رحيل عناية جابر التى وضعها بسّام حجار فى مصاف الساحرات:

الشاعرة بألف لام التعريف

عناية جابر
عناية جابر

‭  ‬منصورة‭ ‬عز‭ ‬الدين

بلا‭ ‬مقدمات‭ ‬رحلت‭ ‬الشاعرة‭ ‬اللبنانية‭ ‬عناية‭ ‬جابر‭ (‬1958-2021‭)‬،‭ ‬وبرحيلها‭ ‬يتأكد‭ ‬حضورها‭ ‬الرهيف‭ ‬لكن‭ ‬الراسخ‭ ‬فى‭ ‬قلب‭ ‬المشهد‭ ‬الشعرى‭ ‬وفى‭ ‬قلوب‭ ‬أصدقاء‭ ‬كثيرين‭ ‬بكوها‭ ‬بحرقة،‭ ‬وصدمهم‭ ‬موتها‭  ‬المباغت‭.‬

توزعت‭ ‬اهتمامات‭ ‬عناية‭ ‬جابر‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭ ‬والفن‭ ‬التشكيلي،‭ ‬لكنها‭ ‬قاربت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬بما‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬حياتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬بنبرة‭ ‬الشعر‭ ‬وخفوته‭ ‬ومواربته‭. ‬وضعها‭ ‬بسّام‭ ‬حجار‭ ‬فى‭ ‬مصاف‭ ‬الساحرات،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬مبالغًا‭ ‬فى‭ ‬هذا،‭ ‬فعناية‭ ‬كشاعرة‭ ‬وإنسانة‭ ‬ساحرة‭ ‬فعلًا،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬كاهنة‭ ‬بروح‭ ‬عتيقة‭ ‬تختبئ‭ ‬خلف‭ ‬الكلمات،‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬تمائم‭ ‬وتعاويذ،‭ ‬إلى‭ ‬صلوات‭ ‬مشفرة‭ ‬تتقنَّع‭ ‬بالبساطة‭ ‬والخفوت،‭ ‬وتضمر‭ ‬بداخلها‭ ‬طبقات‭ ‬من‭ ‬الالتباس‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬إيحاءات‭.‬

نعم‭ ‬هى‭ ‬شاعرة‭ ‬الإيحاءات‭ ‬والخفوت،‭ ‬وعلى‭ ‬طريقة‭ ‬الساحرات،‭ ‬تحيل‭ ‬أبسط‭ ‬الكلمات‭ ‬إلى‭ ‬ألغاز،‭ ‬وتفكك‭ ‬الألغاز‭ ‬بكلمات‭ ‬بساطتها‭ ‬خادعة‭. ‬تكتب‭ ‬الجسد‭ ‬والشهوة‭ ‬على‭ ‬طريقتها‭ ‬هي،‭ ‬طريقة‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬ينازعها‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭. ‬قالت‭ ‬لى‭ ‬مرة،‭ ‬ضمن‭ ‬حديث‭ ‬طويل،‭ ‬إن‭ ‬الخسارة‭ ‬هى‭ ‬الأساس،‭ ‬وإنها‭ ‬لولاها‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فى‭ ‬حاجة‭ ‬لقول‭ ‬هذا،‭ ‬فإحساس‭ ‬الخسارة‭ ‬مهيمن‭ ‬على‭ ‬قصائدها‭. ‬أو‭ ‬بالأحرى،‭ ‬يطل‭ ‬بخفوت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬الكلمات،‭ ‬فمفردة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الهيمنة‮»‬‭ ‬لها‭ ‬وقع‭ ‬قوى‭ ‬ومتسلط‭ ‬بما‭ ‬يجرح‭ ‬خفوت‭ ‬قصيدتها‭ ‬ورهافتها‭ ‬ولطفها‭. ‬تلك‭ ‬القصيدة‭ ‬المنطلقة‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬والمضفية‭ ‬لمحة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حولها،‭ ‬والمشغولة‭ ‬بالحب،‭ ‬لكنه‭ ‬فيها‭ ‬يختلف‭ ‬عنه‭ ‬كما‭ ‬ألفناه‭ ‬فى‭ ‬كتابات‭ ‬أخرى،‭ ‬فهو‭ ‬حب‭ ‬كأنه‭ ‬الحب،‭ ‬إنما‭ ‬ليس‭ ‬تمامًا،‭ ‬حب‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬رغبات‭ ‬غير‭ ‬متحققة،‭ ‬أو‭ ‬رغبات‭ ‬تحققها‭ ‬يؤلم‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يشفي،‭ ‬حب‭ ‬مآلاته‭ ‬تتجه‭ ‬نحو‭ ‬الفقد‭ ‬لا‭ ‬الاكتمال‭.‬

ولا‭ ‬تبدو‭ ‬الشاعرة،‭ ‬بمزاجها‭ ‬الخاسر،‭ ‬معنية‭ ‬بالتحقق‭ ‬والاكتمال،‭ ‬بل‭ ‬بتأمل‭ ‬لحظاتها‭ ‬وتقتيرها‭ ‬إلى‭ ‬كلمات‭ ‬تشكِّل‭ ‬بها‭ ‬تعاويذها‭ ‬وتمائمها‭.‬

‮«‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬كتاب‭ ‬النجاة‭. ‬كلُّ‭ ‬نجاةٍ‭ ‬بالشعر‭ ‬كاذبة‭. ‬سوف‭ ‬تقرأ،‭ ‬وعندما‭ ‬تفرغ‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬هذه‭ ‬القصائد،‭ ‬لن‭ ‬يزول‭ ‬ألمك،‭ ‬ولن‭ ‬تبرأ‭ ‬من‭ ‬حزنك‭ ‬أو‭ ‬خوفك‭ ‬أو‭ ‬لامبالاتك‭ ‬أو‭ ‬مساومات‭ ‬عيشكَ‭ ‬مع‭ ‬الأشياء‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬كتب‭ ‬بسّام‭ ‬حجّار‭ ‬عن‭ ‬مختاراتها‭ ‬القاهرية‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أخوات‭ ‬لي‮»‬،‭ ‬التى‭ ‬صدرت‭ ‬عام‭ ‬2009‭ ‬عن‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬آفاق‭ ‬عربية‮»‬‭ (‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬لقصور‭ ‬الثقافة‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬صدرلعناية‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬المختارات‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬أيضًا‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬جميع‭ ‬أسبابنا‮»‬‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬شرقيات‭ ‬2006،‭ ‬رغبةً‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬تأكيد‭ ‬انتمائها‭ ‬لمصر،‭ ‬إذ‭ ‬كما‭ ‬كتبت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬فى‭ ‬شهادة‭ ‬لبستان‭ ‬الكتب‭ ‬بأخبار‭ ‬الأدب‭ ‬عن‭ ‬دوافع‭ ‬نشرها‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭: ‬

‮«‬علاقتى‭ ‬بمصر‭ ‬خاصة‭ ‬جدًا،‭ ‬وتنسحب‭ ‬هذه‭ ‬الخصوصية‭ ‬على‭ ‬مسألة‭ ‬النشر‭ ‬فيها‭. ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬أزور‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬فى‭ ‬القاهرة،‭ ‬شرقيات‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬كانت‭ ‬تلفتنى‭ ‬كتب‭ ‬لشعراء‭ ‬وشاعرات‭ ‬أحبهم،‭ ‬أحببت‭ ‬بشكل‭ ‬طفولى‭ ‬أن‭ ‬يصطّف‭ ‬لى‭ ‬كتاب‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬كتبهم‭. ‬هكذا‭ ‬نشرت‭ ‬فى‭ ‬شرقيات،‭ ‬أعزز‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النشر‭ ‬انتمائى‭  ‬‮«‬الكلى‮»‬‭ ‬لمصر‭ ‬وتماهيًا‭ ‬مع‭ ‬فكرة‭ ‬فى‭ ‬خلفية‭ ‬رأسى‭ ‬تقول‭ ‬إننى‭ ‬عشت‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬سابقة‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭. ‬لم‭ ‬تراودنى‭ ‬اطلاقًا‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مقروءة‭ ‬أكثر‭ ‬أو‭ ‬سوى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مغريات‭ ‬العواصم‭ ‬الكبيرة،‭ ‬فقط‭ ‬تأكيد‭ ‬عنيد‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬لى‭ ‬حيزًا‭ ‬عندكم‭. ‬كتابى‭ ‬عن‭ ‬آفاق‭ ‬كان‭ ‬فكرة‭ ‬وطلبا‭ ‬من‭ ‬الراحل‭ ‬الحبيب‭ ‬إبراهيم‭ ‬أصلان‭.. ‬وكان‭ ‬النشر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عمل‭ ‬الشاعر‭ ‬الراحل‭ ‬بسام‭ ‬حجار‭ ‬على‭ ‬انتقاء‭ ‬مختارات‭ ‬من‭ ‬مجموعاتى‭ ‬وكتابة‭ ‬كلمة‭ ‬على‭ ‬الغلاف‭.  ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬كلمة‭ ‬تقييم‭ ‬لأننى‭ ‬أجهل‭ ‬مفاعيله،‭ ‬سوى‭ ‬أننى‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬التجربتين‭ ‬جعلتا‭ ‬لى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬المصريين‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬وُفقّت‭ ‬من‭ ‬خلالهما‭ ‬على‭ ‬تأكيد‭ ‬انتمائى‭ ‬وليس‭ ‬انتشارى‭ ‬كشاعرة‭. ‬كنت‭ ‬مُدللة‭ ‬فى‭ ‬عملية‭ ‬النشر‭ ‬فى‭ ‬بيروت‭ ‬ولم‭ ‬تصادفنى‭ ‬عقبات‭ ‬فلا‭ ‬مأخذ‭ ‬على‭ ‬النشر‭ ‬فى‭ ‬بيروت‭ ‬التى‭ ‬جعلت‭ ‬لى‭ ‬اسمًا‭ ‬خصوصاً‭ ‬عند‭ ‬العزيز‭ ‬رياض‭ ‬نجيب‭ ‬الرّيس‭ ‬حيث‭ ‬طبعت‭ ‬إصدارات‭ ‬أربعة،‭ ‬كذلك‭ ‬فى‭ ‬دار‭ ‬الساقى‭ ‬ودار‭ ‬النهار‭ ‬والمدى‭ ‬وسوى‭ ‬ذلك،‭ ‬كثافة‭ ‬الأعداد‭ ‬التى‭ ‬طُبعت‭ ‬فى‭ ‬آفاق‭ ‬جعلت‭ ‬مفردتى‭ ‬الشعرية‭ ‬فى‭ ‬متناول‭ ‬الكثيرين،‭ ‬هذا‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬يمكننى‭ ‬تجاهله‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعنينى‭ - ‬أعود‭ ‬وأكرر‭ - ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مصرية‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬ولو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النشر‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬أشرح‭ ‬هذا‭!‬‮»‬

لم‭ ‬يقتصر‭ ‬ارتباط‭ ‬عناية‭ ‬جابر‭ ‬بمصر‭ ‬على‭ ‬نشرها‭ ‬لهذين‭ ‬الكتابين‭ ‬فيها،‭ ‬كانت‭ ‬مصرية‭ ‬على‭ ‬طريقتها،‭ ‬وحظيت‭ ‬بأصدقاء‭ ‬كثيرين‭ ‬فى‭ ‬مصر،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬مغرمة‭ ‬بالمدرسة‭ ‬المصرية‭ ‬فى‭ ‬الغناء،‭ ‬وأقيم‭ ‬لها‭ ‬حفل‭ ‬غنائى‭ ‬فى‭ ‬دار‭ ‬الأوبرا‭ ‬المصرية‭. ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬الأغنيات‭ ‬المصرية‭ ‬التى‭ ‬غنتها،‭ ‬ومتاحة‭ ‬على‭ ‬اليوتيوب‭: ‬‮«‬حبيبى‭ ‬يسعد‭ ‬أوقاته‮»‬،‭ ‬و«مضناك‭ ‬جفاه‭ ‬مرقده‮»‬،‭ ‬و«ليه‭ ‬تلاوعيني‮»‬‭.‬

ثمة‭ ‬الكثير‭ ‬ليقال‭ ‬عن‭ ‬علاقتى‭ ‬الشخصية‭ ‬بعناية‭ ‬جابر،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب،‭ ‬ربما‭ ‬يتاح‭ ‬لى‭ ‬لاحقًا‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عنها‭ ‬بتوسع‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬الشخصى‭ ‬والذاتي،‭ ‬هى‭ ‬التى‭ ‬أجادت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬يدا‭ ‬ممدودة‭ ‬باتجاه‭ ‬الآخرين،‭ ‬والتى‭ ‬قدمت‭ ‬عشرات‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬والشعراء‭ ‬الشباب،‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬أنحاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬فى‭ ‬بيروت‭ ‬عبر‭ ‬حوارات‭ ‬معهم‭ ‬أو‭ ‬مقالات‭ ‬عنهم‭.‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬تخيل‭ ‬بيروت‭ ‬بدون‭ ‬عناية‭ ‬جابر،‭ ‬إذ‭ ‬لطالما‭ ‬مثّلت‭ ‬لدى‭ ‬أصدقائها‭ ‬وجهًا‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬المدينة‭ ‬ومعلمًا‭ ‬من‭ ‬معالمها‭. ‬ولطالما‭ ‬مثّلت‭ ‬لها‭ ‬المدينة‭ ‬امتدادًا‭ ‬لذاتها‭. ‬للبحر‭ ‬تحديدًا‭ ‬مركزيته‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬صاحبة‭ ‬‮«‬ساتان‭ ‬أبيض‮»‬،‭ ‬فهى‭ ‬من‭ ‬قوم‭ ‬الشواطئ‭ ‬كما‭ ‬كتبت‭ ‬عنهم‭: ‬‮«‬قوم‭ ‬الشواطئ،‭ ‬يرون‭ ‬مدنًا‭ ‬خلف‭ ‬الأفق،‭ ‬شوارع،‭ ‬وناسًا‭ ‬غريبين،‭ ‬البحر‭ ‬هو‭ ‬صوت‭ ‬باب‭ ‬ينغلق‭ ‬خلف‭ ‬ظهورهم‮»‬‭.‬

أو‭ ‬بكلمات‭ ‬أخرى‭ ‬لها‭: ‬‮«‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬هنا،‭ ‬يعرفون‭ ‬البحر‭ ‬جيداً،‭ ‬وإذ‭ ‬يعرفونه‭ ‬الى‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ،‭ ‬فغالباً‭ ‬ما‭ ‬حلموا‭ ‬بالهرب‮»‬‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬هروب‭ ‬عناية‭ ‬من‭ ‬بيروت،‭ ‬كان‭ ‬يعيدها‭ ‬دومًا‭ ‬لها‭. ‬فبيروت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬هى‭ ‬البوصلة‭ ‬الجاذبة‭ ‬لعينيها‭ ‬وهى‭ ‬بعيدة‭ ‬عنها‭ ‬فى‭ ‬باريس‭ ‬التى‭ ‬عاشت‭ ‬فيها‭ ‬فترة،‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬حيث‭ ‬اعتادت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تزور‭ ‬ابنيها‭ ‬المقيمين‭ ‬هناك‭ ‬دوريًا،‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬مدينة‭ ‬أخرى‭ ‬مرت‭ ‬بها‭.‬

قبل‭ ‬رحيلها‭ ‬بأيام،‭ ‬كتبت‭ ‬على‭ ‬صفحتها‭ ‬بالفيسبوك‭: ‬‮«‬فى‭ ‬تجوالى‭ -‬بلا‭ ‬هدف‭ ‬طبعًا‭- ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬الحزن‭ ‬يشّل‭ ‬سكان‭ ‬بيروت‭ ‬فقط‭ ‬،‭ ‬لكنه‭ ‬يمنحهم‭ ‬رخصة‭ ‬شعرية‭ ‬بشللهم‭! ‬بيروت‭ ‬لاتحمل‭ ‬حزنها‭ ‬كعلّة،‭ ‬إنها‭ ‬تحملهُ‭ ‬بجلال‮»‬‭.‬

يبقى‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬عناية‭ ‬جابر‭ ‬عاشت‭ ‬شاعرة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معنى،‭ ‬احتفظت‭ ‬دومًا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتها‭ ‬برهافة‭ ‬الشعر‭ ‬ومزاجيته‭ ‬ونزقه،‭ ‬صاغت‭ ‬حياتها‭ ‬كقصيدة،‭ ‬واستبقت‭ ‬موتها‭ ‬بجملة‭ ‬شعرية‭ ‬تصلح‭ ‬تمامًا‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬وداع‭ ‬شاعرة‭ ‬للعالم‭:‬

‮«‬إذا‭ ‬لمست‭ ‬قلبى‭ ‬ولو‭ ‬بريشة‭ ‬يصرخ‭ ‬من‭ ‬الألم‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬المؤلم‭ ‬حقًا،‭ ‬أن‭ ‬تموت‭ ‬عناية‭ ‬وحيدة‭ ‬فى‭ ‬بيتها‭ ‬فى‭ ‬بيروت،‭ ‬ما‭ ‬أقسى‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬روحها‭ ‬دائمة‭ ‬الطفولة‭ ‬الميالة‭ ‬إلى‭ ‬المشاكسة‭ ‬واللعب‭. ‬لكن‭ ‬ربما‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬النهاية،‭ ‬على‭ ‬قسوتها،‭ ‬هى‭ ‬الأكثر‭ ‬ملاءمة‭ ‬لشاعرة‭ ‬مثلها،‭ ‬مثّلت‭ ‬الوحدة‭ ‬عماد‭ ‬حياتها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والمحبين‭ ‬الملتفين‭ ‬حولها‭.‬

يليق‭ ‬بعناية‭ ‬جابر،‭ ‬صديقتنا‭ ‬صاحبة‭ ‬المزاج‭ ‬الخاسر‭ ‬والتى‭ ‬عاشت‭ ‬معذبة‭ ‬بسعادة‭ ‬لا‭ ‬تفهمها،‭ ‬كما‭ ‬كتبت‭ ‬يومًا،‭ ‬الجملة‭ ‬التى‭ ‬رثاها‭ ‬عبّاس‭ ‬بيضون‭ ‬بها‭: ‬‮«‬أنتِ‭ ‬هى‭ ‬الشاعرة‮»‬‭.‬