الإبادة الثقافية ومفتاح العودة

حى الشيخ جراح
حى الشيخ جراح

عبده البرماوى

لم يتخيل الإسرائيليون أن نزاعا محدودا على بيوت فى حى الشيخ جراح سيطلق بوجوههم كابوسا طالما خشوه؛ التحام النضال تحت راية الوطنية الجامعة وتضامن الشعب الفلسطينى الواحد. ولم يتصور اليمين الصهيونى الحاكم أن طردا، كرروه آلاف المرات، لبعض العرب من منازلهم سيعيد طرح السؤال ليس عن وجود هؤلاء المطرودين، بل عن الوجود الأبعد لكل من يعيش تحت رايات اللجوء، أى السؤال عن منازلهم الأصلية، قبل أن تحشرهم يد العنف الاستيطانى فى تلك البيوت البائسة منذ 1948، والتى يطالبون اليوم بتركها بحجة أنها كانت بيوتا ليهود قبل ذلك. لم يتخيل من أطلق هذه الشرارة أن فى الثقافة التى حاربوها طويلا وحاولوا محوها تكمن الفكرة المفزعة عن العودة.
فى معرض احتفالها بالذكرى الثانية لاحتلال القدس، صرخت جولدا مائير، بحسب ما نقلت عنها الصحف البريطانية، أن «ليس الأمر فى وجود أناس يسمون أنفسهم فلسطينيين، وأننا قد جئنا لنطردهم ونأخذ بلدهم. هؤلاء لم يكونوا موجودون من الأساس». على غرابة مثل هذا التصريح، فقد أمسك بقلب الحقيقة الاستعمارية، ولخص لنا تاريخا لمحو الثقافة كفعل مركزى فى الاستيطان، لم يتورع عنه المحتل الصهيونى يوما. وأوضح أفعال الاستيطان هى قطع طريق العودة، بإزالة سمات البلدات الفلسطينية من أول أسمائها لطابعها العمرانى وصولا لعاداتها وتاريخ ساكنيها وما يميزها ويميزهم من أفكار. هكذا قوام الصهيونية، فى تصورها أن فلسطين أرض بلا ثقافة، فوجود ثقافة يبقى الدلالة التى لا يدانيها الشك على أن لهذه الأرض صاحب. 
 

لهذا لا يجب أن نستغرب البدء بالثقافة فى خلال العدوان الوحشى على البيوت والمدنيين العزل فى غزة.
لقد ظل الإعلام الإسرائيلى يثير اللغط  حول عمليات المقاومة المسلحة المنطلقة من غزة، ويسأل عن علاقتها بما يجرى فى القدس الشرقية وفى مدن وقرى الأرض المحتلة فى 1948، ولسان حالهم يهتف مال غزة التى ليست تحت الاحتلال منذ 2005 بنزاع بعيد عنها؟ السؤال الذى صيغ بمفردات ترتدى سمت البراءة، أراد أن يهيل التراب على حقيقتين ماثلتين، أولاهما أن غزة مجرد سجن محاصر، وثانيتهما أن ساكنى هذا السجن هم من أهل القدس وأهل تلك المدن المنتفضة من شمال فلسطين التاريخية إلى جنوبها. 
أبدا لا يذكر المحتل أن ما يزيد عن تسعين فى المئة من أولئك المحاصرين فى سجن غزة الكبير مهجرون من قراهم وبلدانهم فى يافا وعكا وحيفا واللد وصفد والناصرية والقدس، وكل تلك المناطق التى استوطنوها، وأن هؤلاء حين أخرجوا قسرا، لم ينسوا الاحتفاظ بما يبقى على ذاكرة الفلسطينى وما يدلل على وحدة وجوده كشعب صاحب لهذه الأرض. لهذا تزعجهم صورة المفتاح القديم الذى تبرزه الجدات فى أعناقهن وتمركزها الرمزى فى مخيال العودة الأدبى والفني. 
ثقافة المحتل لا تصمت وحسب عن جريمتها فى طمس هوية الفلسطينى، وملامح وجوده الأصلى فيما قبل اللجوء، وإنما تعمل بلا كلل على تحطيم هذا الوعى ومعه مخيال العودة. ومن هنا تحديدا، لا يجب تصور أن قصف دور النشر والمراكز القليلة جدا لبيع الكتب فى غزة قد وقع عرضا، أو أنه بلغة الصلف الاستعمارى دمار غير متعمد أو «نيران صديقة»؛ فمركزية فكرة إبادة الثقافة تظل الباب الأول لمحو وجود الفلسطينى وتذويبه فى البنية الثقافية للمحتل. 
فى كتابه «التاريخ الخفى للصهيونية»، ينبهنا رالف شوينمان إلى أن الإنكار المنهجى لوجود الفلسطينى قد مثل الأسطورة الأساسية التى ابتدعتها الحركة الصهيونية فى مسعاها إلى إقامة دولة يهودية فى فلسطين. ومثلما أن الاستعمار الاستيطانى يقوم على إبدال أهل الأرض الأصليين بآخرين مجلوبين، جرى إحلال ثقافة المستعمر محل الثقافة الأصلية، بيدين، تقتلع أحدهما بعنف وإلحاح ما يشى بوجود مستقل لصاحب الأرض؛ فلا يبقى من أفكاره وعاداته وتقاليده وقيمه وأدبه وعمارته وفنونه ما قد يسم تلك الأرض بميسمه. وبيد أخرى ينشر المستعمر بدائله لهذا كله، أملا فى إخضاع الفلسطينى وتذويبه وصولا لمحو وجوده المستقل بل وطرده. 
من هنا أيضا تزداد فى قلب أحداث المقاومة لعبة فرض التسميات المراوغة، فيصير المحتجون فى المدن والقرى الفلسطينية المحتلة فى 1948 مواطنون إسرائيليون، ينتمون إلى أقلية تسمى بعرب إسرائيل، يطالبون ببعض الحقوق المدنية. فى هذا الخطاب ينسب العربى لدولة إسرائيل لا إلى أرضهم وهويتهم الوطنية كفلسطينين، وتفرض هذه التسمية كعلامة على قبولهم أوضاع الاستعمار التى صارت حقائق بالقوة، وبما يحطم أى روابط تجمعهم بأولئك المُهجرين من أهليهم فى غزة وفى الشتات. ويطرح بلؤم تساؤل قد يبدو بريئا، طالما قبل العرب بحل الدولتين، ولم تعد هناك مطالبة باستعادة ما نهب فى 1948، فلماذا لا يقبل الفلسطينى بنسبه لإسرائيل، خصوصا وأن البعض من هؤلاء وجدوا فى المواطنة الإسرائيلية ما يميزهم بجملة من الحقوق والأوضاع عما لدى الشقيق الفلسطينى القاطن فى ما وراء الخط الأخضر. 
هذا الخطاب لا يريدنا وحسب أن نغفل عن التناقض بين وصف العربى بأنه فلسطينى وبين وصفه بإسرائيلي. وكأنهما مترادفان، بل ويخفى حقيقة أن الفلسطينى فى إسرائيل مواطن من الدرجة الثانية، لا تحكم علاقته بدولة إسرائيل علاقة مواطنية حقيقية مؤسسة على المساواة، وأن لفظة عرب إسرائيل تلك إن هى إلا محاولة لتأسيس حجج قانونية وأخلاقية للدولة الصهيونية، تستر غايتها بأن تصير دولة يهود، لا وحسب دولة يهيمن عليها اليهود. 
ويزداد هؤلاء اختيالا بادعاء أن إسرائيل ديمقراطية، مستندين لحجة تضمين عرب الداخل فى العملية السياسية الإسرائيلية. فى مقارنته التى تظهر الفوارق بين نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا وبين سياسات الفصل العنصرى الإسرائيلية، التى هى ملمح متقدم للنظام الاستعمارى الاستيطانى، يصف ريتشار فالك الأستاذ بجامعة برنستون، والذى شغل منصب المقرر الخاص لوضعية حقوق الإنسان فى الأراضى الفلسطينية المحتلة منذ 1967 هذه اللعبة باسم الديمقراطية بأنها مجرد «خداع مستمر للذات وللآخر»، حاولت به إسرائيل إخفاء الحقيقة الماثلة من فرض السيادة اليهودية القسرية فى مقابل قهر الفلسطينى ومحو وجوده. 
إن هذه الدعاية البائسة عن أن عرب الداخل ليس من حقهم أن ينتفضوا بوجه عمليات إبادة بطيئة، قوامها المحو والتذويب والتهميش والطرد، تعتمد على قناعة صهيونية بأن توظيف إرث الهولوكوست سيكفل مصداقية لا نقدية للرواية الصهيونية، وأن محاولتنا نحن العرب فى وصف ما يجرى فى فلسطين التاريخية كلها بأنه بعض من سياسات الإبادة بضاعة لن يشتريها عالم لا يتصور أن ضحايا الهولوكوست قد تورطوا فى جريمة مماثلة فى فلسطين. 
ومن طينة الإبادة العرقية الإبادة الثقافية. وما جرى من عدوان فى غزة هو ترجمة لهما. قصف بيوت أهل غزة موصول بطرد أهل حى الشيخ جراح من بيوتهم. وما وقع من قصف اختيرله أن يبدأ بمقار وسائل الإعلام وبالمكتبات ودور الثقافة، وأختير للدعاية المصاحبة لهذا العدوان أن تبدا بنشر الأوهام المشوهة لحقائق الوجود الفلسطيني. يصر الإعلام الصهيونى على تفتيت صورة النضال الفلسطينى، فأهل غزة لا يصورون فيه أبدا بوصفهم مهجرين مثلهم مثل من تضامنوا لأجلهم من ساكنى حى الشيخ جراح. وإن قيل مهجرون فمحظور تماما أن يُسأل من أين؟ لا تسأل أبواق الدعاية الصهيونية ومن يروجون بضاعتها مثل هذه الأسئلة، فالصمت مطبق عن أصل المشكلة، وأن هؤلاء الضحايا هم أهل الأراضى التى أقيمت عليها دولة إسرائيل فى 1948. الصمت تام عن أنهم ينتمون لنفس القرى، ويحملون أسماء نفس العائلات، وأن ذاكرتهم مغروسة فى تلك القرى والمدن القابعة ورءا الخط الأخضر، والتى ينتفض فيها ما بقى من ذويهم الفلسطينيين. هكذا اللجوء هو وجه العملة الآخر للاستيطان. ولاجئون هى اللافتة المعلقة على حى الشيخ جراح وعلى سجن غزة. 
الصهيونية تود اخفاء حقيقة قيام إسرائيل على انقاض الوجود الفلسطينى، لكنها لا تعرف سبيلا لاخراس ذلك الذى صار لاجئا فى الداخل، فى القدس الشرقية وفى غزة، إلا بالعدوان على الثقافة. لا تريد الصهيونية أن يفهم العالم أن من يطردون من الشيخ جراح هم أناس لديهم حقا أصيلا فى العودة إلى يافا وحيفا وعكا وإلى كل تلك المناطق التى شرد عنها أباؤهم. من هنا الإصرار الصهيونى الدائم على سياسات التفتيت والمحو الثقافى وإلغاء الهوية الجامعة بوصفها مصلحة وجودية.