التنين الصينى يلتهم مصالح واشنطن

الرئيس الصينى شى جين بينج والرئيس الأمريكى بايدن
الرئيس الصينى شى جين بينج والرئيس الأمريكى بايدن

دينا توفيق

بهدوء وتحدٍ، وخطوات قوية واضحة، وطأت أقدام التنين الصينى الشرق الأوسط، وضع ثقله وأثبت وجوده بتحالفه مع إيران وتوقيع شراكة استراتيجية تستمر 25 عامًا، اتفاقية تؤكد نفوذ الصين المتنامى وتوغلها فى المنطقة، وعدم اكتراث طهران بالعقوبات الأمريكية، ضاربة عرض الحائط بشأن المفاوضات التى تتعلق بالاتفاق النووى الإيرانى والامتثال إلى المطالب الأمريكية.

جاءت الشراكة لتظهر سعى بكين المتعمد لتحقيق توازن القوى فى المنطقة لمنافسة الغرب، ما يعنى تغيرا جيوسياسيا خطيرا بها؛ لذا فإن العبء يقع على عاتق إدارة الرئيس الأمريكى "جو بايدن" فى أول مائة يوم لها، لتحدى تقدم الصين فى الشرق الأوسط، والذى يتراوح من التدخل مع شركاء الولايات المتحدة التقليديين إلى تشجيع خصومها.

أعلنت الصين وإيران مؤخرًا "شراكة استراتيجية شاملة" أو كما وصفتها الأخيرة "خريطة طريق متكاملة"؛ عقب توقيع وزيرى الخارجية الإيرانى "محمد جواد ظريف" ونظيره الصينى "وانج يي" باستثمار 400 مليار دولار فى إيران فى عشرات المجالات، ومنها البنوك والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات، مقابل إمدادات ثابتة من النفط الإيرانى إلى الصين، وفقًا لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية. وتهدف الاتفاقية إلى زيادة التعاون العسكرى والدفاعى والأمنى بين البلدين؛ حيث سيتم إنشاء منطقة تجارة حرة فى سواحل إيران الجنوبية، وموانئ لتسهيل اندماجها فى مبادرة "الحزام والطريق" التجارية الصينية. هذا بالإضافة إلى اتفاق البلدين على إنشاء بنك إيرانى صيني، يمكن أن يساعد طهران على تخطى والتغلب على العقوبات الاقتصادية الأمريكية التى منعتها فعليًا من التعامل مع الأنظمة المصرفية العالمية؛ ما أثار فزع خصوم البلدين وخاصة الولايات المتحدة، حسب ما ذكرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية. فى الوقت الذى صاغ فيه فريق بايدن استراتيجيتهم على أنها منافسة مع بكين وليست صراعًا، سعياً لتحديها من موقع قوة وبدعم من الحلفاء الأمريكيين، وضعت الصين نفسها فى موقع التحدى الرئيسى لنظام دولى تقوده الولايات المتحدة.

وقبل التوقيع قال الرئيس الإيرانى "حسن روحاني"، "إن هذا التعاون هو الأساس لإيران والصين للمشاركة فى المشاريع الكبرى وتطوير البنية التحتية، بما فى ذلك مبادرة "الحزام والطريق" فى بكين، فى إشارة إلى استراتيجية الاستثمار والتنمية العالمية الواسعة للصين. وتظهر الاتفاقية الأولوية المطلقة التى باتت تعطيها طهران للعلاقات مع دول الشرق الأقصى؛ التى تأتى فى مناخ من عدم الثقة المتزايد فى الجمهورية الإسلامية تجاه الغرب، عقب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووى الإيرانى فى عهد الرئيس الأمريكى السابق "دونالد ترامب" وعجز الأوروبيين عن المساعدة لتجاوز العقوبات. لذا اصطفت إلى الجانب الصينى فى الصراع الدائر بين الأخير والولايات المتحدة، وإلا لم تكن إدارة بايدن شريكة فى هذا الصراع، فإن العديد من المؤسسات الأمريكية مثل البنتاجون وأعضاء الكونجرس ودوائر صنع القرار يعتبرون الصين خطرا وجوديا على الولايات المتحدة، خاصة أنها الآن تضع أيديها على ما لا يقل عن 18% من احتياطيات الغاز العالمية، و10% من النفط العالمي.

وعلى مدى 12 عامًا، وفقًا للتحقيق الذى نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية للباحث المتخصص بالدراسات الصينية فى جامعة أكسفورد "آيك فريمان" كانت الولايات المتحدة تحاول فك ارتباطها بالشرق الأوسط والانسحاب منه ومع طمأنينة بوجود شركاء لها، ولكن سرعان ما استجابت القوى الإقليمية وسعت للبحث عن حلفاء جدد والتنافس بشراسة مع بعضهما البعض، وكانت الصين هى الرابح الأكبر فى فترة ما بعد الولايات المتحدة، ما يعنى عودة المنطقة كساحة لمنافسة القوى العظمى، فمع توغل الصين وتحالفها مع بعض دول المنطقة وخاصة إيران ما يعد أمرا مقلقا لواشنطن ويمثل خطرًا طويل الأمد على مصالحها من الناحية الاستراتيجية. ويُظهر الاتفاق أن الشرق الأوسط ساحة مهمة لمنافسة القوى العظمى الناشئة مع الصين. تحتاج الولايات المتحدة الآن إلى منع حكومة الرئيس الصينى "شى جين بينج" من تعزيز خصوم الولايات المتحدة واكتساب نفوذ مفترس على شركاء الولايات المتحدة فى المنطقة ومحاولة استمالتهم. وفى عام 2012، اقترح أبرز المحللين الصينيين فى السياسة الخارجية "وانج جيسي"، مفهومًا أسماه "الزحف باتجاه الغرب"، حيث قال بينما تعيد واشنطن التوازن نحو آسيا، باتت علاقتها مع بكين مثيرة للجدل ونتيجتها صفرية. ومع احتدام المنافسة البحرية فى آسيا، توقع وانج أن تصبح آسيا الوسطى والشرق الأوسط منفتحة مرة أخرى فى التعامل مع الصين. وأضاف إن الانسحاب الأمريكى الحتمى من الشرق الأوسط يمثل فوزًا محتملاً للصين، لأن الولايات المتحدة كانت فى أشد الحاجة إلى مساعدة الصين فى تحقيق الاستقرار فى أفغانستان وباكستان.

وتفسر هذه الاعتبارات سبب تعامل الصين مع مبادرة "الحزام والطريق" بشكل مختلف فى الشرق الأوسط عن أى منطقة أخرى. فى أفريقيا وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، عادةً ما تروج الصين لعقد صفقاتها من خلال الضجة الإعلامية والتقاط الصور على السجادة الحمراء. وعلى النقيض من ذلك، فى الشرق الأوسط، تحاول بكين إبقاء صفقاتها بعيدة عن العناوين الرئيسية قدر الإمكان. ولم يُكتب سوى القليل، حتى أنه لم يتم إطلاق معظم اتفاقيات الحزام والطريق بين الصين ودول الشرق الأوسط بالكامل باللغة الإنجليزية أو الماندرين أو اللغات المحلية.

ويوضح وانج قائلًا أن الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإيران هى أكثر المشاكل التى تواجه المصالح الأمريكية. وتنقسم السياسة الداخلية الإيرانية بين فصيل إصلاحى معتدل مؤيد للصين وفصيل متشدد موالٍ للصين، الذى تبنى بحماس مبادرة الحزام والطريق. لقد أدت سياسة الضغط لإدارة ترامب تجاه إيران إلى تمكين المتشددين، وكانت العلاقات بين الصين وإيران ودية منذ عقود، لكنها تحسنت بسرعة خلال رئاسة ترامب. حيث قامت الصين بمشتريات كبيرة من النفط الخام الإيرانى وباعت إمدادات الاتصالات لإيران، فى انتهاك للعقوبات، وسواء كانت الأموال تحققت فى الجدول الزمنى الموعود أم لا، فإن توقع الدعم الصينى سيحث طهران على التفاوض على صفقة أكثر صعوبة فى المفاوضات الخاصة بالاتفاق النووى الإيرانى مع إدارة بايدن، المنعقدة الآن فى فيينا. فيما ستبذل الولايات المتحدة جهودًا شاملة لإنقاذ اتفاق إيران النووي، حيث بدأ المبعوث الأمريكى الخاص لشؤون إيران "روبرت مالي"، فى وضع خارطة طريق حول كيفية الوصول إلى اتفاق للسماح للجانبين بحفظ ماء الوجه. ومن المتوقع تخفيف العقوبات بما يكفى حتى تعود إيران إلى الاتفاقية ولكن ليس بدرجة كبيرة تجعل بايدن عرضة لهجمات المتشددين، الذين يعارضون أى تنازلات.

وفيما يخص الشأن الإيراني، وفقًا لمجلة "ناشيونال إنترست" الأمريكية، لا يمكن أن يكون توقيت الصفقة أكثر ملاءمة من ذلك؛ حيث إن طهران بحاجة ماسة إلى السيولة المادية بعد أن شلت العقوبات الأمريكية اقتصاد البلاد وتأمل أن يخفف الاتفاق مع الصين من إضرارها، مع كون بكين مشترطا مفترضًا للنفط الإيرانى لعدة عقود قادمة، فإن جهود إدارة بايدن لجر طهران إلى طاولة المفاوضات ستثبت أنها أكثر صعوبة. وتدرك بكين أنها تسير على خط رفيع، وتحاول اكتساب النفوذ مع الابتعاد عن التنافسات الوطنية المعقدة والصراعات الطائفية فى المنطقة. إن الوضع الراهن فى الشرق الأوسط يعمل بشكل أساسى لصالح الصين. تنفق الولايات المتحدة مبالغ طائلة لمحاربة الجماعات المتطرفة وحماية حرية الملاحة فى المنطقة، فيما تستفيد الصين من استقرار أسعار النفط. ما تريده الصين هو الحفاظ على هذا الترتيب مع اكتساب القدرة تدريجياً على الضغط على الدول الفردية للانحناء فى طريقها. ومثل إيران، حاربت الصين لعقود من أجل زيادة اعتمادها على الذات وتأثيرها الجيوسياسى بعد تجارب مؤلمة فى ظل الاستعمار الأوروبي، مما حفز الثورات القومية، وفقًا لما ذكره الخبير السياسى الأمريكى "جون جارفر" فى كتاب "مع الصين وإيران: شركاء قدامى فى عالم ما بعد الإمبراطورية"؛ حيث يستكشف جارفر تطور العلاقات الصينية الإيرانية عبر عدة مراحل، ومشاركة الصين فى جهود إيران لتحديث جيشها، بما فى ذلك، عرض الصين للأسلحة والخدمات الهندسية التكنولوجية مقابل النفط، مما يشير إلى وجود روابط بين تبادل الطاقة ودعم الصين لإيران فى المجالات السياسية.. بينما يرى بعض المحللين أنه يجب على الولايات المتحدة أن تدرك أنها لن تستطيع منع جميع الأنشطة الاقتصادية الإقليمية الصينية وبدلاً من ذلك، يجب أن تشجع الصين على الاستثمار فى بناء البنية التحتية غير الحيوية فى المنطقة وفى الشركات التى تتعامل مع التحديات المشتركة، مثل الاحتباس الحرارى. فيما قال الدبلوماسى المخضرم ووزير الخارجية الأمريكى السابق "هنرى كيسنجر"، إنه على الولايات المتحدة والغرب بوجه عام التوصل إلى تفاهم مع الصين حول نظام عالمى جديد لضمان الاستقرار، وإلا سيواجه العالم فترة خطيرة، كالتى سبقت الحرب العالمية الأولى ووضع وصفه بالكارثى لن يفيد أى أحد. وأضاف قائلًا،: إن على واشنطن وبكين تعلم كيفية التعايش مع بعضهما البعض للحفاظ على السلام وإن على الغرب أن يؤمن بنفسه، فالقوة الاقتصادية للصين لا تعنى أنها ستتفوق تلقائياً فى كل المجالات التكنولوجية خلال هذا القرن. كما أكد كيسنجر أن الوضع الآن بات "أكثر خطورة"، بالنظر إلى الأسلحة المتطورة المتاحة لكل من الولايات المتحدة والصين، لذا على واشنطن، وللمرة الأولى، أن تقرر ما إذا كان من الممكن التعامل مع دولة ذات حجم مماثل لها نظرًا لأن الصراع بين الدول التى تمتلك أسلحة متقدمة يمكنها من أن تبدأ الصراع بنفسها دون اتفاق على أى نوع من ضبط النفس، ما سيكون له عواقب وخيمة.