكون جزءًا من هذا العمل.
لكن للأسف بعد أن تناقلت الصحف الخبر، وبعد أن اتفقنا على كثير من التفاصيل، حالت الحالة الصحية للفنانة الكبيرة دون أن يتم إنتاج الفيلم.
وقد أخبرنى الناشر الكبير محمد رشاد أن الدار المصرية اللبنانية تقدمت بـ«أجنحة الفراشة»، للجائزة الدولية للرواية العربية، المعروفة خطأ باسم «جائزة البوكر العربية»، بعد أن حققت الرواية نجاحًا نقديًّا وجماهيريًّا لفت الأنظار. وتقديم الرواية للجائزة لا يعنى بالضرورة فوزها، لكن الذى حدث أن «أجنحة الفراشة» لم تذكر ضمن القائمة الطويلة التى تضم أهم الروايات التى تقدمت للجائزة، والتى عادة ما يصل عددها إلى ٢٠ رواية تقريبًا، ولم تظهر ضمن القائمة القصيرة التى تضم ٦ روايات يتم اختيار الرواية الفائزة من بينها، وهو ما يعنى أن الرواية استُبعدت من التحكيم من البداية. وقد دهشنا جميعًا لفترة ثم نسيت الموضوع ولم أتابعه. وحدث بعد سنوات أن كنت مع الدكتورة هدى الصدة، أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة، وتطرق الحديث إلى جائزة البوكر العربية، وقد كانت هى ضمن لجنة تحكيمها فى السنة التى قُدِّمَت فيها «أجنحة الفراشة»، فسألتها عما حدث وقتها، وإن كان هناك خطأ فى موعد التقديم مثلًا أدى إلى استبعادها. لكنها تهربت من الإجابة، فلم ألح.
على أن الرواية سريعًا ما ذاع صيتها خارج مصر والوطن العربي، واتصلت بى دار «جونتي»، وهى واحدة من كبريات دور النشر الإيطالية، طالبة حق ترجمة الرواية إلى الإيطالية، وأصدرتها فى العام التالى بطبعة أنيقة، لكنها حملت عنوان «إفطار فى القاهرة». وأعربت للدار عن عدم ارتياحى لهذا العنوان خاصة أن المترجم التزم بالعنوان الأصلي، لكنهم أوضحوا أن العنوان الأصلى لا يشير إلى مصر والأحداث التى تشهدها، وأن مسؤولى التسويق بالدار يفضلون العنوان المقترح الذى يشير بوضوح إلى أن أحداث الرواية تجرى فى مصر. فوافقت من دون حماس باعتبار أن كل دار نشر أدرى بطبيعة قرائها. ولما كان النص نفسه لم يدخل عليه أى تعديل، فقد نزلت على رأيهم باعتبارهم أدرى منى بالسوق الإيطالية. وكانت الترجمة الإيطالية الترجمة الوحيدة التى صدرت بعنوان آخر. واتضح لى بعد ذلك صحة موقف الدار بالنظر إلى المبيعات الكبيرة التى حققها الكتاب.
أما الترجمة التالية فكانت الترجمة الإنجليزية التى أصدرتها دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام ٢٠١٤، وكانت معظم مبيعاتها فى الولايات المتحدة. وفى حفل التوقيع قرأنا أنا والفنانة الكبيرة يسرا مشهدًا من الرواية، بين البطل والبطلة أثناء وجودهما فى مطعم بإيطاليا كان يذيع مقطوعة «نزوة إيطالية» لـ«تشايكوفسكي»، وصاحبنا فى هذا المشهد عزف حى لهذه المقطوعة على آلة التشيلو.
وتلت النسخة الإنجليزية ترجمة فرنسية للرواية عام ٢٠١٥، أصدرتها دار «أوريان إيديسيون» التى رتبت لى جولة فى عدة مدن فرنسية عقدت فى كل منها حفلات توقيع للكتاب. وفى العام التالى دعيت إلى معرض الكتاب فى مدينة «إياشي» الرومانية لحضور ندوة وحفل توقيع بالمعرض للترجمة الرومانية للرواية، وفى العام نفسه صدرت فى الهند ترجمة لـ«أجنحة الفراشة» باللغة الأردية، قام بها الدكتور محمد قطب الدين، أستاذ الأدب العربى فى جامعة جواهر لال نهرو بنيودلهي، وأقامت الجامعة احتفالًا كبيرًا بهذه المناسبة حضره رئيس الجامعة والسفير المصرى فى نيودلهي.
وفى معرض القاهرة الدولى للكتاب عام ٢٠١٧ أقيمت ندوة بعنوان «حركة الترجمة بين العربية والأردية» احتفالًا بصدور الكتاب، باعتباره من النماذج النادرة من الأدب المصرى الحديث المترجمة إلى الأردية. وقال المترجم إن ترجمات الأدب المصرى الموجودة باللغة الأردية هى لمؤلفات طه حسين، والعقاد، والمازني، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وإنه لم يسبق أن ترجمت، قبل «أجنحة الفراشة»، أى نماذج من الأدب المصرى الحديث إلا «كتاب التجليات» لجمال الغيطاني. وقد شاركت فى الندوة مع السفير الهندى بالقاهرة «سانجاى باتاتشاريا»، ومترجم الكتاب الدكتور محمد قطب الدين، والدكتور أحمد القاضى أستاذ اللغة الأردية بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر.