خواطرالإمام الشعراوى

حكمة لقمان

الشيخ الشعراوي
الشيخ الشعراوي

يقول الحق فى الآية 12 من سورة لقمان:«وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»..الحق سبحانه آتانا قبل أنْ يخلقنا، وآتانا بعد أن خلقنا بالمنهج ثم وَالَى إلينا بمواكب الرسالات التى تحمل إلى كل بيئة المنهج الذى يناسبها، وقبل أن يخرج آدم عليه السلام لتحمُّل عبء هذه الخلافة أعطى الله له تجربة، هذه التجربة مفادها أن يحافظ على منهج ربه فى (افعل) و(لا تفعل) وأن يحذر كيد الشيطان.

يقول سبحانه: «ولقد آتينا لقمان..» والإيتاء يُطلَق على الوحى مع الفارق بينهما، فإنْ أطلق الوحى فإنه ينصرف إلى الوحى للرسول بمنهج من الله، ويُعرَف الوحى عامة بأنه إعلام بخفاء.. والإيتاء يُقصد به الإلهام، ويكون حين تتوافر للإنسان آلة استقبال سليمة صالحة لاستقبال الإلهام والخاطر من الحق سبحانه وتعالى، وآلة الاستقبال لا تصلح للاستقبال عن الله تعالى إلا إذا كانت على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها، كما يلتقط(الراديو أو التليفزيون) الإرسال، فإنِ انقطع عنك الإرسال فاعلم أن جهاز استقبالك به عطب، أما الإرسال فموجود لا ينقطع، ولله تعالى المثل الأعلى.. وكان سيدنا لقمان من هذا النوع الصافى الطاهر النقي، الذى لم يخالط جسمه حرام، والذى لا يغفل عن منهج ربه؛ لذلك آتاه الله الحكمة، وقال فيه: «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة..» «لقمان: 12».


وقد اختلف العلماء فيه: أهو نبى أم غير نبي، والغالب أنه غير نبي؛ لأن القائلين بنبوته ليس لهم سند صحيح، والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس، دقيق الإدراك، والحسّ كما قلنا هو الأصل الأول فى المعلومات، وللعلماء أبحاث حول شخصية لقمان وجنسيته، فمنهم مَنْ ذهب إلى أنه كان أسود اللون غليظ الشفتين كأهل جنوب إفريقيا، لكنه مع ذلك أبيض القلب نقى السريرة، تخرج من بين شفتيه الغليظتين الحِكَم الرقيقة والمعانى الدقيقة.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالوا: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).. فإن قلت: ما دام ليس نبياً، فكيف يؤتيه الله؟ نقول: بالمدد والإلهام الذى قال الله فيه: «إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً» «الأنفال: 29» فمَنْ يحافظ على مواصفات التكوين بمنطق الله يأخذ من الله مباشرة.. لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز: ما قصر بنا فى علم ما نجهل إلا عدم عملنا بما علمنا-يعني: لو كنا أهلاً للزيادة لزادنا، لو كنا مأمونين على ما علمنا فوظّفناه فى حركة حياتنا لجاءتنا فيوضات إشراقية وعطاءات من ربنا ممتدة لا تنتهي، أما إنْ أخذنا العلم فألقيناه جانباً ولم نعمل به، فما الداعى للزيادة، وأنت لم تستفِدْ بما عندك؟.. وكما تكلم العلماء فى شخصية لقمان وجنسيته تكلموا فى حكمته، فسأله أحدهم وقد تبسَّط معه فى الحديث: ألم تكُنْ عبداً تخدم فلاناً؟ قال: بلى، قال: فَبِمَ أوتيت الحكمة؟ قال: باحترامى قدر ربي، وأدائى الأمانة فيما وليت من عَمل، وصدق الحديث، وعدم تعرُّضى لما لا يعنيني.


وهذه الصفات كافية لأنْ تكون منهجاً لكل مؤمن، ولأنْ ينطق صاحبها بالحكمة، والله لو كانت فيه صفة الصدق فى الحديث لكانت كافية.. لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد الأسود، فآتاه الله الحكمة مباشرة، وهو ليس نبياً ولا رسولاً، وسُمِّيت إحدى سور القرآن باسمه، وهذا يدلك على أن الإنسان إذا اعتدل مع الله وأخلص فى طاعته فإن الله يعطيه من فيضه الواسع، فيكون له ذِكْر فى مصافِّ الرسل والأنبياء.
ويُرْوَى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب مُضْغتين فيها، فذبح الشاة وجاءه بالقلب واللسان، وفى اليوم التالى قال له: اذبح لى شاة وأتنى بأخبث مُضغتين فيها، فجاءه أيضاً بالقلب واللسان فسأله: ألم تَأْتِ بهما بالأمس على أنهما أطيب مضغتين فى الشاة؟ قال: بلى فليس شيء أطيب منهما إذا طَابَا، ولا شيء أخبث منهما إذا خَبُثَا.


ويُروى أن لقمان كان يفتى الناس، وكانوا يثقون بكلامه، وكان ذلك قبل داود عليه السلام، فلما جاء داود كفَّ لقمان عن الفُتْيا، فلما سألوه: لماذا امتنعتَ عن الفُتْيا؟ فقال- وهذه أيضاً من حكمته: ألاَ أكتفى إذا كُفيت؟.