«التلصص» وتعدد الدلالة فى «أربعة حبال .. تسعة مشابك»

 أربعة حبال..تسعة مشابك
أربعة حبال..تسعة مشابك

يتأسس‭ ‬الخطاب‭ ‬السردى‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬السارد‭ ‬والمخاطب‭ ‬السردي،‭ ‬وفى‭ ‬إطار‭ ‬ذلك‭ ‬التواصل‭ ‬السرد‭ ‬يتُسند‭ ‬إلى‭ ‬السارد‭ ‬مهمة‭ ‬تأسيس‭ ‬الفضاءات‭ ‬الزمانية‭ ‬والمكانية،وتنظيم‭ ‬الأحداث‭ ‬والشخصيات،وعبر‭ ‬ذلك‭ ‬تتجلى‭ ‬الطبيعة‭ ‬المعرفية‭ ‬للسارد‭ ‬التى‭ ‬قد‭ ‬تزيد‭ ‬عن‭ ‬معرفة‭ ‬الشخصية‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬نمط‭ ‬الرؤية‭ ‬من‭ ‬الخلف،‭ ‬أو‭ ‬تساويها‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬نمط‭ ‬الرؤية‭ ‬مع،‭ ‬أوتقل‭ ‬عنها‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬نمط‭ ‬الرؤية‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬وقد‭ ‬اعتمدت‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أربعة‭ ‬حبال‭.. ‬تسعة‭ ‬مشابك‮»‬‭ ‬لعمرو‭ ‬الرديني،‭ ‬والصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬العماد‭ ‬للنشر‭ ‬والتوزيع،‭ ‬توظيف‭ ‬تقنية‭ ‬السارد‭ ‬الشخصى‭ ‬بضمير‭ ‬المتكلم،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬التقنية‭ ‬تتيح‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬أعماق‭ ‬المتكلم‭ ‬والوقوف‭ ‬على‭ ‬أدق‭ ‬تفاصيله‭ ‬الداخلية،فإنها‭ ‬تتيح‭ ‬للسارد‭ ‬قدرا‭ ‬أقل‭ ‬مما‭ ‬تتيحه‭ ‬تقنية‭ ‬السارد‭ ‬العليم‭ ‬فى‭ ‬معرفة‭ ‬دقائق‭ ‬وأسرار‭ ‬الشخصيات‭ ‬الأخرى،‭ ‬والتى‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الحجب‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬خلف‭ ‬الجدران،‭ ‬بيد‭ ‬أننا‭ ‬نجد‭ ‬السارد‭ ‬الشخصى‭ ‬فى‭ ‬‮«‬أربعة‭ ‬حبال‭.. ‬تسعة‭ ‬مشابك‮»‬‭ ‬استطاع‭ ‬تحيصل‭ ‬المعرفة‭ ‬المتعلقة‭ ‬بأسرار‭ ‬الآخرين‭ ‬وتفاصيل‭ ‬حيواتهم،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إحدى‭ ‬سماته‭ ‬البنائية‭ ‬وهى‭ ‬قيامه‭ ‬بفعل‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬،‭ ‬فاستطاع‭ ‬اختراق‭ ‬الجدران‭ ‬والوقوف‭ ‬على‭ ‬أسرار‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬خلفها،وهذا‭ ‬حقق‭ ‬داخل‭ ‬النص‭ ‬الروائى‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬مزايا‭ ‬التقنيتين،‭ ‬فالسارد‭ ‬لديه‭ ‬المعرفة‭ ‬الذاتية‭ ‬التى‭ ‬يتيحها‭ ‬توظيف‭ ‬ضمير‭ ‬المتكلم،‭ ‬كماأن‭ ‬لديه‭ ‬أيضا‭ ‬المعرفة‭ ‬الموضوعية‭ ‬بحيوات‭ ‬الشخصيات‭ ‬الأخرى‭ ‬التى‭ ‬أتاحها‭ ‬له‭ ‬قيامه‭ ‬بفعل‭ ‬التلصص‭.‬

التلصص‭ ‬واكتناز‭ ‬الدلالات

لا‭ ‬يتوقف‭ ‬دور‭ ‬العناوين‭ ‬الجانبية‭ ‬والإهداءات‭ ‬والنصوص‭ ‬الموازية‭ ‬للنص‭ ‬السردى‭ ‬على‭ ‬الوظيفة‭ ‬الإبلاغية،‭ ‬فدلالاتها‭ ‬تصب‭ ‬بالأخير‭ ‬فى‭ ‬البنية‭ ‬الدلالية‭ ‬الكلية‭ ‬للنص،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تمنح‭ ‬القارئ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬مفاتيح‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬التخييلي،‭ ‬وفكرة‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬مكون‭ ‬مركزى‭ ‬يتأسس‭ ‬عليها‭ ‬البناء‭ ‬الدرامى‭ ‬للنص‭ ‬برمته،ودلالات‭ ‬التلصص‭ ‬تتعدد‭ ‬وتتغاير‭ ‬وتتضايف‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬النص،‭ ‬وأولى‭ ‬دلالات‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬نقف‭ ‬عليها‭ ‬فى‭ ‬الإهداء‭ ‬الأول‭ ‬فى‭ ‬الرواية،‭ ‬حيث‭ ‬يشير‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬الآخر‭ ‬قراءة‭ ‬تفاعلية‭ ‬تنفذ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الظاهر‭ ‬السطحى‭ ‬لتقف‭ ‬على‭ ‬الباطن،‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬الإهداء‭ ‬الأول‭ ‬الذى‭ ‬يأتى‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالى‭: ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬قرأتها‭ ‬وقرأتنى،‭ ‬نظرة‭ (‬يوسف‭ ‬إدريس‭)‬،‭ ‬انفلات‭ (‬مكاوى‭ ‬سعيد‭)‬،‭ ‬درجة‭ (‬كمال‭ ‬اللهيب‭)‬،‭ ‬عين‭ (‬طارق‭ ‬إمام‭).‬

ففعل‭ ‬القراءة‭ ‬هنا‭ ‬يصبح‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬آخر‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬التلصص‭ ‬على‭ ‬مخبوء‭ ‬المعانى‭ ‬فيما‭ ‬وراء‭ ‬ظاهر‭ ‬الكلام‭.‬

ومع‭ ‬الإهداء‭ ‬الثانى‭ ‬تُضاف‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬دلالةالاقتحام‭ ‬والتحذير،‭ ‬عندما‭ ‬يصبح‭ ‬اقتحاماً‭ ‬لعوالم‭ ‬الآخرين‭ ‬وتحذيراً‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬اقترافهم‭ ‬الفعل‭ ‬نفسه‭: ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تلصصت‭ ‬عليه‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬مقتحماً‭ ‬عالمه‭.. ‬إياك‭ ‬أن‭ ‬تقتحم‭ ‬عالمى‭!‬

هذا‭ ‬التنبيه‭ ‬يضمر‭ ‬فى‭ ‬باطنه‭ ‬ما‭ ‬يحتشد‭ ‬به‭ ‬عالم‭ ‬السارد‭ ‬التخييلى‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬مستعصية‭ ‬على‭ ‬التفسير‭ ‬ستتكشف‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬المسار‭ ‬السردى‭.‬

ويعقب‭ ‬الإهداء‭ ‬تضمين‭ ‬نصى‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬رسائل‭ ‬البحر‮»‬‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬دلالة‭ ‬متعة‭ ‬الاكتشاف‭: ‬‮«‬‭ ‬ولّا‭ ‬متعة‭ ‬التلصص‭ ‬كأنك‭ ‬بتقرأ‭ ‬رسالة‭ ‬مش‭ ‬موجهة‭ ‬ليك‭ ‬إنت‭ ‬من‭ ‬إنسان‭ ‬متعرفوش‮»‬‭.‬

الدلالات‭ ‬المتتابعة‭ ‬والمتغايرة‭ ‬للتلصص‭ ‬التى‭ ‬أنتجتها‭ ‬تلك‭ ‬النصوص‭ ‬الثلاثة‭ ‬المدخلية‭ ‬إلى‭ ‬النص،‭ ‬والتى‭ ‬يكتنزها‭ ‬دال‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬تغاير‭ ‬دلالته‭ ‬من‭ ‬موضع‭ ‬نصى‭ ‬لآخر‭ ‬عبر‭ ‬القراءة‭ ‬ومهدت‭ ‬البنية‭ ‬الدلالية‭ ‬لاكتناز‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الدلالات،‭ ‬التى‭ ‬يخرج‭ ‬فيها‭ ‬التلصص‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬كونه‭ ‬استراقا‭ ‬للنظر‭ ‬خلسة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬قراءة‭ ‬للآخر‭ ‬وللواقع‭ ‬والتفاعل‭ ‬معه‭ ‬تفاعلا‭ ‬يضمر‭ ‬داخله‭ ‬متعة‭ ‬الكشف‭ ‬والسيطرة‭ ‬والهيمنة‭ ‬والاحساس‭ ‬بالمسئولية‭ ‬تجاه‭ ‬الآخر،‭ ‬ليصير‭ ‬بالأخير‭ ‬أسلوب‭ ‬حياة‭ ‬ومهمة‭ ‬وجودية‭ ‬ورسالة‭ ‬مصيرية‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬السارد‭.‬

يستغرق‭ ‬زمن‭ ‬الحدث‭ ‬السردى‭ ‬جلسة‭ ‬ليلية‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬الليل‭ ‬وحتى‭ ‬طلوع‭ ‬الفجر،‭ ‬تبدأ‭ ‬الرواية‭ ‬والسارد‭ ‬يعد‭ ‬العدة‭ ‬لجلسته‭ ‬الليلية‭: ‬‮«‬صخب‭ ‬وضجيج‭ ‬خارجي‭.. ‬ما‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يهدأ‭ ‬مع‭ ‬انتصاف‭ ‬الليل؛‭ ‬وهدوء‭ ‬ورتابة‭ ‬داخلية‭.. ‬ما‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تنكسر‭ ‬مع‭ ‬ذات‭ ‬الانتصاف‭!  ‬تأكدت‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬معد،‭ ‬ومجهز‭ ‬لسهرتى‭ ‬الليلية‮»‬‭ .‬

وتنتهى‭ ‬الرواية‭ ‬بقول‭ ‬السارد‭:‬‮»‬أنهيت‭ ‬مهمتى‭ ‬الليلية،‭ ‬وسأذهب‭ ‬لآخذ‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬النوم‭.. ‬ودعت‭ ‬حبالى‭ ‬ومشابكي‭.. ‬احتضنت‭ ‬المفكرة‭ ‬السوداء،‭ ‬وخطر‭ ‬لى‭ ‬فجأة‭ ‬أن‭ ‬أقوم‭ ‬بكتابة‭ ‬مذكراتى‭ ‬أنا‭ ‬الآخر‮»‬‭.‬

والمهمة‭ ‬التى‭ ‬يحشد‭ ‬لها‭ ‬السارد‭ ‬كامل‭ ‬طاقته‭ ‬هى‭ ‬قيامه‭ ‬بفعل‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬على‭ ‬المحيطين‭ ‬به‭ ‬واختراق‭ ‬النوافذ‭ ‬والجدران‭ ‬ليطلع‭ ‬على‭ ‬حيوات‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وربما‭ ‬يتدخل‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬فى‭ ‬تغيير‭ ‬مصائرها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬أحد‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬يحفظ‭ ‬النوافذ‭ ‬المحيطة‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭:‬‮»‬‭.‬

التلصص‭ ‬يمنح‭ ‬السارد‭ ‬إحساسا‭ ‬بالسيطرة‭ ‬والهيمنة‭ ‬يعوضه‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬مأزوم‭ ‬يمتلئ‭ ‬بالفراغ،‭ ‬فحضور‭ ‬التلصص‭ ‬فى‭ ‬مركزية‭ ‬الحدث‭ ‬يصبح‭ ‬تعويضاً‭ ‬عن‭ ‬غياب‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬مضمرة‭ ‬ينفتح‭ ‬عليها‭ ‬أفق‭ ‬توقعات‭ ‬القارئ‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬أحدا‭ ‬يخرج‭ ‬للحياة‭ ‬متلصصا‭.. ‬وحيدا‭.. ‬يغذى‭ ‬حياته‭ ‬بحيوات‭ ‬الآخرين‭.. ‬يقتات‭ ‬على‭ ‬أسرارهم،‭ ‬ينام‭ ‬على‭ ‬خصوصياتهم‭.. ‬منهما‭ ‬تولدت‭ ‬المتعة‭ ‬واللذة‮»‬‭.‬

‭ ‬ويفلسف‭ ‬السارد‭ ‬فعله‭ ‬ذلك‭ ‬ليجعله‭ ‬يبدو‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬أشبه‭ ‬بالمهمة‭ ‬الوجودية‭: ‬‮«‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ارتبط‭ ‬مصيرى‭ ‬بمراقبة‭ ‬الآخرين،‭ ‬فمازالت‭ ‬أمقت‭ ‬التصنت‭.. ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬نظرى‭ ‬أحقر‭ ‬شأنا‭ ‬من‭ ‬التلصص‭..!‬‮»‬‭ .‬

وتلك‭ ‬المهمة‭ ‬الوجودية‭ ‬لم‭ ‬يسع‭ ‬إليها‭ ‬السارد،‭ ‬بل‭ ‬انتهت‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الساكن‭ ‬السابق،بدأ‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر‭ ‬عندما‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬أجندة‭ ‬سوداء‭ ‬كبيرة‭ ‬الحجم‭ ‬تركها‭ ‬ذلك‭ ‬الساكن‭:‬‮»‬وجدت‭ ‬أنها‭ ‬مذكرات‭ ‬يومية‭ ‬للساكن‭ ‬السابق،‭ ‬والذى‭ ‬دون‭ ‬يومياته‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬خطابات‭ ‬موجهة‭ ‬لشخص‭ ‬ما،‭ ‬ولم‭ ‬أحتج‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬كى‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬هو‭.. ‬أنا‭..‬‮»‬‭ .‬

وهذا‭ ‬المقطع‭ ‬ينقل‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬التأويل،‭ ‬يكتسب‭ ‬فيه‭ ‬بعداً‭ ‬روحياً،‭ ‬أشبه‭ ‬بما‭ ‬يجتمع‭ ‬عليه‭ ‬أهل‭ ‬السر‭ ‬والتخاطر،‭ ‬والسر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬البوح‭ ‬به‭ ‬فهو‭ ‬قرين‭ ‬الحياة‭ ‬ذاتها‭: ‬‮«‬لكل‭ ‬منا‭ ‬سره‭ ‬الخاص،‭ ‬وأنت‭ ‬سرك‭ ‬هو‭ ‬لعنتك‭..! ‬لكنك‭ ‬تؤمن‭ ‬بأن‭ ‬تخلصك‭ ‬من‭ ‬أحدهما‭ ‬–سرك‭ ‬أو‭ ‬لعنتك‭- ‬يعنى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬حياتك‭..!‬‮»‬‭ .  ‬

ومع‭ ‬الاتساع‭ ‬الدلالى‭ ‬لفعل‭ ‬التلصص‭ ‬يصبح‭ ‬مهمه‭ ‬لا‭ ‬تُمنح‭ ‬إلا‭ ‬لمن‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬حملها‭ ‬ويهبها‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬فمن‭ ‬وصايا‭ ‬المتلصص‭ ‬الأول‭ ‬التى‭ ‬تركها‭ ‬فى‭ ‬الأجندة‭ ‬السوداء‭ ‬التى‭ ‬آلت‭ ‬إلى‭ ‬السارد‭:‬‮«‬لكى‭ ‬تكون‭ ‬متلصصا‭ ‬محترفا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تمتلك‭: ‬قسوة‭ ‬قاتل،‭ ‬جرأة‭ ‬هجام،‭ ‬ثقة‭ ‬نصاب،‭ ‬خفة‭ ‬نشال،‭ ‬خسة‭ ‬جاسوس،‭ ‬جنون‭ ‬سفاح،‭ ‬دناءة‭ ‬قواد،‭ ‬قوة‭ ‬بلطجى،‭ ‬شهوة‭ ‬مغتصب،‭ ‬دقة‭ ‬مزور،‭ ‬ذكاء‭ ‬دجال‮»‬‭ ‬وتنتهى‭ ‬الرواية‭ ‬بمقطع‭ ‬لافت‭ ‬تتضايف‭ ‬دلالته‭ ‬إلى‭ ‬دلالات‭ ‬التلصص‭ ‬السابقة،‭ ‬عندما‭ ‬يفكر‭ ‬السارد‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬مذكراته،‭ ‬ولكن‭ ‬لمن؟‭ ‬فالرجل‭ ‬الذى‭ ‬سكن‭ ‬قبله‭ ‬كتب‭ ‬مذكراته‭ ‬لتؤول‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬ويصبح‭ ‬خليفته،‭ ‬والسارد‭ ‬ليس‭ ‬لديه‭ ‬خليفة‭: ‬‮«‬هل‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬يمد‭ ‬فى‭ ‬عمرى‭ ‬أعمار‭ ‬أخرى،‭ ‬يحمل‭ ‬المهمة،‭ ‬والتركة‭ ‬الثقيلة‭ ‬من‭ ‬بعدي‭.. ‬ليتكفل‭ ‬برعاية‭ ‬الشارع‭ ‬القديم؟‭ ‬حسنا‭ ‬لأبدأ‭ ‬بذلك‭ ‬السؤال‭ ‬الذى‭ ‬بدأ‭ ‬يشغلنى‭ ‬فجأة،‭ ‬ويسيطر‭ ‬على‭ ‬تفكيرى‭ ‬بقوة‭: ‬من‭ ‬الذى‭ ‬سيكمل‭ ‬الرحلة،‭ ‬وينهى‭ ‬المشوار؟‭ ‬من‭ ‬الذى‭ ‬سيمد‭ ‬إلى‭ ‬حياتى‭ ‬المتجهة‭ ‬إلى‭ ‬زوال‭ ‬حيوات‭ ‬جديدة،‭ ‬وأعمار‭ ‬وأعمار؟‮»‬‭.‬

وهنا‭ ‬تنفتح‭ ‬دلالات‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬‭ ‬للتأويل‭ ‬بقدر‭ ‬اتساع‭ ‬أفق‭ ‬توقعات‭ ‬القارئ،‭ ‬فالسارد‭ ‬الذى‭ ‬يعانى‭ ‬من‭ ‬الوحدة‭ ‬وفقدان‭ ‬المعنى‭ ‬ويقتل‭ ‬الوقت‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬قزقزة‮»‬‭ ‬اللب،‭ ‬يجسد‭ ‬ذلك‭ ‬الولع‭ ‬بالتواصل‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬‮«‬التلصص‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فرغت‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬المعنى،‭ ‬أو‭ ‬فلنقل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فرغت‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬فالتلصص‭ ‬على‭ ‬حيوات‭ ‬الآخرين‭ ‬يصبح‭ ‬محاولة‭ ‬لملء‭ ‬ذلك‭ ‬الفراغ‭ ‬المقيم‭ ‬داخله‭.‬