الجمهورية الجديدة

«خطابات الرئيس».. اللغة العربية تكشف عن مكنوناتها

الرئيس عبدالفتاح السيسى
الرئيس عبدالفتاح السيسى

لكل رئيس شخصيته المميزة المستقلة التى تظهر من خلال خطاباته إلى العالم وإلى شعبه، وإذا كانت خطابات الرئيس السادات مثلاً كانت تمتاز بالمراوغة السياسية استجابة لطبيعة المرحلة التى تحتاج إلى التعمية والتمويه على العدو من ناحية وإلى كشف مثيرى الشغب فى الداخل من ناحية أخرى، فإن خطابات الرئيس السيسى تحمل قدرا كبيرا من الثقة والصدق، بحيث تسبق الأعمالُ الأقوالَ، كما تبرز القوة العاقلة عند كل نازلة تمس الأمن القومى المصرى والعربي.. إلى مزيد من التفصيل اللغوى والدلالى لخطابات الرئيس السيسى فى هذا التقرير:

تثبيت‭ ‬الشعارات‭ ‬الوطنية‭ ‬فى‭ ‬أذهان‭ ‬المصريين

بساطة‭ ‬الكلمات‭ ‬وضخامة‭ ‬الأعمال‭ ‬تعكس‭ ‬الترابط‭ ‬الصادق‭ ‬بين‭ ‬القول‭ ‬والفعل

د. عبد الراضى محمد

د. محمد العبد

د. محمد حماد

 

يبدأ د. عبدالراضى محمد عبدالمحسن، عميد كلية دار العلوم جامعة القاهرة، بالحديث عن إستراتيجيات التأثير البيانى فى خطابات الرئيس عبد الفتاح السيسي، من خلال التوظيف العميق للمفردات والعبارات، منذ أول تجلياته أمام الشعب المصري، والتى تم فيها توظيف الأبعاد المعرفية والاجتماعية والنفسية بأقصى حمولاتها لتحقيق الغايات المنشودة فى التأثير.

ويضيف د. عبد الراضى: هناك بعض المحددات اللغوية التى غلَّفت الخطابات مثل: الصدق والمصداقية فى البيان، والموضوعية المتمحورة حول الحديث عن الإنجازات العملية والأفعال التى تسبق الأقوال، وتنوع القضايا وشمولها ومواجهة تحديات الوطن فى الاستقرار، والتنمية، والإصلاح، ومحاربة الفساد، والتطرف الفكري، وتوفير الحياة الكريمة للمواطن صحيا وتعليميا واجتماعيا، وتجديد الخطاب الدينى بما يكفل التسامح والتعايش الآمن محليا ودوليا، واستعادة الوعى الكفيل باستمرار قاطرة النهضة والتحديث فى الانطلاق وحماية التماسك الوطنى للدولة.

استثارة الحس الوطنى

ويشير د. عبد الراضى إلى أن إستراتيجيات التأثير البيانى فى الخطابات تأتى غزيرة ومتنوعة متمثلة فى: الاستحواذ الشعوري، وهى إحدى أهم تقنيات الخطاب لإحداث التأثير الإقناعى للمتلقي، وقد وظفتها خطابات الرئيس منذ بدايتها فى عبارته الشهيرة− فى بعدها الإنساني− "إنتوا مش عارفين إنكم نور عينينا ولا إيه"؟ وكذلك فى استنفار واستثارة الحس الوطني، ففى عبارته ذات البعد الوطنى والقومي: "مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا" يستنفر الروح الوطنية فى مواجهة التحديات باستدعاء التاريخ الحضارى والتفرد الأممى لمصر بين الشعوب والدول؛ ثم يأتى الردع الاستباقى بتكريس سياسة التعجيز الشعورى للمناوئين بإطلاق العنان أمام خيالهم للعواقب الوخيمة التى ستنزل عليهم فى محاولتهم أو تفكيرهم فى العدوان على مقدرات الوطن، ففى عبارة: "الجيش نار لا يتلعب بيها ولا يتلعب معاها"، وكذلك فى عبارة تحديد الخطوط الحمراء جغرافيا، كما في: "سرت خط أحمر"، أو في: "مسافة السكة"، أو فى إطار المصالح العليا: "ماء النيل خط أحمر".

استبعاد ضمير الذات

ويتابع عميد دار علوم القاهرة، أنه يأتى بعد ذلك استحضار الرقى الشعورى والتوافق الروحى والفطري، وذلك بالتلطف والتأدب والإعراض عن ذِكْر الأشخاص والدول والجماعات اسمًا، واستبدال ذلك بالأسلوب النبوى فى التلميح دون التصريح كما كان يفعل النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا" التى تتكرر فى خطابات الرئيس، أو بالاستعانة بالوصف دون الاسم كما فى استخدام عبارة "أهل الشر"؛ إضافة إلى حشد العقل والشعور الجمعى للشعب والأمة، وذلك باستبعاد ضمير الذات الشخصية فى خطاباته (الأنا)، وإحلال ضمير الأمة والشعب تعبيرًا عن القضايا ورصدًا للحوادث، كما فى عبارة: "إحنا المصريين"، "إحنا يا مصريين". وأخيرا إلهاب الشعور والعقل الواعى لدى المتلقى بالختام التعبيرى القوى الملخص للخطابات، مع تكراره بعبارة: "تحيا مصر" "تحيا مصر" "تحيا مصر"، التى تكون الانطباع التذكيرى السياقى فى نفس المتلقي.

التواصل اللغوى

ومن جانبه يؤكد د. محمد العبد، عضو مجمع اللغة العربية، والأستاذ بجامعة عين شمس، أن "التوازن اللغوي" هو السمة الأساسية لخطابات الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ توليه المسؤولية فى عام 2014م حتى اليوم. ولعل من أهم مظاهر هذا التوازن اللغوي: بين ما يمكن أن يقال أو يُصرَّح به وبين المسؤولية الوطنية وحسابات المصالح العامة. التوازن بين تقاليد الخطاب فى فضاء رسمى أو غير رسمى وبين الحفاظ للخطاب على نصه المكتوب أو الجمع بين النص المكتوب والكلام العفوى المرتجل. ويمكن أن نقارن هنا مثلًا بين خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وخطاب فى مناسبة الاحتفال بعيد الأم أو عيد العمال. التوازن بين موضوع الخطاب ونبرته؛ فخطاب فى موضوع الأمن القومى بما يتفرع إليه من تحديات ومخاطر وتهديدات سوف تختلف نبرته وأنواع أفعال الكلام فيه عن خطاب فى مناسبة الاحتفال بليلة القدر. التوازن بين رصانة الخطاب وإحكامه على المستوى التركيبى وبين استعمال المتداول من الألفاظ بين الناس على المستوى المعجمي.

توازن السياسات

وتجمع منظومة التوازن بين الأقوال والأفعال اللذَيْن يُبنى عليهما كل نظام سياسى وطنى رشيد. فالرئيس وهو يقتحم مجال المشروعات الاقتصادية والعمرانية الكبرى، ويحرص− فى الوقت نفسه− أن يخاطب المواطنين باللغة التى تشترك فى فهمها كل الفئات والشرائح الاجتماعية. وهو فى ارتجالاته العفوية على نص خطاب مكتوب يجعل من تلك اللغة المفهومة قيمة مضافة ووسيلة تنشيط للرسالة التى أراد ذلك النص المكتوب نقلها إلى الجماهير.

"ترهين" الخطاب

وفى خطابات الرئيس المكتوبة أو المرتجلة سمة أخرى مهمة هى "تَرهين الخطاب" بمعنى الاستعانة بالعبارات التى تستحضر الأحداث "هنا" و"الآن". فى خطابات الرئيس المكتوبة نجد للترهين المكانى عبارات مثل: "نجتمع سنويًّا على هذه الأرض.. أرض مصر"، "أرحب بكم مجددًا فى أرض السلام سيناء"، "نحن هنا جميعًا سفراء للإنسانية" (من كلمة الرئيس فى الجلسة الختامية لمنتدى شباب العالم 18−9−2019م). ومن الترهين الزماني: "أتحدث إليكم اليوم"، "نحتفل اليوم معًا"، "وأؤكد لكم اليوم"، "أعبِّر عن سعادتى البالغة وفخرى وأنا أشهد اليوم احتفالنا السنوى بالمرأة المصرية العظيمة" (فى غير خطاب من خطابات الرئيس فى عيد العمال والاحتفال بعيد الأم وتكريم الأم المثالية). ترمى مثل هذه العبارات فيما يبدو إلى رغبة فى الإمساك بالحدث فى حدوده الزمانية والمكانية والتفاعل معه بما يناسبه أو يليق به، وهو نوع من الميل إلى الحضور داخل سياق الأحداث لا خارجها.

النظرة المستقبلية

ومن السمات الأولية لخطابات الرئيس السيسى غلبة النظرة المستقبلية التى يُعبَّر عنها بما قلَّ لفظه وزاد معناه من العبارات والشعارات الإيجابية، سواء فى ذلك فيما يوصف بـ "الأوقات العصيبة" أو "الأجواء الودية". ولا شك أن هذه العبارات والشعارات تصدر عن قراءة حصيفة لتجارب التاريخ وأحداثه فى الماضى والحاضر، وهى تصدر− من ناحية أخرى− عن الثقة فى الإمكانيات البشرية، والرغبة فى رفع المعنويات وتصحيح المفاهيم والمسارات وتحريك المياه الراكدة واستنهاض الهمم.

ويشير د. محمد حماد، أستاذ علوم اللغة بجامعة القاهرة، وعضو مجمع اللغة العربية، إلى أنه الخطاب، وهو الرسالة، أو نصوص الخطاب نفسها، مع الاكتفاء بتحليل الخصائص العامة والمميزة لهذا الخطاب، وهى خصائص كثيرة وفارقة بين هذا الخطاب، وخطابات رئاسية أخرى كثيرة سابقة. ويلاحظ على هذه الخصائص، بالإضافة إلى كثرتها، وكونها مائزة، وفارقة، أنها متكاملة بصورة مدهشة؛ لأن الخطاب الذى يحملها يعبر عن شخصية متكاملة، متزنة، صادقة، كما يلاحظ على الأمثلة الواقعية الدالة على هذا التكامل أنها مترابطة ومتعاونة فى إقامة الدليل على صدق الخصائص وواقعية السمات، لذلك كله سوف نذكر هذه الخصائص متتابعة، ثم نسوق الأمثلة الدالة التى تؤكد ما ورد فيها من حقائق: وضوح التوافق التام بين المرسل والرسالة، أى بين شخصية القائل وخصائص النص الخطابي، وملاءمة الأداء وتنوعه بتنوع مواقف الخطاب، تلك المواقف التى تتطلب القوة والشدة والصلابة أحيانا، وتتطلب البيان والشرح والتفصيل فى بعض الأحيان، وفى أحيان أخرى يتسم الأداء اللغوى بالرقة والهدوء والحنو الصادق كأنه حديث الأب مع ابنته أو حديث الجد مع حفيده. وضوح الخوف الحقيقى على البلد والحرص على أمنه وسلامته، والسعى الجاد الحثيث إلى النهوض به.

الروح الإيمانية

ويشير د.حماد، شيوع الروح الإيمانية فى كثير من فقرات الخطاب، وعمق الثقة بالله عز وجل، وما ثمرات قناة السويس الجديدة ببعيدة عن أذهان الجميع، وما القضاء على "فيروس سى" الذى مزق أكباد كثيرين من قبل ببعيد كذلك عنا، لقد حفظ القضاء عليه أرواحا كثيرة منا. بساطة الأقوال، وقلتها بالقياس إلى ضخامة الأعمال وكثرتها وتنوعها، يعكس ترابطا وثيقا بين القول والفعل. يرتبط بهاتين الحقيقتين السابقتين خصيصة الصراحة والوضوح الذى يقتضى عدم الكذب أو اللف والدوران− حسب عبارة فخامته− ويقتضى كذلك أمانة النصح، وواقعية التوجيه، والبدء دائما بإلزام الذات أو النفس بكل ما ينصح به، وما التبرع بكثير من مستحقاته وراتبه ببعيد عنا. تثبيت شعارات كثيرة فى أذهان المصريين، لعل أشهرها عبارة "تحيا مصر" التى أذاعها فى خطابات كثيرة فى الداخل والخارج، وطبق مضمونها فى مجالات كثيرة ما زالت تؤتى ثمارها.