غاب الشِعر فحضر الراب والميمز وأفلام إيليا سليمان: وسائط جديدة لروح ثورية معاصرة

القبض على  البالونات يذكرنا بمشهد  بالونة فيلم «يد إلهية»
القبض على البالونات يذكرنا بمشهد بالونة فيلم «يد إلهية»

أحمد وائل -  نائل الطوخى

 
فى 22 مايو الماضى، فتح محبو الشاعر تميم البرغوثى الفيديو الجديد له، بعنوان «وصايا»، فى برنامجه الشِّعرى «مع تميم» على قناة «+AJ» بيوتيوب، ليسمعوا تعليقه الشعرى على ما يجرى فى فلسطين، ليُفاجئوا بأن تعليقه هذا ليس شعريًا ولا مصاغًا فى قصيدة، وإنما فقط يحوى رأى الشاعر، ووصاياه، عن كيفية تحرير فلسطين.
تعوّدنا، على مدار  سنوات طوال، إذا ما اندلع حراك جديد يتعلق بالقضية الفلسطينية، أن تنهال علينا القصائد التى تتخذ من القدس والشهداء والأقصى موضوعًا لها، قصائد تندرج تحت ما يمكن تسميته بـ «شِّعر المناسبات»، غالبًا ما يكون ركيكًا وقصير العمر؛ يقرؤه الناس وينفعلون لحظيًا ثم ينسونه كأنه لم يُكتب. 
لكن الشِّعر غاب هذه المرة، لم نقرأ قصائد جديدة إلا فيما ندر.  

هل يكون الراب شعر فلسطين الجديد؟ 
من نواح عديدة، اختلف الحراك الجارى جذريًا عن الانتفاضات الفلسطينية السابقة؛ فحتى وإن تعلّق بالمسجد الأقصى مثل انتفاضة 2000، إلا أن محركه لم يكن المسجد و»تدنيس المقدسات»، وإنما رفض تهجير الفلسطينيين من حى الشيخ جراح المجاور للمسجد، وقد شمل الحراك كل فلسطين، غزة والضفة، وبالأساس الداخل، حتى شُبّه، لا بالانتفاضتين السابقتين، وإنما بثورة 1936 الهائلة نفسها. 
فى الحراك الحالى، وبجانب استفادة الفلسطينيين من خبرات الثورات العربية المتواصلة من عشر سنوات، فقد استفادوا كذلك من تطور وسائل التواصل الاجتماعى ومن الفنون الناتجة عنها، ما أثمر عن أشكال إبداعية جديدة أو حتى غير مسبوقة، من أول الكتابة بالعربية بلا نقاط، وحتى الميمز والراب، والذى يمكن ربطه بشكل ما بفن الشعر. 
«إن إن قد آن أوانه... وطنى باعوا ميزانه».    
هكذا يقول مغنيا الراب الفلسطينيين، «ضبّور» و»شب جديد»، فى أغنية بعنوان «إن إن»، أُنتجت أواخر أبريل الماضى، فيما يشبه توقعًا بما سوف يحدث.
كان يمكن لضبّور الاكتفاء بكونه تنبأ بالانتفاضة، لكنه لم يفعل. بل أصدر أغنية جديدة بعنوان «الشيخ جراح»، معلنًا فيها إن «فيه صوت رصاص زغرد فى الشيخ جراح». 
كان انبعاث الانتفاضة الجديدة مواكبًا لموجة احتفاء كبيرة بالثنائى، وكأنهما أصبحا الوجه الفنى الجديد المعبر عن فلسطين الآن.
بجانب كونهما فلسطينيين مقدسيين، يحافظ الثنائى ضبّور وشب جديد على مسافة تخصهما أيضًا، ما يعطيهما نوعًا من الطزاجة اللافتة، بالمقارنة بأغلب ما اعتدناه يُغنّى ويُكتب عن فلسطين. يعلنان هويتهما مثلًا فى كل مرة باعتبارهما «شباب الورد» أو «الدود»، ومن آخرها إشارة فى ألبوم شب جديد «سندباد» الصادر فى 2019.
فى مقال بعنوان «لا تمت قبل أن تكون دودًا»، يشرح لنا موقع «متراس» الفلسطينى معنى «الدود»: «جماعةً مغلقةً على نفسها لها منطقُها والشّروط الخاصّة للانتماء لها، وتطغى عليها الهويّةُ المناطقيّة القريبة التى يُعوَّل عليها فى أوقات «الجّد». هى هويّة اجتماعيّة تتمحور حول ترقّب «يوم العازة» والهمّ الاجتماعيّ المشترك، والصّدق والجدعنة».
الدود إذن جماعة من «الجدعان» وأولاد البلد، هوية جديدة قد تضاف للهوية الفلسطينية، أو المقدسية، أو العروبية. هل يمكننا أن نعدها نسخة جديدة من «سجّل أنا عربي» لمحمود درويش؟ 
استلهام رأى إيليا سليمان
استُدعى كثيرًا فى الأيام الماضية المخرج الفلسطينى الأشهر اليوم، إيليا سليمان، الذى اشتهر بميله فى أفلامه لتصوير مظاهر الحياة اليومية الفلسطينية، مع لمسات مغرقة فى الغرابة والكوميديا. ولنضرب بعض الأمثلة هنا على هذا:
جرى فى الأيام الماضية تداول فيديو لشاب مقدسى، بآثار واضحة لكدمات على وجهه، يقوده شرطى إسرائيلى بشوارب ضخمة. يهتف به أحد الباعة فى السوق القديمة بالقدس: «سلامتك يا معلم»، ليرد عليه الشاب: «حبيبي». ويمضى الشاب الأسير مع الشرطى، فيتمتم البائع، كما لو كان بينه وبين نفسه: «حسبى الله عليهم، يلعن أبو شواربك». 
ويعلق الناس على الفيديو قائلين: كأنه مشهد لإيليا سليمان.
فى فيلم «يد إلهية» لنفس المخرج، يطيّر فلسطينى بالونة فى سماء فلسطين عليها صورة ياسر عرفات، بينما فى الحراك الحالى، يجرى تداول صورة لجندى إسرائيلى يحاول نزع بالونات كثيرة تأخذ ألوان العلم الفلسطينى، أحمر وأسود وأخضر وأبيض، معلقة على سلك كهرباء بين أعمدة إضاءة بالشيخ جراح، فيعلّق الناس على الصورة: كأنه مشهد لإيليا سليمان.
فى فيلم «سجل اختفاء» لسليمان، تسرق شابة فلسطينية جهاز لاسلكى لتأمر شرطة الاحتلال بالانسحاب من القدس، وفى الحراك الجارى يخطف أحد المتظاهرين جهاز لاسلكى يخص شرطة الاحتلال، ويبدأ فى الحديث بالعبرية قائلًا إن «أبو عبيدة»، الناطق الرسمى باسم «حماس»، فى طريقه إليهم، فيعلّق الناس مجددًا: كأنه مشهد لإيليا سليمان.
على إثر هذا الاحتفاء فيما يبدو، قرر المخرج الفلسطينى إتاحة جميع أفلامه للعرض مجانًا بهدف التعريف بالقضية الفلسطينية، وبدا هذا اختيارًا موفقًا لأبعد حد، استقبله المتابعون بسعادة غامرة، حيث الفن يقترن بالقضية، والمقاومة يُعبّر عنها فى سينما تنشغل بالأساس بالفنيات، أكثر من انشغالها بالمقاومة. 
فيلم آخر يُضاف لقائمة الأفلام الفلسطينية غير التقليدية فى تعريفها بالقضية، جرى استدعاؤه كثيرًا فى الأيام الماضية، هو فيلم الأنيميشن «المطلوبون الـ18»، للمخرجين عامر شوملى وبول كوان، والمعروض عام 2014. يدور الفيلم عن قرية فلسطينية اقتنت 18 بقرة من أحد الكيبوتسات المحيطة بها، لتتمكّن من توفير احتياجاتها من الحليب ومن مقاطعة شركة الحليب الإسرائيلية بالتالي. يجعل الفيلم لكل من الأبقار اسمًا وشخصية وملامح، وإسهامًا حتى فى إشعال الانتفاضة الأولى فى 1987.
هكذا، وعن طريق أبقار ممزقة بين انتمائها للكيبوتس وللقرية الفلسطينية، تكلمنا، وتكلّم بعضها، وجهًا لوجه، يشرح لنا المخرجان تكنيكات مقاطعة البضائع الإسرائيلية، التى أدت فى النهاية لإشعال الانتفاضة.
الناس ظمأى لأشكال جديدة تتعلق بالقضية الفلسطينية. كانت كلمة السر المشتركة فى الاحتفاء بكل هذه الأعمال هي: لو أردتم مشاهدة شيء عن فلسطين من دون شعارات أو خطابة.
فن «الميم»: هكذا تكلم القرد
ليس المقصود بالطبع أن الناس قد توقفوا عن مشاركة أشعار محمود درويش وسميح القاسم، فهذا لم يحدث قط، وإنما فقط أن هناك أعمالًا فنية أكثر معاصرة تعبّر عن القضية الفلسطينية اليوم، وأن هناك مزاجًا جديدًا يجد نفسه فى هذه الأعمال أكثر من غيرها.
وإذا كنا بصدد الكلام عن الفنون الجديدة، فلن يمكننا تجاوز فن «الميم»، الذى قد يكون الفن الأحدث فى العالم، فنًا شعبيًا بحكم عدم معرفة مَن هو مبدعه، وأغرق صفحات التواصل الاجتماعى فى السنوات الماضية، ويعتمد على صورة تحمل مفارقة، يجرى استنساخها فى مواقف عديدة تتنوع بحسب التعليق المكتوب على الصورة، وغالبًا ما يكون مصدر الصورة مشهدًا بفيلم أو صورة نمطية مُتاحة للجميع على الإنترنت.
تواكب حراك غزة مع شيوع «ميم القرد» على صفحات التواصل الاجتماعي؛ صورتان لنفس القرد، فى الأعلى يتكلم فى التليفون فاتحًا عينيه، وفى الأسفل يواصل الكلام لكن مغمضًا إياهما.
نشرت صفحة «بلستنيان ميمز»، على فيسبوك وانستجرام ميمًا يصور الطرف الإسرائيلى كأنه قرد يعتمر الطاقية اليهودية، ويتكلم فى أحد الميمات قائلًا فى الصورة العُليا: :»شو بتقول يا عوڤادا؟ مش قابل يعطيك بيت»»، ثم يغمض عينيه، ويتابع فى السفلى: «أما anti semitic عنصرى بصحيح»، وفى ميم ثانية يقول القرد: «إيه يا مصريين إحنا مش بيننا معاهدات؟»، ثم يغمض عينيه ويقول: «أحطها فين؟ طيب شا..شالوم». وفى ثالثة يقول القرد: «اعملوا شير لأول خريطة فى العالم عشان يعرفوا إن حى الشيخ جراح لينا». قبل أن يغمض عينيه قائلًا: «بتقول إيه؟ أول خريطة مافيهاش إسرائيل أصلًا، طيب شا.. شالوم».
ولأن الميم، وبتعريفه، هو بناء على بناء على بناء، فقد يغادر حتى حدود الصور ليمتد للفيديوهات القصيرة. ينتشر فيديو يصوّر قائد المنطقة الجنوبية فى إسرائيل، اليعازر توليدانو، وهو يهرب من مقابلة على الهواء بعد إنذار بسقوط صواريخ، مترافقًا مع نفس التعليق من ميم القرد: طيب شا شالوم.