-1-
لم يكن صعبا علي عامر سرحان صديق سمير التايه أن يجد له وللبني مكانا. أخبرهما أن هناك مصيفا صغيرا به أكثر من شقة يخص مديرية الثقافة يتم استخدامه بداية من شهر يونيو، ويمكن أن يفتحه لهما يوما أو يومين حتي يجد لهما شقة عند أحد الأصدقاء. لم يستغرق الأمر أكثر من ساعة ترك خلالها سمير ولبني حقيبتهما في الشقة الصغيرة، وعادا معه ليشاهدوا معا عرضا غنائيا علي مسرح قصر الثقافة كتبه ويؤديه شباب المدينة. كان العرض قصيرا انتهي بسرعة. استمتعا بالأغاني والرقص مع العدد القليل الحاضر، وبالشباب الجميل من الفتيان والفتيات علي المسرح. أعجب سمير أن الفتيات كن صغيرات السن وغير متحجبات. ذهب سمير ولبني ليجلسا مع عامر سرحان في إحدي المقاهي. سأله سمير عن الشواطئ هنا. أخبره عامر عن شاطئ كليوباترا وشاطئ عجيبة، وحذره من الغرق في شاطئ عجيبة، فهو عميق ومياهه غادرة، وكذلك حدثه عن شاطئ ليلي مراد، الذي أخذ اسمها من وقفتها تغني عليه في فيلم « شاطئ الغرام». أخبره بأسماء شواطئ كثيرة لم يهتم أن يعرف منها غير ماذاعت شهرته وكان يسمع عنها من قبل. انتهت جلستهم التي عرف فيها عامر من سمير التايه، أن لبني زوجته قد نسيت بطاقتها الشخصية بالقاهرة. لقد أجل سمير التايه اعترافه له بما يريدان من هرب إلي ليبيا للقاء آخر.
عاد سمير ولبني إلي الشقة الصغيرة التي من غرفتين، بكل غرفة سرير عريض ودولاب صغير، وفي الصالة ترابيزة سفرة صغيرة حولها ست مقاعد، ومطبخ صغير مجهز وحمّام. سألها سمير:
- ما رأيك ان نذهب الآن إلي حمام كليوباترا؟
نظرت إليه مندهشة. قالت:
- هل المكان مفتوح بالليل وفي رمضان؟
- وحتي لو كان مغلقا وهناك حارس له فكل شيئ يمكن فتحه بالفلوس.
- لكننا لن نري شيئا.
- ليس فيه شيئ يُري. هو كهف صغير كما شرح لنا عامر، يقال أن كليوباترا كانت تستحم فيه حين كانت تأتي هنا وهي تحكم مصر.
- طيب وماذا سنفعل؟
- سنفعل مالا يجب أن يفعله عاقل. سنستحم فيه.
- أنت مجنون ياسمير. نستحم في هذا الوقت. نحن لن نستطيع أن نفعل ذلك بالنهار في هذا الجو البارد.
- طبعا مجنون .أنتِ قلتِ لي أننا لا نفعل غير الجنون.
- وكيف استحم؟ بملابسي.
- بمايوه. سنترك الشقة ونشتري مايوه لكِ، وشورت لي، من أي محل ونذهب.
- حتى لو اشترينا المايوه سنحتاج أن نعود لأرتديه تحت ثيابي.
- سنعود ترتديه ثم نخرج. هيا قبل أن ينتصف الليل.
ساعة وكانا داخل حمام كليوباترا. لم يجدا حارسا له ولم يمنعهما أحد. المحافظة جعلت الطريق إليه فوق ممشي زجاجي. لا يوجد غيرهما يمشيان الآن. الساعة تجاوزت الواحدة صباحا والبرد يشتد، وصوت الموج الهادر في البحر يصل إليهما. بل يريان نهاية الأمواج البيضاء حين تصل إلي الشاطئ، ولايريان الأمواج نفسها وهي قادمة.
- أوووووه الجو بارد.
قالت لبني ذلك وهي ترتعد بعد أن خلعت ثياباها وأصبحت بالمايوه. نظر إليها وقال:
- ويقولون ممشي زجاجي! جسدك هو الزجاجي تظهر فيه الثعابين والأسود تريد أن تسبح في الماء.
واحتضنها وهو يخلع ملابسه بينما هي تضحك ويقول:
- ننزل الماء. الماء البارد أفضل مصدر للدفئ.
قفزت إلي الماء وقفز بعدها ولا تزال ترتعش. ارتفاع الماء ليس كبيرا، ومن ثم يمكن أن تقف أو تسبح مطمئنة. المكان صغير. ظلت ترتعش أمامه من البرد، فاحتضنها يرتعش أيضا.
- ما الذي نفعله ياسمير؟ يمكن أن يتم القبض علينا.
- من المجنون الذي سيأتي إلي هنا الآن.
وصار يسبح أمامها في المكان الضيق، ذاهبا آيبا بسرعة ويقول:
- افعلي مثلي. سيغمرك الدفئ.
راحت تفعل مثله وتضحك حتي اصططدما ببعضهما فاحتضنها قائلا:
- أنا دفيان جدا.
- وأنا كمان.
- طيب اخلعي المايوه.
- يخرب بيتك انتظر حتى نعود للشقة.
- هل كانت كليوباترا تأتي هنا بدون أنطونيو؟ وهل كان انطونيو ينتظر العودة إلي القصر؟
وراح يخلع هو عنها المايوه وهي تقول يامجنون، وتقاوم بدلع حتي صارت عارية. ألقي بالمايوه علي الصخر القريب وخلع الشورت الذي يرتديه أيضا. جعلها أمامه وسط الماء، ثم حملها من وسطها فاحاطته بساقيها، وراح يمارس معها شهوته وهي تتأوه صارخة.
- لماذ أشعر أني لم أعرف رجالا قبلك ياسمير؟
- ولن تعرفي بعدي يالبني. أصبري. أنا كلما مارست الجنس احتجت إليه.
انتهيا وخرجا من الماء يلقيان بنفسيهما على الصخور متجاورين. قال:
- بقيت لنا ليلة في متحف روميل.
- ماذا تقصد؟
- روميل قائد قوات المحور في الحرب العاليمة الثانية، له متحف هنا بين الصخور أيضا.
- هل هو وسط الماء؟
- أقول لك متحف. متحف به بالطو قديم له، وبعض الأشياء الصغيرة التي تخصه. كان روميل يجلس فيه يتابع معاركه.
- متحف إذن يكون له حارس.
- قلت لكِ الفلوس سكة كل شيئ. يمكن أن أجعله يعطيني المفتاح ويعود إلي البيت!
ثم ضحك قائلا:
- دي مصر يالبني!
- أنت مجنون حقا ياسمير. أنا لا أعرف ماذا بينك وبين روميل.
- إذا نمت معك في المتحف ستغمرني بركة روميل، وسأستطيع الهروب معك إلي ليبيا. أجل. روميل بعد أن تمت هزيمته من العلمين، عاد بمن نجا من جنوده إلي ليبيا ثم تونس، ومنها عبر البحر المتوسط إلي إيطاليا. يمكن أن نفعل مثله ببركته، وإذا لم نستطع فعلى الأقل نضمن الوصول إلي ليبيا. من هناك سيساعدنا الله لنصل الي تونس، ثم علي عبورالجزائر إلي المغرب ثم الأندلس.
- لا أصدقك في شيي لكني لا أستطيع أن أرفض لك طلبا، ياروحي التي وجدتها بعد عشرسنوات مع تاجر الجواري المعفن.
ضحك وعادا إلي البيت وهو يفكر كيف يمكن أن يفعل ما قرر أن يفعله.
-------------
صارا يضحكان وهما ممددان جوار بعضهما علي السرير بعد أن استحما في الشقة. كانت كل الأشياء بالشقة الصغيرة متسخة. قال لها :
- لا تنظفي شيئا.
- كيف سنجلس أو ننام؟
- سنعيش الحياة كما هي. أمامنا رحلة طويلة. دعينا نتدرب علي القذارة.
ابتسمت تهز رأسها وتركت كل شيئ علي حاله. لم يوافق حتي أن ترفع ملاءة السرير المتسخة عنه. قال لها.
- سننام وسط الغبار. في الصباح نفّضي ملابسك، وأنا سانفّض ملابسي وخلاص.
قالت:
- انت مجنون.
قال:
- كم مرة قلتي لي ذلك. أعتقد أنه من الأفضل أن تقولي أنت عاقل!
ضحكت وارتمت في حضنه، وجاءهما صوت المسحراتي من الشارع «اصحي يانايم وحد الدايم. رمضان كريم»
وقفت وقالت:
- سأنام في الغرفة الثانية حتى لا تفسد صيامي.
ضحك. قال لها:
- ما رأيك أن نترك الشقة من جديد، ونمشي قليلا مع المسحراتي، نري المدينة وهي خالية تماما؟
- لقد عدنا وهي خالية. هل نسيت بسرعة؟
- لا. قابلنا رجلين يمشيان. الآن ستكون خالية تماما.
- والنوم الذي يغالبني؟
- ننام بالنهار.
فكرت لحظة ثم قالت:
- طيب ننزل بعد أذان الفجر.
هتف فرحا:
- الله عليكِ . نري النهار وحدنا وهو يطل علي الدنيا.
- موافقة. المهم اتركني آكل.
- لم نشتري سحورا.
- معي كرواسون وبسكويت وعلبة جبنة نستو اشتريتها حين خرجت مرة أثناء العرض الغنائي. كنت أخشي أن أنسي.
- كلي واشربي وقرّي عينا يا ابنة الرب.
- نظرت إليه غير قادرة على الفهم.
قال:
- انت إلهة صغيرة وأنا خادمك.
بينما جلست تأكل على ترابيزة السفرة المتسخة، لم تستطيع أن تمنع نفسها من الابتسام لأنه اقنعها بعدم تنظيف المكان. كان هو يري نفسه جالسا معها وحدهما علي الشاطئ. ضوء الصباح يأتي من ناحية الشرق شيئا فشيئا ولم تظهر الشمس بعد. البحر يمتد أمامه يسمع هدير أمواجه منتظما كأنما هي مهمة تقوم بها ولا تنتهي. ماذا يمكن أن يحدث لو ظهرت لهما سفينة صغيرة اقتربت من الشاطئ، ونزل منها رجل عاري إلا مما يستر عورته، وقال لهما « اركبا معي، لقد جئت لأنقلكما إلي بلاد الأحلام «. يعرف من الرجل أنه روبنسون كروزو الحقيقي لا يزال يعيش ويتنقل بين غابات العالم، ولم يكن قصة وانتهت بالنشر، ولا بتحويلها إلي فيلم سينما. إنه روبنسون الحقيقي المنذور لانقاذ البؤساء الذين يريدون الفرار من هذا العالم ماداموا لايستطيعون تغييره. يركبان ويريانه يدفع السفينة بيديه وتتباعد في الماء. يستطيع أن يدفعها وحده، رغم أنها سفينة مهما كانت صغيرة، فهي ليست قاربا ولا زورقا. ثم يُسرع في الماء جاريا، ثم سابحا المسافة القلية حتى يصل إلي السفينة، فيلقي إليه شخص ما من سطحها بحبل. ينظر سمير فيراها فتاة جميلة يعرف فيما بعد أنها شهرزاد التي جاءت لتكتب حكايته ولبني تكمل بها الألف ليلة وليلة بليلة أخري. كم هي جميلة شهرزاد ترتدي ثياب الآلهات اليونانيات التي تشف عن جسد قوي، وثديين ناضجين يعلنان للدنيا عن قوتهما، ولا يحملهما أىّ مشد للصدر أو سوتيان. تترك شعرها خلفها يطيّره هواء البحر. تقول له إذ تراه ينظر إليها «لا تندهش. لست وحدي. هذه سفينة الجَمال. بها حتى الآن عشر نساء. لقد أخذناهن من شواطئ بلادهن لنصل بهن إلي الجنة التي يردنها، لكنهن بعد أن رأين كرمنا أنا وروبنسون، وكيف كان يمكن أن ندفع حياتنا ثمنا لهن، رفضن النزول وفضلن البقاء معنا. أقنعننا أن نظل ندور على الشواطئ نجمع البائسات، ونصل بهن إلي شوائطهن التي يردنها، فتنزل من تنزل، وترفض من ترفض وتفضل البقاء. قلت لك أن الذين فضلن البقاء حتي الآن عشر نساء» سألها كيف تقودان السفينة وليس معكما بحارة، فقالت له هذا سر الموعودين. لا تتخيل أن هذا العالم يعيش بالقديسين فقط. الله الذي يعطي القديسين كرامات عالية يعطي الأشقياء. لقد احتجت إلي ألف حكاية وحكاية حتي لا يقتلني شهريار، واحتاج روبنسون إلي سنوات ليعود إلي الوطن. هل هناك شقاء أكثر من هذا. أنا المرأة جعل الله النجاة في لساني، وهو الرجل جعل الفوز في قوته. الله هو الأدري بقدرات البشر.
اسئلة كثيرة كان يريد أن يعرف إجاباتها، لكنها استبقته وقالت له أن لا أحد يري السفينة حين تقترب من السواحل. هما يستطيعان أن يدخلا المواني حيث لا يري السفينة أحد، لكنهما يخشيان أن لا تكون هذه الميزة قد فازت بها جميع من معهما، فيتم القبض عليهن جميعا. يمكن أن يكون بينهن تعيسة حظ تستمر تعاسة الحظ معها وقتا طويلا. إنهما يتركان للزمن فرصة تنقية الروح مما شابها من تعاسة. أنت أول رجل نلتقطه الآن والذي يشفع لك هو حبيبتك. هذا العالم الذي تهرب منه النساء قاتل. كيف للعالم أن يكون كذلك. كيف توافقون أن تهرب منكم النساء. لماذا لا تستمعون إلي حكايات منهن، فتفوزون بملايين الليالي تعمر حياتكم الخربة؟ وحين ضربت السفينة أمواج عالية قالت له لا تخف، مهما كانت قوة الموج فهو يهدهد سفينتنا علي صدرها. لكن قل لي ما الذي جعلك تفعل ذلك مع لبني؟ وقف حائرا. تُردد اسمها مرة ثانية. هل يقول لها الحقيقة. هو لايعرف إلا أنه حين قبّلها أحس بأنه ليس من هذا العالم، وأن القبلة ذكرته بقبلته لنور التي شعر بها بنفس الشعور. لقد تركت نور البلاد ورحلت بعد أن أعطته قبلتها التي عزلته عن الدنيا لا يراها، ولا يشعر فيها بطعم أي شيئ غير القبلة. تردد كل هذه السنوات حتي جاءت القبلة الأخيرة مثل نذير بالشر إذا بقي في البلاد، أو بشير بالخير إذا رحل. قالت له أن نور لم تذهب إلي قارة أخري. هي معنا هنا في السفينة، وكانت أول من التقطناه من شاطئ الإسكندرية»
هنا توقف عن الخيال إذ سمع لبني تقول:
- هيا بنا. أكلت والحمد لله. لا تقترب مني حتى أكمل الصوم.
>>>
غادر معها الشقة شاردا. فكر بالفعل أن لا يخرج، وفكر أن يخرج إلي الشاطئ لعله يجد السفينة. لكنه لن يجدها. لقد أعادته لبني إلي الواقع حوله. أمامه عمل كبير في البحث عمن يمكن أن يعبر بهما الحدود. لماذا لم يضع فيه الله قوة السباحة الخارقة هو ولبني، فيعبران البحار والمحيطات ويعيشان مع الأسماك حتي يصلا إلي شواطئ الأحلام. مشي معها وسط المدينة في الاتجاه إلي الشاطئ . كل المحلات مغلقة. كل المقاهي. كل المطاعم. أعداد قليلة تقابلهما قادمة من مساجد متباعدة، تسرع في صمت إلي بيوتها وسط البرد. هما يمشيان علي مهل. هو الحقيقة ولبني تفعل مثله. هل حقا يمكن أن تظهر له سفينة، أم سيكون أقصي حظه أن يعود مع لبني، ويفسد صيامها كالعادة بالجنس الذي مهما ترددت فيه تُقدم عليه؟ ابتسم وأدرك ان ابتسامته عودة من الخيال إلي الواقع المسحور. كلما اقترب كان هواء البحر يزداد قوة حتي صارا يسرعان، يميلان بوجهيهما يمينا ويسارا كأنما يتفاديان صفعات الهواء الباردة. قالت:
- نرجع أفضل. ربما تمطر أيضا. السماء سوداء بالسحب.
- لا. أسرعي. حين نكون على الشاطئ سيتسع الفضاء وستقل قوة الهواء. لابد أن نري بدايات للنهار.
أسرعت خلفه حتي وصلا إلى الشاطئ. لا أماكن لكافتيريات. عادة تكون صيفا. لا مقاعد ملمومة ولا مصفوفة على الرمال. حتي الدُش الذي يستحم تحته المصيفون على الشاطئ، مكسور الصنبور من الناحيتين ومُغلق طرفاه بإحكام. لاشيئ غير الرمال.
- أجلسي.
وسقط على الرمل بسرعة، بينما صرخت هي إذ رأت سلحفاة تخرج من بين الرمال، وتمشي علي مهل متجهة إلي الماء. ظلت تنظر إلي السلحفاة في عجب. قال:
- أجلسي. قلقتي الست وهي راجعة لبيتها!
انتهت السلحفاة من الرمال الجافة، ومشت علي الرمال المبتلة بأثر الموج. أقبل الموج واختفت معه. رأوا شيئا أسود يتقلب داخله ثم لم يعد يُري. جلست قريبة منه فأحاطها بذراعه قائلا:
- أخافتك السلحفاة وكل الثعابين والأسود والسيوف تحملينها على جسدك؟
ابتسمت ثم أجابت:
- في البداية، لكني الآن شاردة فيما فعلته. كيف تعود السلحفاة إلي بيتها ونحن نترك بيوتنا؟
ارتبك. قالت:
- لا أقصد بيوتنا التي تركناها. خانني التعبير. كيف أنه ليس لنا وطن لنعود إليه.
ووضعت رأسها في صدره وأجهشت بالبكاء.
-2-
بعد الإفطار، وبعد ثلاثة أيام قضياها في الشقة السابقة، انتهي سمير التايه ولبني إلي شقة جديدة وفرها لهما عامر سرحان. قال عامر:
- صاحب الشقة زميل لي في مركز الإبداع بالإسكندرية، يترك معي مفتاحها لأقوم بتأجيرها له في الصيف، في الوقت الذي لا يأتي فيه. هو عادة يأتي أسبوعا واحدا أو أسبوعين ويترك المفتاح معي طول العام.
سأله سمير عن الأجرة فأجاب:
- لا شيئ. عرف أنك صديق لي فلم يطلب شيئا. ثم أننا لم ندخل في الصيف بعد حيث ترتفع الأجور. يمكن أن تظل هنا حتي منتصف يونيو إذا أحببت. المصيفون يهلّون قليلا في النصف الثاني من يونيو، ثم يكون الهجوم الكبير ابتداء من يوليو.
كان هذا حلا أفضل بالنسبة لعامر حتي لا يقلق مديره من إنزاله لصديق له ومعه زوجته، في شقة تابعة لوزارة الثقافة في غير أشهر الصيف وقتا أطول وبالمجان. ماحدث أمر استثنائي لا يزيد عن ثلاثة أيام، أما وأن سمير يريد أن يقضي أياما أطول هنا، فالأفضل هو انتقاله بزوجته لبني إلي مكان آخر.
الشقة الأخري أوسع وأجمل. وجد سمير في نفسه رغبة أن يتحدث مع عامر في أسراره. ترك لبني في الشقة موافقا أن تقوم بتنظيفها حتي يجدا طريقة للهروب. الوقت سيطول. من يدري ربما يمتنع المهربون عن العمل في رمضان. ونزل مع عامر من العمارة شبه الخالية من السكان، مما يشي أن أكثر شققها للمصيف فقط. قال:
- هيا نجلس وحدنا بعض الوقت.
الشوارع عامرة بالحركة، والأضواء تشع حولهما من السيارات وأعمدة الإنارة والمحلات وشرفات المنازل. أخذه عامر إلي مقهي اسمه « كليوباترا» مكتظ بالشباب والرجال وجلسا. طلب كل منهما فنجان قهوة، وراح سمير يتأمل الجالسين. لايبدو أن بينهم بدوا كثيرا. أدرك عامر مايفكر فيه سمير وقال:
- الآن مرسي مطروح مثل القاهرة، مليئة بأبناء الريف.
فكر سمير قليلا وتساءل:
- وهل بها أعمال تكفي الغرباء؟
سكت عامر قليلا وأجاب:
- لقد قلوا. يوما ما كانوا أضعاف من هم هنا الآن. كان تهريب البضائع من ليبيا وإليها عملا شائعا. وإلي ليبيا طبعا كانوا يهرِّبون الباحثين عن عمل.
سكت سمير. عامر يدخل به إلي المنطقة التي يريد أن يعرف شيئا عنها. لقد جلس في الأيام الثلاثة السابقة بالمقاهي مع لُبني. كثيرا ما كان صامتا يسترق السمع إلي الجالسين لعله يسمع أحدهم يتحدث في ذلك. لم يفلح ولم يتشجع أن يتحدث مع أحد في الأمر. ولما بدا أن الفرصة تأخرت تحدث مع عامر . كان عامر يتأمله كثيرا بين لحظة وأخرى حتى قال سمير:
- ياعامر. أنا أريد الهرب إلي ليبيا.
ابتسم عامر وبدا لم يندهش أو يُصدم فيما سمعه ثم قال:
- أعرف.
ارتبك سمير. سأله.
- كيف؟
- أنت لست متزوجا ياسمير. أنت هارب بلبني من زوجها.
- كيف عرفت؟
تساءل سمير بينما عيناه تتسعان بالدهشة والقلق. أجاب عامر:
- من أنور الغرباوي ناظر مدرستك.
سكت سمير مصدوما مما يسمع فقال عامر:
- أنا لا أعرفه شخصيا. أعرف ابنه. بالصدفة كان قد طلبني في التليفون يذكِّرني أن أحجز له شقة صديقي السكندري أسبوعين في شهر يوليو القادم. حدثته عنك. هو لا يعرفك ولم يهتم، لكنه اليوم طلبني وأخبرني أنه نقل الخبر إلي أبيه دون أن يقصد شيئا، ففوجئ بأبيه يقول له ماسمعت.
هز سمير رأسه وقال:
- إذن عرفوا مكاني منك ياعامر.
- لا تقلق. قلت له اليوم إنك غادرت مرسي مطروح عائدا إلي الإسكندرية. وجدت أن هذا حل للمسألة.
وسكت عامر قليلا ثم استطرد:
- المهم أن لا يكون هناك من يتابع هروبك من البداية. هل يمكن لزوج لبنى أن يتركها تهرب معك دون إبلاغ البوليس مثلا؟ لا أظن. لذلك أريدك ان تنتبه لما حولك.
قال سمير:
- الأفضل أن أجد لنفسي مكانا بعيدا عنك حتي لا يتم استدراجك في أي تحقيق يوما ما.
- لن يستطيعوا إدانتي. ليس عندي إلا ماقلتُ. دعنا في الموضوع الأصلي. لماذا فعلت ذلك؟
سكت سمير لحظات ثم قال:
- ربما تفهم أنت ما ساقول. هل تذكر أيام ثورة يناير. هل تذكر قصة حبي لنور النوري؟ مؤكد تذكر وتعرف أين هي الآن.
بدت الحيرة علي وجه عامر ثم سأله:
- وماعلاقة ذلك بما فعلت؟
- انا منذ اليوم الذي غادرت فيه نور البلاد لا أعيش بين الناس. غريب عن كل ماحولي. كلمة نور لي لا أنساها. أحلم كأنك تعيش إلي الأبد، وعش كأنك ستموت غدا، الشجاعة ليست الحياة، لكنها الاستعداد للموت. كثير جدا عرفته من نور، ومن شباب الثوار، كبتّه في روحي هذه السنوات، حتي أيقظته قبلة للبني. قبلة شجعتني على الهرب من مصر، لأعتذر للقبلة الأولي التي لم يضع طعمها من لساني وفمي وجعلتني أتحمل كل ماجري حولي من سوء حظ للبلاد.
سكت عامر وهو يشعر بارتباك كبير لحظات ثم سأله:
- هل كانت لبني ممن اشتركوا في الثورة؟
هز سمير رأسه وأجاب:
- ركِّز معي هنا. هي لم تكن منهم. هي شخصية غريبة جدا. منذ عرفتها وأشعر أنها ليست من بنات الأنس. يمكن أن تقول عنها جنيّة كما حاول زوجها اقناعها. امرأة ليست من عالمنا دعتني أن أذهب بها إلي ماوراء العالم.
ابتسم عامر وبدت الحيرة الشديدة على وجهه من جديد. أحس أنه غريب عن العالم. هل عمله في مرسي مطروح هو السبب؟ لقد قرأ كثيرا من الروايات لم يجد فيها ذلك، لكنه مطَّ شفتيه وقال:
- ليس مهما أن اقتنع بما تقول. المهم أن تفوز بالهروب. أنت ذاهب إلي ليبيا في وقت يعود منها كل من ذهب، وأكثرهم يعود جثة – وضحك – هذه مغامرة لا يمكن فهمها أو استيعابها.
حط عليهما الصمت لحظات حتي قال سمير:
- لذلك أفعلها.
وعادا يشربان القهوة في صمت، وعامر حائر في كل ماسمع، حتى تساءل سمير:
- هل يمكن أن تصل بي إلي أحد المهربين. أصدقك أن عملهم توقف، لكن لابد أن في خبرتهم ما يفيد، وربما يكون مجنونا يبدأ العمل بي وبلبني.
أجاب عامر ضاحكا:
- سأنتقل من الثورة إلي تهريب الثوار.
قال ذلك وضحك، ثم وقف يقول:
- عد إلي حوريتك الآن. ليطمئن قلبك. لا تفكر في أن أبو رقية يتابعكما أو يهتم بكما. واضح أن الرجل ماصدق إنه تخلص من لبني. سأجد طريقة لتهريبك، لكن سنحتاج بعض الوقت. ربما مع نهاية رمضان نجد حلا.
>>>
قرر سمير أن لا يعتمد علي عامر. أن يظل يبحث حوله عن عصابات التهريب القديمة. سيمضي أكثر اليوم بالنهار والليل بالمقهي، وسيجد في وجه أحد ممن حوله ما يشي بالثقة.
هكذا راح يتنقل بين المقاهي بعد الإفطار، ومعه لبنى أو بدونها. يجرب كلاما من نوع «أنت شكلك مش سهل» مع أحد الشباب أو الرجال لعله يتجاوب معه. أو من نوع « فين أيام ماكانت مرسى مطروح مليانة بضاعة مهربة من ليبيا» لعل أحدا يعلّق أو يلتفت إليه. حدث أن كرر المسألة أكتر من مرة وحده، لأكثر من نهار في مقهي «الرزق على الله» الذي فتح أبوابه كاملة مع اقتراب نهاية رمضان! كان هناك رجل بدوي يجلس كل يوم تقريبا طول النهار. لاحظ أن الرجل ينظر إليه، في كل مرة قال فيها شيئا عن أيام التهريب مداعبا الجرسون. وكما توقع، أشار إليه الرجل أن ينتقل ليجلس جواره.
إذن سينفتح له الباب واسعا للهروب أو لمعرفة الطريق. انتقل جوار الرجل قائلا:
- انا جئت لأصيّف بدري. منذ عشر سنوات لم آتي إلي هنا. الأمر تغير كثيرا لذلك أمزح.
قال الرجل البدوي:
- حتي وإن لم تكن تمزح. عندك حق. الثورات أغلقت أبواب الرزق. والله أحلى أيام كانت أيام معمر الجدافي.
ثم ضحك الرجل وقال:
- قبل الثورة بعشرة أعوام تقريبا، أصدر الجدافي قرارا بأن المصري لا يمرّ من الحدود إلا ومعه ألف دولار. أراد أن يقلل أعداد الهاربين والداخلين إلي ليبيا. هل تعرف ماذا فعل المصريون؟ ظهر تجار يقفون علي بوابة الحدود يعطون الداخل ألف دولار بعد أن يوقّع على إيصال أمانة بالمبلغ باسمه ورقم بطاقته الشخصية. يعبر البوابة ويعود من الخلف، وعبر السلك يعيد الألف دولار وعليها مائة دولار. المهم أنه يكون قد دخل من البوابة إلى ليبيا، وزادت أعداد المصريين.
ضحك سمير غير مصدق. قال الرجل:
- نحن لا يقدرعلينا أحد. لكنهم قدروا علينا الآن وأوقفوا حالنا.
عرف من الرجل أنه كان أحد هؤلاء التجار، وأن قبيلته كانت تعمل في ذلك وتتربح منه. لكن ذلك لم يستمر طويلا. ألغي القذافي القرار فعاد تهريب الناس. في التهريب رزق أكثر. كان هناك تهريب للمصريين من كل القري الحدودية، مثل بقبق وأبو زريبة حول السلوم التي علي الحدود، وكانت بيوتها تُستخدم لتخزين البضاعة المهربة، والناس أيضا الذين يريدون الذهاب إلي ليبيا. سيارات دفع رباعي تمشي في الصحراء مسافات طويلة حاملة من يريدون تهريبهم، حتي تقترب بهم من سلك الحدود فتتركهم يعبرون السلك. وقال الرجل:
- سكان القرى الحدودية، نحن البدو، لا مصدر ثابت لنا في الدخل ولا عمل، فكان التهريب عملنا. أهل السلوم يعملون في الصيد ولا يكفي. حتي الحشيش كان يأتي إلينا من المغرب في البحر ونهربه إلي الإسكندرية وليبيا. كانت السفن تلقي لنا بأجولة جلدية مليئة بالحشيش، يحملها الموج إلي الشاطئ وننتظره. ماذا تنتظر من شباب لا عمل لهم إلا جني النخل والزيتون القليل، أو صيد سمك لا يُغني. كنا نسمي تهريب الشباب إلي ليبيا سفاري كأنها فسحة. نتحرك بعرباتنا بين الجبال والوديان ليلا، وحين نقترب من الحدود، نترك من نريد تهريبهم ليكملوا على أقدامهم. كانوا كثيرين يا أخي والله ما كنا نزهق منهم. مئات كل أسبوع باعوا اللي حيلتهم علشان يهربوا لليبيا، وكان فيهم ناس متعلمة أيضا والله. الله يخرب بيته اللي أقنع الجدافي يلغي الألف دولار للدخول الرسمي.
>>>
لم تفهم لبني سر بهجة سمير بعد عودته في منتصف الليل. راح ينهل من عسلها كأنه غاب عنها سنوات طويلة. في النهاية قال وهو ممدد جوارها تاركا جسمه في مكان بعيد:
- سنحتفل بالعيد كالأطفال، وستبدأ رحلتنا في اليوم التالي له.
لم تفهم ونظرت إليه فقال:
- سأخبرك بكل شيئ في الصباح. المهم أن نذهب غدا بالليل إلي متحف روميل، ونفعل فيه ما فعلناه بحمام كليوباترا.
- ألن تكف عن الجنون ياسمير؟ قلت لك هذا متحف وله حارس.
- الحارس الله.
قال ذلك وضحك.
فهمت أنه سيفعل ذلك برشوة حارس المتحف كما قال، أو قد يتسلل إليه وهو خارجه. ماذا يمكن أن يحدث لو أغلق الحارس عليهما الباب حتى الصباح؟ بدأت تشعر بالقلق، لكنه كان قد نام وراح يشخر. هذه علامات التعب لا تنساها من أبو رقية بعد أن كان يمارس معها الجنس، وهذا ما تتحدث فيه النساء كثيرا. ضحكت. هي أيضا كانت تشعر برغبة شديدة في النوم. نامت طالبة من الله أن تشخر ويسمعها سمير فيستيقظ، ويمارس معها الجنس من جديد!
ظل ليلة يذهب بها إلي حمام كليوباترا وليلة أخري إلي متحف روميل، ولم يمنعه غير الدورة الشهرية التي جعلته يكتفي بالجلسة بها على الشاطئ، لعلَّ سفينة روبسنون كروزو وشهر زاد تلتقطهما. لقد فكر أكثر من مرة أن يترك الشقة ويبحث عن شقة أخري، ولا يعرف عامر سرحان مكانه. ليس لأنه سيغدُر به، لكن خوفا عليه أن تنزلق قدمه في أي قضية معه لو تم القبض عليه ولبني. لكن لبني قالت له أنها تعرف أبو رقية جيدا. هو مؤكد يتابعهما بما له من اتصالات، لكنه في الأغلب يتابعهما ليتأكد أن الجنيّة لن تعود. أضحكه ذلك كثيرا. في النهاية قال لنفسه «وماذا سيحدث لو تم القبض علينا، سنصبح حديث الصحف، وربما يهتم بنا الكتاب ويكتبون عنا مسلسل تليفزيوني، أو حتى فيلم سينمائى».
لم يتوقف عن المشي في المدينة بالنهار، والجلوس في مقهي «الرزق علي الله» التي تفاءل باسمها كثيرا، حتي أن البدوي الذي حدثه عن التهريب اتفق معه قبل العيد بأيام، أنه سيساعده بعد العيد. العمل في التهريب حرام في الأيام المباركة!
ثلاثة أيام العيد يمشي بها في الشوارع يلاعب الأطفال مع أهلهم، ويتفرج على الألعاب التي يلعبها الأطفال، والبالونات التي في أيديهم، وراكبي الدراجات والموتوسيكلات، وظهرت بعض الكافتيريات على الشاطئ فجلس بإحداها مع لبني. لم يري أحدا ينزل البحر. لكنه تذكر ما سرح معه خياله من قبل، والسفينة التي يقودها روبنسون كروزو ومعه شهرزاد. هذا الحلم يختصر له صعاب طرق كثيرة، لكن ماذا يحدث لو تركه من سيقوم بتهريبه بين الوديان والجبال. هل يمكن أن يجد بلدا منسيا من قبل الميلاد يعيش بين أهله ومعه لبني وينساهما كل البشر؟ لم يشأ الاستطراد في الفكر والخيال. تذكر أن عامر سرحان قد سافر إلي القاهرة لقضاء العيد. وانه أخبره أن قصر الثقافة سكون مغلقا أثناء العيد، وأكثر من يوم بعده، لكن الحارس لا يفارقه. قرر أن يعطي مفتاح الشقة إلي حارس قصر الثقافة، وأن يرسل رسالة علي الماسينجر لعامر بذلك.
في البيت مساء اليوم الثالث للعيد قال للبني:
- اشتريت حقيبة أفضل مما نحمل. انقلي فيها ثيابنا واستعدي للسفر غدا.
- هل عرفت الطريق؟
- حتي لو لم أعرفه. من يرضي عنهم روميل، ويتركهم يمارسون الجنس في متحفه، لابد سينصرهم. روميل ثعلب الصحراء الذي دوخ قوات الحلفاء.
ثم ارتبك للحظة لأنه تذكر أن روميل قد قُتِل في النهاية، لكنه ابتسم وهو يتذكر أيضا أن ذلك كان بسبب اتهامه بالتآمر علي هتلر. هو لم يتآمرعلى رئيس. هو مشدود لرحلة طويلة كان منذورا لها ولم يدرك ذلك إلا بعد قُبلة لبني.
انحني يقبلها قائلا:
- أخفيت عليك الأمر حتي صار حقيقة. دعيني أقبِّل الثعابين والأسود التي ستقابلنا كثيراً.
-٣-
كان مدهشا لسمير أنه وجد عشرة أشخاص سيتم تهريبهم إلي ليبيا وليس هو ولبني فقط. كان يعتقد أن ذلك أمر انتهي مع الحرب القائمة هناك، والتي تزداد كل يوم ، بين قوات اللواء حفتر التي تحتل شرق ليبيا، وقوات الوفاق الوطني التي تحتل غربها.
في مكان ما غرب مدينة مرسي مطروح، وجد في انتظاره عربة دفع رباعي وسائقها، والعشرة أشخاص الذين يريدون العبور الي ليبيا، واثنين من البدو يحمل كل منهما سلاحا، مدفعا رشاشا، سيركبان معهم ليكونوا في حمايتهما. لقد أخذه إلي هناك البدوي الذي قابله في المقهي. اصطحبه من شقته عند الفجر في سيارته الهوندا الصغيرة ومعه لُبني.
المكان الذي يقفون فيه ليس به غير كوخ من الحجر الدبش، وسقف من الخشب والعشب، واضح أن فيه ينام من يريدون العبور إلي ليبيا. وجد نفسه يتذكر ما كان يسمعه عن السلكاوية، أو ما سمعه من البدوي الذي ساعدهما للهروب. كيف كان الأمر سهلا حتي أنه كان يتواجد في ليبيا يوما أكثر من مليون مصري.
راح يتطلع إلي الشباب الذين كانت علامات النوم علي وجوههم. كلهم يبدون في ملابس متسخة، بين جلباب وبنطال وبلوفر أو جاكيت قديم. أعمارهم لا تتجاوز الثلاثين، فكيف ضاقت بهم الدنيا في مصر هكذا؟ كانوا هم أيضا ينظرون إليه في دهشة ويتهامسون. أدرك أنها ربما من أناقته في الملبس، ومؤكد من وجود امرأة معه. لابد يتحدثون عن هذه الظاهرة التي لم يسمع بها أحد من قبل. رجل يهرب إلي ليبيا مع زوجته!
كان الليل حولهم لا يزال لم ينقشع، فالهلال لم يظهر بعد في السماء، ونحن في اليوم الرابع من شهر شوّال العربي. هي النجوم موجودة لكنها متباعدة لا تملأ السماء، لكن الجميع يظهرون وإن مثل الأشباح.
كانت لبني قد أعادت النقاب إلي وجهها. كان رأيها أن ذلك أفضل في طريق الهروب. وجد هو الأمر معقولا رغم أنه في حالة من الإحساس بالعبث، إلي درجة أنه لا يهتم أن يتم القبض عليه ويعود. لن يخسر شيئا وسيعود إلي عمله يحكي القصة ويضحك! هي المغامرة التي يشعر كأنه وُلد ليفعلها. حتي لبني قالت له بالليل وهو نائم جوارها «ماذا سيحدث لو قبضوا علينا! لا شيئ. سنعود إلي بلدنا. مش فارقة معايا. المهم أن لايعتدي علينا أحد. ولو أعادونا لن يأتي أبو رقية إليّْ، ولن يعلن إنه يعرفني». كان هو سعيدا بشعورها العبثي هذا. هي فعلا جنيّة كما أقنعها أبورقية رغم أنها أخبرته بالحقيقة، إنها يتيمة لا تعرف لها أبا أو أما. تربت في ملجأ أيتام في إمبابة، وتعلمت فيه القراءة والكتابة. الإسم الذي تحمله أعطاها أياه الملجأ، وكذلك شهادة الميلاد استخرجها لها الملجأ، ومن ثم حملت بطاقة هويتها. لم تعرف أبدا أين عثر عليها من وضعها في الملجأ. وكانت تضحك وتقول لن يحدث معها كما حدث في فيلم «ياسمين» لفيروز وأنور وجدي، حين عرفت فيروز التي تربت في الملجأ أباها وأمها بعد أن هربت منه لتلتقي بالعازف انور وجدي ، ومع تطور الأحداث. أو فيلم «دهب» الذي عادت فيه فيروز لقيطة لتلتقي بأنور وجدي من جديد. ولن يحدث معها ماحدث في فيلم «الخطايا» لعبد الحليم حافظ حين عرف أنه ليس بن عماد حمدي. إنها لا تحب هذه الأفلام، لكنها تنجذب للفرجة عليها حين يعرضها التليفزيون. أما كيف عرفت أبو رقية فأمر غريب لن يصدقه. هكذا كانت تقول لسمير. لقد أتي إلي الملجأ يأخذ منه خمسة أطفال بحجة رعايتهم. عادة يأتي شخص يطلب ولدا أو بنتا يتبناها، لكن خمسة كان أمرا غريبا علي الملجأ. كانت هي قد كبرت وصارت تعمل راعية للأطفال في الملجأ. أعجبها سلوكه حين أخبرها أن لديه فيلا سيخصصها لرعايتهم. أبدت لها إعجابها به بعينيها وحديثها. سألها أن تنضم إليه هي الأخري. وافقت وقالت له أنها ستلحق بالأطفال بعد عدة أيام حتى لا يشك أحد في غيابها المفاجئ. عرفت منه مكان الفيلا في الشيخ زايد. ذهبت إليه لتستطلع المكان. وجدت الخمسة أطفال صاروا يعملون في خدمة النساء الموجودات هناك. سألته عن النساء قال أنهن زوجاته. قالت لكنهن خمسة. قال محظياته. نساء مثلك لا أهل لهن تضعني الظروف أمامهن. الحقيقة أنها واحدة في البداية عرفها وهي التي دلته على الأخريات. استطاع أن يقنعها بحلال وجود المحظيات. هي لم تكن تهتم بالحلال والحرام. كانت هي الأجمل فأثارت غيرة الأخريات. فوق السرير لم يكن يصدق أن هناك امرأة تغنج مثلها. تتلوي مثلها وتصرخ. مجرد أن يلمسها وهي واقفة، كانت تصرخ وتسقط علي الأرض، ترفع جلبابه ثم تخفض سرواله كأنها ستبلع فاكهة الخلود. لم تكن تنتظر أن يخلع ثيابه. كانت تمزقها عنه وتنهش بأسنانها في صدره. لقد حاول كثيرا أن يمنعها من النهش فيه، لأن الأخريات كن يزددن غيرة منها وهو يريهم علامات شهوتها. استطاع أن يقنعهن أنها ليست من الإنس حتي يقلل من غيرتهن. دست لها واحدة منهن السم مرة لكنه انقذها في المستشفي. أدرك أن وجودها معهن خطر عليها، ولم يشأ أن يبلغ البوليس عمن فعلت ذلك. لايريد أن يعرف أحد شيئا عن محظياته، رغم أن الأمر لم يعد خفيا علي كثيرين ممن حوله من أصحابه، ولابد انتشر لغيرهم. علاقاته بالأمن تجعلهم لا يهتمون أو لا يصدقون. أو ربما كما قال لها ينتظرون أن يخطئ فيهم وساعتها سيفتحون دفاتره. حكي لها قصصا كثيرة عن الجنيات اللاتي تتجلي للبشر. وأن الجن مخلوق مذكور في القرآن، ولا يمكن تكذيب القرآن. وأنها لست يتيمة، لكنها حقا بلا أب أو أم لأنها ليست من جنس البشر. وقالت «الحقيقة أراحني حديثه وحكاياته. سحرني عالم الجن الذي حدثني عنه. صرت لا أري حولي نساء في الفيلا، بل أري قصرا جدرانه منقوشة من الداخل بالذهب، مرسوم بينها طيور ذات أجنحة لامعة، أراها تخرج طائرة من الجدران، وتفتح النوافذ بمناقيرها وتخرج بعد أن تنظر لي ضاحكة، كأنها تقول لي لا تقلقي سنعود، حتي وقفتُ يوما أمامها أحثها أن تحملني معها إذا خرجت من جديد. ما إن قلت ذلك حتي خرجت الطيور وحملتني واحدة منها بين قدميها، وفتحت الأخري لها النافذة، فطارت بي حتي خرجتُ إلي غابة أشجارها فاكهة لا أعرفها. حمراء وخضراء وزرقاء ظننت أنها مصابيح، ومن بينها طارت طيور أخري فتبعتها الطيور التي وراء الطائر الذي يحملني حتى وصلنا إلي نهر صغير ماؤه يجري بسرعة لم أرها حتي في ماء النيل. نزل بي الطائر إليه فإذا بي عارية بين الماء والطيور تسبح حولي، وصرت أسبح بينها أنا الذي لا أعرف السباحة جيدا وأضحك. من تحت الماء تمتد أيادي تداعبني، وتمسك بفخذيّ وما بينهما تلدغها لدغات خفيفة جميلة تشعلني بالإثارة، وأنا أظن أنها أسماك، حتي مددت يدي فأمسكت بيد صغيرة جذبتها، فوجدت أمامي طفلا يضحك وله أجنحة ترفرف حوله. تركته وأنا في غاية السعادة ياسمير. أشفقت على أبو رقية من غيابي فطلبت منهم أن أعود، وكانت الشمس تغرب أمامي ويزداد قرصها اتساعا واحمرارا، ثم تخفت حمرته وينزل الظلام شيئا فشيئا علي الكون. أعادوني، لكنهم طاروا بي في السماء في منطقة لا تعرف الظلام، وكنت أرى الدنيا مظلمة تحتي. هكذا عدت غير مصدقة ما يحدث، وغيره كثير سأحدثك عنه في الطريق لأننا سنري ليالي صعبة، لكني على يقين أني سأعرف الهرب بك من كل الآلام والأخطار. الآلام والأخطار هي صوت الله، لنستيقظ مما نحن فيه ونتجاوزها ونتجاوز ماحولنا. المهم الآن أن ننظر حولنا، لأن قدراتي على ما يفعله الجن لا تحدث إلا عند الحاجة، وأنا معك قوية وفي حالة استغناء عن كل شيئ، وإن كان اطمئناني مصدره الأكبر أني سأساعدك وأساعد نفسي»
>>>
لم تكن المقاعد كافية للجميع فجلسوا متجاورين ملتصقين ببعضهم. جعل سمير لبني جوار النافذة والتصق بها وجواره شابان. خلفهما أربعة وأمامهما أربعة، وجوار السائق يجلس البدويان اللذان يحملان سلاحيهما. تحركت السيارة ذات الدفع الرباعي بعد أن قال السائق البدوي أبو زيد الهلالي - هكذا عرف اسمه - «توكلنا علي الله». كان الطريق الأسفلتي جيدا فأسرعت السيارة وقال السائق أبو زيد الهلالي:
- ليس كل الطريق ممهدا هكذا، فبعد خمسين كيلومترا سيكون في الطريق حُفرا كثيرة. استعدوا.
لم يعلق أحد. ليست صعوبة الطريق هي ما تشغلهم، لكنه العبور إلي ليبيا، وربما يفكر بعضهم فيما يمكن أن يحدث بعد ذلك. بل ربما يفكر بعضهم أيضا في معني مافعل.
كانت الرمال مترامية على الناحيتين، ثم بدأ الطريق في الصعود. أدرك سمير أن الطريق سوف يكون أعلي الهضبة التي تمتد إلي السلوم. لم يكن ظاهرا لهم شيئ من الظلام، لكن القليل من نور النهار الزاحف علي مهل، جعلهم يرون أشجارا قصيرة لا يعرفون اسمائها، وحين يهل الفراغ تظهر بعض أشجار السنط الطويلة، علي مسافات متباعدة تقف ليس حولها شيئ، وبدا أنهم ابتعدوا كثيرا عن رؤية النخيل.
النهار الهابط يزداد، وبدأت رمال الصحراء تظهر لهم بُنية اللون، بينها تلال من الرمال القاتمة. حلّ النور قويا فاتسعت الدنيا ليجدوا أنفسهم علي طريق أعلي الهضبة، وعلي يمينهم الأراضي الرملية منخفضة للغاية، ولا يميزون نباتاتها ولا أشجارها. قال السائق أبو زيد الهلالي :
- لا تخافوا. الطريق هكذا طويل. لا تنظروا كثيرا إلى أسفل.
كان أكثر الشباب قد نام مكانه، وارتفعت أصوات شخرات متقطعة لبعضهم، فضلا عن أصوات أنفاسهم. همس المجاور لسمير يسأله:
- ممكن تسمح لي أسالك لماذا تسافر إلي ليبيا مع زوجتك؟ الحياة في ليبيا خطر جدا الآن.
نظر إليه سمير فقال الشاب:
- أنا آسف. لا أقصد إحراجك، لكن فعلا أنا اسأل نفسي هذا السؤال. أنا مثلا مسافر لأني أحب ابنة عمي، وليس لدىّ ما يكفي أن أتزوجها وأفتح بيتا، فقررت المغامرة لعل ربنا يكرمني، لكن أنتما متزوجان.
ازداد سمير ابتسامة ثم قال:
- لو قلت لك زهقت من مصر هل ستصدقني؟
سكت الشاب لحظات وارتبك إذ وجد أنه من الأفضل أن يتوقف عن الكلام ، لكنه قال:
- سامحني. أنا خريج جامعة من سنة ولا أجد عملا. خريج كلية الحقوق وكل محامي اشتغلت معه لم يدفع لي مليما واحدا علي أساس أني أتدرب عنده، لكن حضرتك واضح أنك انهيت تعليمك من زمان ولابد تعمل.
- أنا مدرس جغرافيا.
- يعني لك عمل.
- طبعا.
سكت الشاب متحيرا فقال سمير:
- لن تقتنع بحديثي من أني زهقت من مصر. أنا لن استقر في ليبيا. سأخرج منها إلي تونس ثم الجزائر ثم المغرب، ومن المغرب إلي الأندلس.
اندهش الشاب من كلمة الأندلس وكاد يضحك ثم قال:
- أسبانيا تقصد حضرتك؟
- بالضبط.
- تفتكر دخول أسبانيا سهل؟
- لا أعرف. سأجد طريقة للوصول إليها من طنجة. من مضيق جبل طارق يعني.
وبعد لحظة صمت قال سمير:
- أنصحك أن تفعل مثلي. لا تبقَ في ليبيا.
ابتسم الشاب ساخرا وقال:
- يا أستاذ نحن سنعبر سلكا واحدا ونطلب من ربنا النجاة. تريدنا أن نعبر سلك ثلاث دول بعد ذلك. الله كريم.
سكتا وفي لحظات نزل النوم علي الشاب الذي كان يتحدث، وضع سمير رأسه علي كتف لبني التي نامت أيضا، وشمل السيارة الصمت العميق، رغم النور الذي راح يملأ الدنيا حولها.
>>>
رفع سمير بصره إلي السماء يقول لنفسه، غريب أمر هذه الصحراء، لماذا لا يري فوقها طيورا مع الصباح؟ هل يمكن أن تأتيه الطيور التي طارت بلبني كما حكت له، أم أن هذه الطيور لا تظهر للإنس من البشر؟ كيف لا تحل الطيور مشكلة البشر فتنقل من يشاء إلي البلد الذي يريد، وتعبر به الحدود سعيدا في الفضاء؟ لكنه رأي بعيدا جدا طابورا من الجمال تبدو لبعدها صغيرة. تتحرك في اتجاه الشرق، وحولها عدد من الرجال يبدون صغار الحجم ملثمين فكأن ثيابهم تغطيهم. ها هي الصحراء تظهر، وربما بعد قليل تظهر نسور وصقور في الفضاء وغزلان فوق الأرض.
ما الذي يمنعه من ترك السيارة والمشي وحده ومعه لبني في الصحراء. يشعر أنه سيجد بيوتا كثيرة خالية، وسيجد قلاعا مهدمة، وبينها سيجد بشرا منسيين منذ آلالف السنين سيحكون له حكايات غريبة. ربما يجد جنودا من الحرب العالمية الثانية، لا يزالون ينتظرون الأوامر بالانسحاب من مصر بعد أن انسحب روميل! هو لم يقرأ أن روميل ترك خلفه غير الأسري والألغام. لقد قرأ أن روميل اكتسب لقب ثعلب الصحراء، لأنه كان يهاجم قوات الحلفاء بعدد قليل من قواته في المواجهة، ويلتف عليهم من بعيد بالعدد الأكبر من القوات، فتظن قوات الحلفاء أنهم وقعوا وسط الحصار فيستسلمون. ربما يكون قد دفع بعدد قليل من القوات في الانسحاب من طريق، وانسحب بالعدد الأكبر من طريق أخر متوقعا أن يستسلم العدد الأصغر فينشغل الحلفاء عن العدد الأكبر، لكن شاء الله أن ينجوا العدد الأصغر ويظلون في مكانهم ينتظرون الأوامر باستكمال الانسحاب! ابتسم لأنه كان قد قرأ يوما عن جندي ياباني هذا الكلام. جندي ظل خمسة وعشرين عاما في الغابات لا يخرج منها، لأنه لم يعرف باستسلام امبراطور اليابان بعد قنبلتي هيروشيما و نجازاكي النوويتين. صعب أن يحدث هذا في الصحراء الغربية، فلابد أن كل من انسحب مع روميل، انسحبوا من طريق واحد. ثم أن جوجل الآن يصور كل شيئ، وكان يمكن أن يتم التعرف عليهم. لكنه يمكن أن يري حقا آثارا مخفية لا ينتبه أحد الي وجودها باعتبارها مهدمة، ولا يدرك أن بها أرواحا قديمة تنتظر أن يتحدث معها أحد. لكن لبني مالت برأسها عليه وقالت:
- أنا جائعة.
لا يعرف كيف سمعها الشاب الذي يجاوره إذ قال:
- معنا طعام لكن فوق السيارة.
ثم سأل الشاب السائق أبو زيد الهلالي هل يمكن ان يتوقف ليأتي بشيئ من الطعام من حقيبته، فأجابه:
- الأفضل أن ننتظر. سيتسع الطريق، وسنجد قرية صغيرة خالية من السكان نتوقف فيها وتأكلون جميعا. بها فقط صاحب مطعم صغير يعد الفول والفلافل واللحم أيضا. إنه لايترك المكان رغم خلو القرية. يعيش علي الزبائن الذين يمرون عليه رغم قلتهم. سنشرب شايا عنده أيضا.
قال سمير للشاب الذي عرف أن اسمه مختار:
- هذا أفضل. دعه في الطريق.
-٤-
مكان تتناثر بيوته القليلة بين الرمال وأشجار النخيل وقليل من أشجار الزيتون وبينها بائع الفول والطعمية. وقفوا جميعا ينتظرون ما سيقوله لهم قائد الرحلة «أبو زيد الهلالي» لكن سمير كان يتطلع حوله إلي الأرض وفي الفضاء. ليس معقولا أن تكون الأشجار الواضحة هي النخيل والزيتون فقط . رأي من بينها وعلي مسافات بعيدة أشجاراً تقف وحدها، عرف أنها أشجار السنط التي رآها مع بداية الرحلة. كما شاهد مجموعات متناثرة من أشجار الصبّار التي لا ترتفع كثيرا عن الأرض. وبعيدا رأي مساحة ضيقة تتجاور فيها نباتات عباد الشمس، وقد ارتفعت وجوه زهوره إلي الشرق حيث لازالت الشمس. هناك أيضا مساحة من الخضرة علي الأرض تبدو عشوائية، لابد أنها نبات الشيح. وجد نفسه يسأل أبو زيد الهلالي:
- هل هذا شيح؟
- كيف عرفت؟
- أنا مدرس جغرافيا. فاكر أني رأيت صورا لهذه النباتات.
قال أبو زيد الهلالي:
- سنبقي هنا حتي منتصف الليل. استرح في المخزن وزوجتك، ثم أخرج شاهد النباتات براحتك، واسأل أبو جابر عن أي شيئ فهو يعرف من عشرته معنا.
ثم خاطب الجميع قائلا:
- لن تجدوا أحدا من السكان هنا غير أبو جابر صاحب المطعم. نحن لسنا في مدينة السلوم نفسها. مدينة السلوم لا أحد يستطيع الهروب منها. نحن في محيطها. لو تأخرنا لا يفكر أحد أن يذهب إليها. الغرباء يُعرَفون. أكثر من بيت هنا أو مخزن به غرف لنوم الغرباء المسافرين أو الهاربين. الآن نحن بعد الظهر وسنتحرك بعد منتصف الليل . يمكن لأي منكم أن يختار أي منزل سيجد فيه أسرّة ينام عليها، ولمبات جاز من لمبات زمان يمكن أن تضيئوها في الغرف. ستجدون أيضا علب كبريت. نحن لا ننسي شيئا. المهم أن تستعدوا للانطلاق بعد منتصف الليل.
ولما رآهم ينظرون إليه في قلق قال:
- صاحب المطعم أبوجابر يعرف ماذا نفعل. لا تخشوا شيئا. ستدخلون ليبيا بسلام.
اتجه العشرة من الشباب إلي منزلين، أو مخزنين كما قال أبو زيد الهلالي، ووقف سمير ولُبني ينظران إليهم حتي يختارا بعدهم منزلا لا يكون فيه أحد منهم. كان كلاهما ينظر إلي الآخر باسما كأنما يعرفان أن ما سيفعلانه لا يجب أن يسمع غيرهما له صوتا حين يلتقيان علي السرير. اتجها بعد ذلك إلي بيت ثالث وسمعا أحد حاملي السلاح يقول من بعيد:
- يازين ما اخترتما. سراير المخزن هذا واسعة مريحة.
ابتسم له سمير وتقدم ممسكا لبنى من يدها ودخلا إلي البيت. البيت طابق واحد سقفه من الأخشاب، وجدرانه من الحجر الدبش ليست مكسوة بالمحارة ولا الدهان، بيضاء أمامهم كما هي في الخارج، بينها فقط لحامات الأسمنت رمادية. بياضها في الداخل أكثر نصاعة، وليس عليها عنكبوت كما رأيا عليها في الخارج. لكن الغرف كلها، وهي أربعة، لا أبواب لها، بينها حمّام كبير، ولا أحد يعرف من أين تأتي المياه هنا. لكنهما وجدا صفيحة ممتلئة بالمياه. لابد يأتي بها المهربون من بئر في الخارج. لن يحتاجا مياها كثيرة على أي حال.
رأيا علي الأرض البلاط المتسخة أعدادا من النمل. انزعجت لبني فقال لها سمير لن نبقي كثيرا علي أي حال. سيمر الوقت بسرعة ويمكن أن نمضي بعضه في الخارج. لكنهما رأيا كلبا يخرج من إحدي الغرف، يراهما فيقف ينظر إليهما. ارتعبت لُبني وهتفت «يامه» وألقت بنفسها في حضن سمير الذي ابتسم وجعلها خلفه قائلا:
- ادخلي الغرفة.
دخلت الغرفة التي خلفه في رعب، ووقف هو ينظر إلي الكلب يفكر، هل لو رفع صوته يطرده سيستمع إليه؟ وهل إذا تقدم منه يطرده لن يهجم عليه؟ إنه كلب ضخم حقا. لكن فجأة ظهر أبو جابر داخلا يقول:
- لا تخف.
وأشار إلي الكلب أن يخرج فخرج أمامه وقال لسمير:
- هو حارسي هنا. هناك مجرمون لا يعرف أحد من أين يأتون، وفي الغرف هذه أرواح. الحمد لله أنكم لن تبيتوا فيها.
وتركه خارجا بينما سمير يقف مندهشا مفكرا في هذ الأرواح التي ذكرها أبو جابر. لابد أنه يغالي من الوحدة في هذا الفضاء. دخل إلي لُبنى التي كانت قد استلقت بثيابها فوق السرير بعد أن خلعت النقاب، ومال عليها يحضنها قائلا:
- أبو جابر يقول أن هنا أرواح.
فزعت جالسة قائلة «يالهوي» لكنه ضحك وقال:
- هل هناك جنيّة تخاف من الأرواح؟ سأحكي لك حكايات عن الصحراء.
- لا تفعل شيئا معي. ليس لي رغبة في شيئ. متعبة حتي أني لا أستطيع أن أكنس الأرض. جائعة وأريد أن أنام.
- وأنا جائع جدا وأريد أن آكلك.
وراح يقبِّلها فقالت:
- أعرف انك لم تشبع. هيا نأكل عند أبو جابر، ودعنا مما تريد الآن حتي نعبر الحدود.
ولم تنتظر رده. وقفت واستدارت فوقف. خرجا إلي الفضاء فراعهما الصمت الذي يشمل الكون. النور الذي ازداد مع تقدم النهار. أبو جابر يقف أمام مقلاة الطعمية، يجهز بعض الساندوتشات لثلاثة يقفون معه من الهاربين. أثارهما أنه إلي جوار أبو جابر تقف امرأة في حوالي الأربعين هي التي تقلي الطعمية، وهي التي تقدمها لأبو جابر يصنع الساندوتشات منها.
قالت لبني:
- امرأة هنا؟
رد سمير:
- أكيد زوجته. لكن كيف حقا يعيشان هنا؟
ثم ظهر طفلان من أحد البيوت القريبة في حوالي العاشرة من عمرهما يرتديان جلبابين وحافيين، وراحا يجريان خلف بعضهما، فصرخ فيهما أبو جابر أن يدخلا إلي البيت. قالت لبني:
- وعندهما أطفال أيضا!
لم يرد سمير. كان يتطلع إلي الجبال البعيدة التي بدت واضحة كثيرا، ولا يعرف لماذا يميل لونها إلي اللون البني. قدم لهما أبو جابر كرسيين صغيرين وأشار إليهما بالجلوس. تساءلت لبني:
- هل سنأكل هنا؟
أجاب سمير:
- أري ذلك أفضل. نشعر بالفضاء ونتطلع إلي الجبال.
كان الكلب الذي رأياه من قبل، يمشي بعيدا وحده في زهو. يقف أحيانا ينكش بقدمه في الأرض، ثم يمضي علي مهل. كانت لبني تنظر إليه فقالت زوجة أبو جابر التي عرفتهم باسمها «تحية»، أنه يشعر بشيئ يتحرك تحته، والحمد لله لم تكن حية ولا ثعبان. في كل مرة يجد سحلية أو ثعبان، لا تعتدي السحلية ولا الثعبان عليه ، لكنه دائم البحث عنها.
ورأت تحية في عيني لبني اسئلة، فأجابت تلقائيا أنها تعيش في قرية بمحافظة الدقهلية أسمها بلقاس، وتأتي هنا مع الإجازة الدراسية تمضي الصيف مع زوجها. زوجها أبو جابر تقريبا لا يسافر إليهم طول العام. يحب الخلاء والعمل هنا.
كانت دهشة لبني من وجودهما في هذا الفضاء، وسمير يجلس جوارها وقد قدم إليهما أبو جابر خبزا وطبقين من الفول وعددا من أقراص الطعمية. اعتذر لعدم وجود سلطة، لكن فجأة هلت جماعة من الطيور عالية ترفرف في السماء ولا تقف. لم يسمعا منها صوتا لكنها كانت كثيرة. تأملها سمير وبدأ يشعر بسحر الصحراء. قال لأبو جابر:
- هذه ليست صقورا ولا نسورا.
- هذه الحُباري. كبيرة مثل البطة تتجه إلي الشاطئ القريب.
قال أبو جابر ذلك وسحب مقعدا ثالثا وجلس معهما ثم قال لسمير:
- أرجوك ثق في.
- أنا أثق فيك.
- لماذا تريد الهروب ومعك زوجتك؟
- سألني شاب ممن معي وقلت له زهقت من مصر.
- لكنها مخاطرة كبيرة.
- أعرف.
- ليتك تفكر قليلا وتعود. ذلك أفضل. لن أقول لك شيئاً آخر.
وتركه ووقف جوار زوجته التي راحت تقلي عدداً آخر من أقراص الطعمية.
>>>
كان النوم يداعب لبني أمامه. الأفضل أن يعود بها إلي المخزن. هي ساعة أو اثنتين ويخرجان ليجلسا أو يمشيا في الفضاء ينظران إلي الطيور التي لابد ستظهر كثيرة. الطيور هي الوحيدة في هذا الكون التي تنعم بالحرية. لا تضيع حريتها إلا حين يظهر الإنسان الذي يشكو من انعدام الحرية في حياته، ويشعل الثورات من أجلها تفشل أو تنجح، وفي كل الأحوال يتسلي بصيد الطيور وقطع الطريق عليها. كيف حقا يحرِّض اتساع الفضاء علي القتل والأولي أن يحلق فيه الخيال والأحلام!
لابد أن لا يطول نوم لبني. هو أيضا يحتاج إلي نوم، لكن يرجو أيضا أن لايطول، وبعده يخرج ويري طيورا في الفضاء غير الحُباري الجميلة. سيري نسورا و صقورا وحماما، وبالليل سيري الخفافيش معلقة في الأشجار. لم يري هدهدا في الطريق ولا لقلقا ولا نعامة شاردة وحدها وسط الرمال. من يدري ربما تكشف له الصحراء كل شيئ بعد قليل من النوم وقبل أن يحل الظلام. ولما رأي شيئا يمشي علي الأرض يتلوي ذات اليمين واليسار، أدرك أنه ثعبان فوقف، لكن أبو جابر قال له أن لا يخف، سيمضي الثعبان بعيدا عنهم. ولما سأله كيف تعيش بين هذه الثعابين قال:
- علمني البدو أنها أرواح بشر، وتعاملت معها كذلك، وهي أيضا تتعامل معي كذلك، فلا تقترب مني ولا من زوجتي ولا من طفلىّ.
وسكت قليلا بينما سمير يفكر في ثعابين الوشم علي جسد لبني. لم يأتي أبو رقية بذلك من فراغ. ثم قال المعلم جابر:
- كل شيئ هنا يعتقد البدو أنه أرواح بشر وكلها صديقة للجن. إذا قتلتها يظهر لك الجن ينتقم منك. لن تري الجن نفسه، لكن ستراه في أشكال أخري. نسر يهبط يفقأ عينك، أو صقر، أو حية تلدغك. أو تهاجمك البراغيث بالآلاف رغم أنها نادرة في الصحراء ، وكذلك البق بالليل والقمل رغم أن الشمس قوية بالنهار. إذا عشت هنا لابد أن تعرض فرشك للشمس أكثر من يوم في الأسبوع. علمني البدو أن أعيش في حالي، وأترك الطبيعة في حالها. هل تري هاتين الصخرتين البعيدتين المعلقتين أعلي الهضبة؟
أجاب سمير:
- أراهما.
- أي شخص يمكن أن يتخيل أنهما ستسقطان عليه. أنظر إلي هذا العُنق القوي الذي يحمل كلا منهما. عنق صخري ضيق القطر يتضاءل يوما بعد يوم، حتي سيأتي يوم تسقطان وحدهما، لكن المهم أن لا تفعل أنت ذلك. لن يسقطا علي أحد يعبر تحتهما. لكنهما إذا كسرهما أحد ودمرهما، ستسقط عليه جبال لا يراها. يقولون لي ألم تسمع عن الصفا والمروة في مكة المكرمة، لقد كانا روحان. رجلا وامرأة. الصفا رجل والمروة أنثي، ومن ثم لا يفكر أحد في تحطيمهما. هاتين الصخرتين أيضا كانتا عاشقين.
كان سمير يستمع مذهولا. إن كل ماعرفه في الجغرافيا لا يقف أمام مايقوله أبو جابر الذي قال:
- ليتك تتحدث مع أبو زيد الهلالي يحكي لك الحكايات عن كل شيئ هنا، حتي اذا دخلت إلي ليبيا ووفقك الله لا تخطئ هناك، ويراك البدو قريبا منهم بحكاياتك فيساعدونك.
قال سمير:
- فتحت نفسي يا أبو جابر. ليتك تحدثني أكثر. سأقول لك سرًا. لك حق أن لا تعود إلي بلقاس، ولا إلي أي مكان في الدلتا أو الصعيد.
ابتسم أبو جابر وقال:
- في المدن والريف يؤمن الناس بالجن. بعضهم يقول أنه يراه. الحقيقة أن لا أحد يمكن أن يراه. الجن خلقه الله من نار، وخلق منه جنيّة عاشرها فانجبا كل الحيوانات الشريرة. الحيوانات الشريرة هي الجن الحقيقي، وهي تنتقم كثيرا للحيوانات الطيبة، وللجماد أيضا. هل تعرف لماذا يحب الجن الانتقام للمظلومين؟ لأن المظلومين كثيرون، ومن ثم فرص العمل له كثيرة!
وضحك أبو جابر، لكن سمير كان يبدو مقتنعا. ثم استطرد أبو جابر:
- علمني البدو - ونظر خلفه ثم قال - لا أعرف أين هم الآن. لماذا اختفوا بسرعة هكذا؟
قال سمير:
- لابد أنهم ذهبوا ليناموا فالرحلة طويلة.
- لا. هؤلاء لا ينامون. لديهم أعمال أخري لا تسأل عنها.
سكت سمير لحظة ثم سأله:
- ماذا علموك أيضا؟ تكلم يارجل.
- علموني أن الطيور تتكلم لكن لا يسمعها إلا الصالحين. فالنسر مثلا لو تطلعت إليه في الفضاء جاءك صوته يقول «يابن آدم عش ماشئت فأنك ميت». أما الطاووس فهو يمشي أمامك نافخا ريشه. لا يتباهي لكنه يقول لك «احترس فكما تدين تُدان». أما الهدهد الجميل فحين يسقسق يقول «من لا يرحم لا يُرحم». ويقول للمغتر «كل حي ميت وكل جديد بالٍ».
قال سمير:
- الله عليك يا ابو جابر. اسمعي يالبني.
كانت لبني تسمع، وكانت تحية زوجة أبو جابر قد انتهت من قلى الطعمية، وجاءت تقف أمامهم. قالت ضاحكة لزوجها:
- يا اخويا أنت مش حتبطل الحكايات دي؟ أديك بتحكي والناس بتسمعك لكن تفتكر حد حيصدقك؟ الناس بتتسلي في الرحلة المهببة دي.
قال أبو جابر:
- اسكتي يامرة. أنتِ تعيشين معظم العام مع الناس، وأنا وحدي هنا ليس لي إلا الصلاة، والنظر في الكون والهاربين الذين هم مثل الطيورالمسكينة. مثل السمَّان يتركون بلادهم فيقعون في شباك الحكومة.
ارتبك سمير لحظة وكاد يشعر بالتشاؤم، لكن تحية قالت لأبو جابر.
- طيب كلمهم كمان عن الحيوانات - ثم خاطبت سمير ولبني- هو لا يكف عن الحديث لي إن ربنا خلق الصبر في شكل حمار، والشجاعة في صورة الأسد، والأمانة في صورة كلب، والمكر في شكل تعلب. أنا مصدقة فقط أن الصبر في صورة الحمار، وكثيرا ما أشعر إن أصلنا جميعا في هذه البلد حمير.
ضحك سمير وضحكوا جميعا لكن لبنى قالت:
- أنا مصدقة أن الأمانة في صورة كلب، وكنت اتضايق جدا حين أشتم شخصا غير محترم وأقول له ياكلب. دائما أشعر إني ظلمت الكلاب والله. لا أعرف لماذا تعودنا أن نشتم أي أحد بكلب، مع إنه يمكن أن يكون ثعلبا أو حية.
ربت سمير علي فخذها قلقا أن تحكي حكايتها فالفراغ حولهم مغري بالحكي، كما هو مغري بالعبادة والصلاة. وهل العبادة والصلاة غير حديث من القلب. وكما توقع قال أبو جابر للبني:
- يبدو أن حضرتِك تعبتي كتيرا مع أن زوجك ظاهر أنه رجل محترم.
سبقها سمير قائلا وهي يقرصها في فخذها:
- مراتي بتحب تفكر كتير بس. مراتي أصلها طيبة جدا. بتاعة ربنا يعني.
- الحمد لله أن ربنا رزقك بيها.
قالت ذلك تحية فقال أبو جابر:
- سنترككما ونذهب إلي بيتنا. استريحا أنتما أيضا. سأعود إليكما بعد ساعة أو ساعتين. أنا في حاجة إلي الحديث معكما.