سأخبر الله عن أشقائى

عم مجدى قبل دقائق من نقله الى مؤسسة ايواء
عم مجدى قبل دقائق من نقله الى مؤسسة ايواء

لم أر الدنيا منذ ولدت، أنا فقيد النظر، لا أعرف شكل البيوت، ولا محتوياتها، اعتدت على الظلام، فلا أخاف من شىء لم أره، لذلك سكنت الحوارى والأزقة وأسفل الكبارى، حتى استقر جسدى فى هذه السيارة التى تشبهنى، فلا هى تتحرك ولا تنطق، بل مستسلمه مثلى.. يأكلها الصدأ يوميًا كما يأكلنى الإهمال..وأعتقد أن حياتنا ستنتهى معاً. 

أنا مستسلم لكل العواقب، منذ صغرى وأنا أعانى، لم أجد من يحمينى من إخوتى، كانوا قساة معى، يتركوننى هائمًا فى الشوارع ولا يبحثون عنى، تتخطفنى الحياة، تارة يمسك بيدى شاب ليرشدنى إلى بيتى، وتارة أخرى أجلس فى الشوارع وتتساقط علىّ ثمرات العطف من أبناء القرى المجاورة.. كان الجميع يتحدث عن أمل فى علاجى وعودتى للإبصار، إلا أشقائى، زرعوا بداخلى فقدان الأمل وعدم المحاولة، عايرونى وأبناؤهم بعماى، حبسونى فى حجرة داخل أرض زراعية لا يرتادها سوى الكلاب والقطط، ويسكنها الفئران تارة والزواحف بأشكالها المختلفة تارة أخرى. لم أستطع الصبر..حاولت الخروج وعندما كنت أصل إلى الباب أجده مغلقا بمقابض كثيرة، فى هذه اللحظة كنت أبكى، وأتساءل عن أى جرم ارتكبته ليفعل أشقائى هذا بى، هل المال سبب فى كل ما أنا فيه ؟، لا أريده، ما أتمناه هو أن أعيش حرًا طليقًا، فأنا أخاف من العيش فى ظلام داخل ظلام، أريد أن أتنفس، أتحسس خطواتى بين الحقول، لكن كل هذا كان حلمًا وما كان على سوى أن استسلم للحياة التى رسموها لى، فأنا فى نظرهم فقط حيوان عليهم إطعامه حتى يبقى على قيد الحياة، لكننى لم أستسلم وقررت العودة إلى المنزل.

نعم.. كان والدى هو الوحيد الذى يبحث عنى، فكان يدرك مأساتى، وجبروت إخوتى، لذلك عانيت بعد وفاته، طردنى أشقائى من المنزل بعد أن رفضت العيش كحيوان داخل الحجرة المظلمة، حيث لم تردعهم تحذيرات ووصايا أبى قبل مماته..حرمونى حتى من الغطاء، لذلك ألقيت بجسدى فى إحدى السيارات المغادرة من بلدى الفيوم إلى القاهرة هربا من بطشهم.. جئت إلى العاصمة،وأنا لا أعرف اسم شارع أو زقاق، ولاأستطيع أن أتحرك خطوة واحدة دون مرشد يقودنى.

تاهت أقدامى فى حوارى العاصمة، صاحبنى المرض، فلم أعد قادرا على السير على قدمى، بعد أن تآكلت بسبب جرح تحول نتيجة الإهمال إلى سم ينخر فى جسدى.

استسلمت للموت، وحاولت العودة إلى بلدى الفيوم لكننى كنت أخشى أشقائى، قد يقتلوننى بسبب الميراث وغيره من الأسباب الأخرى، قررت أن أجلس هنا، حتى تخطفتنى قدماى إلى منطقة فيصل وبالتحديد شارع العشرين، جلست هناك بجوار إحدى المدارس الخاصة.

تحولت فى ليلة وضحاها إلى متسول شهير فى المنطقة، أنا لم أطلب من أحد معونة او مساعدة، لكن نومى بجوار السيارات وفقدان النظر كان دافعا لتعاطف البشر معى، وحصلت على مساعدات مالية، وأحاطتنى الأغطية من كل اتجاه، لكن السؤال الذى كان يؤرقنى أين السكن الذى يحمينى من برد الشتاء ؟.

ظللت 12 عامًا أهيم فى الشوارع، لا أعرف أين أنا وإلى أين تقودنى قدماى، فقط اسم موقف السيارات الذى أجلس بجواره، كان هو المكان الذى أذهب وأعود إليه، حتى أرشدنى ابن حلال إلى سيارة متهالكة مركونة بجوار أحد القصور القديمة، وقد جار عليها الزمن فتآكلت عجلاتها وسرقت محتوياتها ولم يتبق منها سوى القليل، لكن مقاعدها بحالة جيدة كما أخبرنى الشاب.

نجح ابن الحلال فى فتح أبوابها، وأدخل غطائى بداخلها، وأزاح كرسيها الأمامى وأراح كرسيها الخلفى حتى تحول إلى سرير مصغر، ألقيت عليه ظهرى وأغلقت بابى،و بعدها حمدت الله على ستره لى.

أنا أعيش هنا بداخل هذه السيارة منذ 18 عاما، أسمع تشققاتها وتآكلها وصداها يوميا، وهى تسمع أنينى وتعبى وآهاتى، كلانا منتظر اللحظة التى نغادر فيها الدنيا، فقصتها تشبهنى، لقد مات مالكها وتشاجر الورثة على ملكيتها حتى تركها وحيدة، وعندما وجدت من يسكنها كانت نهايتها قد اقتربت،وأنا كذك أصبح الموت قريبا منى بعد أن لوثت قدمى جسدى بسبب الجرح الذى أصابنى وأهملته.

أحمد الله أننى لم أتزوج، ولم تكن لى شريكة، فلن يستطيع أحد مهما كان أن يتحمل الآلام التى عانيتها منذ ولادتى حتى الآن، وأعلم اننى سأتزوج فى الجنة، فرغم فقدان النظر إلا أننى كنت حريصا داخل سكنى المؤقت على المواظبة على الصلاة، أما أشقائى، فقد علمت بوفاة اثنين منهم بعد أن تشاجرا على الميراث مع أقارب لنا..فحمدت الله أننى هربت من حياتهم، فمصيرى كان سيكون مقتولاً على دنيا زائلة.