كتب "شهاب طارق
منذ أن فتحت أخبار الأدب قضية شطب الآثار، ربما لم يتوقع أكثر المتشائمين أن تزيد تلك الوقائع عن اثنتين أو ثلاثة على الأكثر، لكن منذ بدأنا فى تتبع الكلمة الدخيلة على تاريخ مصر الأثرى والنزيف مستمر، والضحايا بطول مصر وعرضها، لم يتوقف المسئولين بوزارة الآثار عن محاولات الشطب، ولن نتوقف بدورنا عن رصد تلك المحاولات، لوقف ذلك النزف المستمر.
الغريب أنه بات هناك معارضة حقيقية من جانب كثير من المسئولين فى الوزارة لتمرير تلك القرارات، الأمر الذى يمكن رصده بوضوح من تقارير اللجان التى باتت جميعها ترفض شطب الآثار، فإذا كانت تقارير المتخصصين توصى بالترميم فكيف تخرج القرارات النهائية بالشطب؟!
الضحية هذه المرة العقار رقم ٢٧ بشارع الجمهورية «قصر ميخائيل لوقا الزق» بأسيوط، نرويها من واقع التقارير الرسمية التى توضح كل شئ بدقة ربما لا تحتاج إلى أى تعليق.
تم إنشاء القصر عام ۱۳۳۳هـ ١٩١٤م وفقًا للتاريخ المسجل على (الفرنتون) الذى يعلو الواجهة الغربية الرئيسية للقصر، وقد انشأ القصر الخواجة ميخائيل لوقا الزق، وهو الجد الأكبر لعائلة الزق التى تعد واحدة من أشهر عائلات أسيوط. عرفت بأنها من أكثر العائلات إخلاصًا، وعلمًا، ونفوذًا، وكان الخواجة ميخائيل لوقا الزق تاجرًا شهيرًا ومزارعًا، كانت تجارته هى ريش النعام والسن والأقمشة والنيلة والغلال بأنواعها، وقد نشأ رجًلا مصلحًا محبوبًا من عشيرته، ويبدو أن ميخائيل لوقا كان ممن يميلون إلى حب الظهور والتعبير القوى عن أنفسهم، وهذا ما انعكس على بناء قصره، فقد استعان بمهندسين متخصصين فى العمارة الإيطالية، لتشييد قصره على طراز الباروك المستحدث (طراز معماری ظهر مع نهاية القرن التاسع عشر كطراز إحيائى لعمارة الباروك التى كانت تنتشر فى أوروبا فى القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر)، و هو طراز يحمل خصائص عدة أهمها التعبير عن الحركة باستخدام الحوائط المنحنية، مع استخدام موتيفات شكلية عند خط الأفق، ووصف هذا الطراز بالمتكلف زخرفيًا دون إغفال مدى ثرائه على كافة المستويات، وأغلب مناطق الواجهات فى هذا الطراز تحوى إما تكسية أو زخرفة أو لونًا مميزًا.
القصر على طراز الباروك المستحدث ويحمل كافة الزخارف التى سجل بناء عليها
ونظرًا لأهمية القصر من الناحية المعمارية والزخرفية، فقد تم تسجيله بقرار مجلس الوزراء رقم ١٢٢٦ لسنة ١٩٩٨ فى عهد رئيس الوزراء الأسبق د. كمال الجنزورى وذلك بناء على موافقة اللجنة الدائمة بجلستها المعقودة بتاريخ ١٧-٩-١٩٩٦، وبناء على موافقة مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار وبناء على ما عرضه وزير الثقافة، وبتاريخ ١-١٠-٢٠٠٣ أصدر وزير الثقافة/ رئيس المجلس الأعلى للآثار فاروق حسنى قرارًا باعتماد خطوط التجميل حول العقار رقم ٢٧ بشارع الجمهورية، ونشر بالوقائع الرسمية.
اللجان الفنية ترفض الشطب
ظل القصر يعانى من الإهمال لعقود وسط مطالبات دائمة من جانب المسئولين عن منطقة آثار أسيوط بترميمه، خاصةً وأن هناك محاضر رسمية أثبتت وجود تكسير متعمد لبعض حوائط القصر، لكن دون استجابة واضحة من جانب وزارة الآثار لإنقاذ القصر الأثرى وفى ٣٠-١٢-٢٠١٩ صدر أمر إدارى بتشكيل لجنة برئاسة د. ضياء زهران نائب رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، وبعضوية مدير آثار مصر الوسطى، ومدير عام المساحة والأملاك، ومدير عام مركز الدراسات الأثرية، ومدير إدارة التسجيل، بجانب عضو هندسى وذلك لمعاينة العقار للوقوف على إمكانية ترميمه من عدمه، وذلك لإعداد تقرير عن حالة الأثر وعرضها على اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية لتقرير ما يتبع بشأن العقار من حيث ترميمه أو شطبه من عداد الآثار.
وبعد معاينة كتبت اللجنة فى تقريرها أن القصر لا يزال يحمل كافة الزخارف والنقوش التى سجل بناء عليها، وأنه يحتاج لترميم عاجل لدرء الخطورة عنه، وبتاريخ ١٢-١٠-٢٠٢٠ صدر أمر إدارى آخر لإعداد تقرير هندسى وأثرى برئاسة د. أحمد سليمان مدير عام آثار مصر الوسطى للنظر فى شطب القصر! وجاء التقرير أيضًا يطالب بترميم القصر بشكل عاجل، فشكلت لجنة أخرى بتاريخ ٢٤-٦-٢٠٢٠ برئاسة نائب رئيس القطاع وبعد المعاينة طالبت هى الأخرى ترميم القصر وليس شطبه.
اللجنة الدائمة تشطب القصر!
رغم كل التقارير العلمية التى أكدت حاجة القصر إلى ترميم وأنه لا زال يحمل عناصره المعمارية المميزة التى يجب الحفاظ عليها صدر قرار غير متوقع من اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية بشطب القصر دون الالتفات للتقارير الفنية التى قدمت من جانب لجان مختصة أثرية وهندسية داخل وزارة الآثار! إذ إنه بتاريخ ٤-١١-٢٠٢١ جاء خطاب مقدم من مدير اللجنة الدائمة والمشرف العام للجنة الدائمة لرئيس قطاع الآثار الإسلامية و القبطية لإخطاره بموافقة اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية على شطب قصر ميخائيل لوقا الزق بأسيوط.
وجاء الخطاب شارحًا لتفاصيل ما حدث فى واقعة الشطب، إذ جاء بمحضر المعاينة بتاريخ ٢٤-٣-٢٠٢١
أن العقار هو ملك لمطرانية الأقباط الأرثوذكس بأسيوط بموجب عقد شراء من الورثة، وأشارت اللجنة إلى أنه قد سبق تشكيل العديد من اللجان والتى انتهت جميعها بضرورة ترميم العقار ترميمًا معماريًا ودرء الخطورة على نفقة الجهة المالكة (مطرانية الأقباط)، وأضاف التقرير الموضح بقرار اللجنة الدائمة، أنه نتيجة لوجود تكسير لبعض الحوائط أعلى السلم بالركن الجنوبى الشرقى وكذلك تكسير لعدد ثلاثة أعمدة من الطوب الأجر، وهى الأعمدة الحاملة لسقف الطابق الأول وبعض الشروخ فى الحوائط التى تمت عن عمد، بالقصر قامت المنطقة باتخاذ كامل الاجراءات القانونية اللازمة حيال التعدى فى حينه، إذ تحظر المادة رقم ١٤٠ من اللائحة التنفيذية ۱۱۷ لسنة ۱۹۸۳ اتلاف الملكيات الخاصة عمدًا وتركها مهملة كما تحظر المادة ٣٤ من اللائحة التنفيذية بهدم العقار كله أو بعضه، ونظرًا لقيام ملاك العقار بالتعدى على العقار بغرض الاضرار به الأمر الذى يستوجب تطبيق المادة ٣٤ والمادة ۳۰ من قانون حماية الاثار رقم ۱۱۷ لسنة ۱۹۸۳ م وعلى ذلك رأت اللجنة المشكلة:-
١- مخاطبة إدارة الأمن بقطاع الآثار الإسلامية والقبطية لمخاطبة شرطة السياحة والآثار بأسيوط لتعزيز الحراسة على العقار ۲۷ الأثرى من قبل شرطة السياحة والآثار بأسيوط بإضافة قوة حراسة إلى جانب أفراد أمن منطقة آثار أسيوط
٢- العقار رقم ۲۷ شارع الجمهورية مازال يحتفظ بعناصره المعمارية والزخرفية التى تم تسجيلها على أساسه
٣- مخاطبة السلطة المختصة لإعداد خطاب لوزير السياحة والآثار د. خالد العنانى وذلك لمخاطبة قداسة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية لإخطار مطرانية أسيوط لاتخاذ الإجراءات اللازمة نحو سرعة صلب العقار رقم ۲۷ الأثرى بشارع الجمهورية بأسيوط وذلك لدرء الخطورة عنه لحين عمل مشروع ترمیم متكامل وحفاظًا على هذا العقار الأثري.
وبالفعل بتاريخ ٣١-٣-٢٠٢١ جاء بكتاب د. أحمد سليمان مدير عام مناطق آثار مصر الوسطى، التوصية بمخاطبة السلطة المختصة وذلك لإعداد مشروع خطاب لقداسة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية لإخطار مطرانية أسيوط لاتخاذ الإجراءات اللازمة نحو سرعة صلب العقار رقم ۲۷ الأثرى بشارع الجمهورية بأسيوط وذلك لدرء الخطورة عنه لحين عمل مشروع ترميم متكامل وحفاظًا عليه من الانهيار.
اختفاء المستندات!
تم عرض موضوع شطب قصر ميخائيل لوقا على المستشار القانونى أحمد ماهر رئيس محكمة الاستئناف فى ٢٢-٢-٢٠٢١م، وهنا ظهرت إشكاليات أخرى، إذ وصله تقرير يفيد بأن القصر قد صدر له قرار بالهدم والإزالة فى عام ١٩٩٣؛ أى أن النزاع القضائى -بموجب حكم نهائي- قبل تسجيل العقار كأثر، وأضاف أن مواد القانون واللائحة تستلزم إعداد تقارير فنية بحالة العقار ومحاضر معاينة «كان بحكم اللزوم التريث فى تسجيل القصر وصولًا لنتيجة نهائية بشأن قرار الإزالة». كما طرح المستشار القانونى عدة تساؤلات حول الواقعة وتساءل: «كيف تم إعداد ملف تسجيل لهذا الأثر العقارى وصولًا لتسجيله بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم ۱۲۲۹ لسنة ۱۹۹۸م دون أن يشار إلى صدور قرار بالهدم والإزالة؟».
الأمر الثانى الذى أوضحه المستشار ماهر أنه فى ضوء المتاح من الأوراق التى قدمت له وفقًا «للمعروض» فهناك حكم استئناف نهائى واجب النفاذ (لم يطلع عليه) صدر فى ١٧-٦-١٩٩٦ (قبل التسجيل بعامين) بتأييد الحكم المستأنف، وأوضح أنه كان لزامًا على اللجنة الدائمة المختصة حينها ووفقًا للتقارير الفنية الخاصة بالعقار؛ التعرض لمسألة إذا ما كان العقار بوضعه تتوافر فيه شروط التسجيل من عدمه.
وتطرق الرجل فى حديثه إلى أنه وفقًا للأوراق التى قدمت له، فإن المطرانية بناء على تكليف من المجلس الأعلى للآثار أوكلت إلى المكتب الاستشارى الهندسى التابع لكلية الهندسة جامعة أسيوط ترميم العقار وانتهت اللجنة فى تقريرها (خلت منه الأوراق) إلى عدم إمكانية الترميم ووجود خطر داهم من بقائها على مستخدميه والمملكات والأرواح وإزالته حتى سطح الأرض.
رفض الإدارة الهندسية لقطاع المشروعات بوزارة الآثار شطب قصر ميخائيل لوقا ومطالباتها بترميمه فورًا:دموافقة اللجنة الدائمة على شطب القصر من عداد الآثار رغم رفض لجان المعاينة
وفى نهاية التقرير الذى أعده المستشار أحمد ماهر رأى أن الأمر يستلزم سرعة إعادة العرض على اللجنة الدائمة المختصة على أن يكون «تحت بصرها» كافة التقارير الفنية الخاصة بالعقار، بدءًا من قرار الإزالة الصادر برقم ١ لسنة ۱۹۹۳م، وكذلك التقارير الفنية التى صدرت وأرفقت بالأحكام المنوه عنها وتقارير المكاتب الاستشارية التابعة لكلية الهندسة -جامعة أسيوط- لاتخاذ القرار المناسب نحو شطب تسجيل العقار من عدمه مع مراعاة الأحكام النهائية فى هذا الشأن، وأوضح أن ذلك لا ينال من قول بأن التقارير الفنية الخاصة بالمجلس الأعلى للآثار انتهت إلى إمكانية الترميم فى ظل حجية الأحكام القضائية النهائية والتى أصبحت عنوانا للحقيقة (خلت الأوراق من صور لها) فإن صحت فلا مجال للحديث عن إمكانية الترميم، وأوضح كذلك أن هذا يعنى أيضًا اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة إذا صح القول بتعمد إتلاف العقار، وطالب كذلك بضرورة قيام اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية المختصة بإعادة نظر الموضوع فى ضوء ما سبق مع ضرورة أن تكون كافة المستندات «تحت بصرها» وصولًا لاتخاذ القرار المناسب.
إغفال التقارير
فى جلستها بتاريخ ٤-١١-٢٠٢١ قررت اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية، الموافقة على شطب الأثر وفقا لما جاء بتقارير المكاتب الاستشارية التابعة لكلية الهندسة، جامعة أسيوط وطبقًا لما ورد بمذكرة المستشار القانونى فى ٢٢-٢-٢٠٢١م وعرض الموضوع على مجلس الإدارة.
كان قرار اللجنة الدائمة بوزارة الآثار صادمًا فى نهاية الأمر، خاصة وأنهم اعتمدوا على تقرير كلية الهندسة بجامعة أسيوط، ولم يعتمدوا على ثلاثة تقارير فنية معتمدة -هندسية وأثرية- من جانب وزارة الآثار والتى تفيد بإمكانية ترميم القصر الأثرى عوضًا عن شطبه، خاصة وأن تقرير كلية الهندسة بجامعة أسيوط، جاء بناء على طلب الجهة المالكة للقصر وهى التى استقدمت المكتب الفنى التابع لكلية الهندسة بجامعة أسيوط، إذ تساءل مصدر قانونى داخل وزارة الآثار وقال: «كيف يتم الاستناد على تقرير من له المصلحة فى شطب القصر وترك تقرير رسمى من الإدارة الهندسية لقطاع المشروعات؟»، كذلك تساءل عن سبب إخفاء تقارير الآثار التى أوصت بالترميم عن المستشار القانونى أحمد ماهر، وإخفاء قرار المحكمة بإزالة القصر إن صحت تلك الرواية أصلًا، وتساءل أيضًا كيف يتم الارتكان لأحكام غير موجودة (وفقًا لما صرح به المستشار القانوني) وذلك لشطب العقار الأثرى والأهم من ذلك هو مدى جواز الارتكان إلى تقرير مقدم من صاحب المصلحة فى الشطب وترك تقارير الآثار. أضاف: بات على الوزارة وكذلك المجلس الأعلى للآثار أن يقدموا تلك الأوراق كاملةً -كما أشار عليهم المستشار القانوني- إن كانت تلك الوقائع سليمة، وفى نهاية حديثه أوضح أن استناد اللجنة الدائمة لهذا التقرير وإغفال تقارير الآثار عمدًا هو مخالفة قانونية قد وقعت فى قرار الشطب ويستلزم تقديمها للرقابة فورًا.
