خواطرالإمام الشعراوى

من خواطر الشيخ الشعراوي.. النبى والرسول

الإمام الشعراوى
الإمام الشعراوى

يقول الحق فى سورة العنكبوت «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ». يقول العلماء: إن نوحاً - عليه السلام - هو أول رسل الله إلى البشر، أما مَنْ سبقه مثل آدم وإدريس عليهما السلام، فكانوا أنبياء أوحى الله إليهم بشرع يعملون به، فيكونون نموذجاً إيمانياً، وقدوة سلوك طيب، يُقلِّدهم مَنْ رآهم، لكن لا يُعَدُّ كافراً مَنْ لم يقتَدِ بهم، أما إن اقتدى بهم ثم نكث عن سبيلهم فهو كافر.
لذلك نُفرِّق بين النبى والرسول، بأن النبى أُوحى إليه بشرع يعمل به ولم يُؤْمر بتبليغه، أما الرسول فقد أُوحى إليه بشرع وأُمرِ بتبليغه فكلٌّ منهما مرسل، لذلك يقول تعالى: «وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ...» «الحج: 52». إذن: فالنبى أيضاً مُرسَل، لكنه مُرسَل لذاته.


لكن لماذا كان هذا قبل نوح بالذات؟ قالوا: لأن الرقعة الإنسانية كانت ضيقة قبل نوح، وكان الناس حديثى عهد، لم تنتشر بينهم الانحرافات، فلما اتسعت الرقعة، وتداخلت أمور الحياة احتاجت الخليقة لأنْ يرسل الله إليهم الرسل.


والحق سبحانه يأتى بهذه اللقطة الموجزة من قصة نوح -عليه السلام- مع أن له سورة مفردة، وله لقطات كثيرة منثورة فى الكتاب العزيز، لكن هذه اللقطة تأتى لنا بالبداية والنهاية فقط وكأنها برقية (تلغرافية) فى مسألة نوح: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ...».إذن: الرسول جاء من القوم، وهذا يعنى أنهم يعرفونه قبل أن يكون رسولاً، ويُجرِّبون سلوكه وحركته فى الحياة، ويعرفون خُلقه، ويعرفون كل تصرفاته، فليس الرسول بعيداً عنهم أو مجهولاً لهم.


لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جهر بالدعوة آمن به الذين يعرفونه عن قُرْب دون أنْ يسألوه عن معجزة تؤيده، بل بمجرد أنْ قال أنا رسول الله آمنوا به وصدَّقوه واتبعوه.


فسيدنا أبو بكر، هل سمع من رسول الله قبل أن يؤمن به؟ لا، إنما بمجرد أن قالوا له: إن صاحبك تنبأ قال: آمنت به، لماذا؟ لأنه يعرف له سوابق يبنى عليها إيمانه بصاحبه، فما كان محمد ليكون صاحب خُلق عظيم مع الناس، ثم يكذب على الله.


إذن: ففى كَوْن الرسول من قومه إيناسٌ للخَلْق؛ لذلك لما قالوا: لا نؤمن إلا إذا جاءنا الرسول ملكاً ردَّ عليهم: أأنتم ملائكة حتى ينزل عليكم مَلَك؟ «قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً» «الإسراء: 95». ولو فُرض أننا أرسلناه مَلَكاً أهم يروْن الملائكة؟ لا يروْنَها، فكيف إذن يُبلِّغ الملَك الناس؟ لابد أنْ يأتيهم فى صورة بشر، ولو أتاهم فى صورة بشر لقالوا نريد ملَكاً.
ونلحظ هنا «أَلْفَ سَنَةٍ...» ثم استثنى منها «إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً...» ولم يقُلْ خمسين سنة، فاستثنى الأعوام من السنين، ليدلَّك على أن السنة تعنى أيَّ عام، ويُرفَع الخلاف؛ لأن البعض يقول: إن السنة هى التى تبدأ من أول المحرم إلى آخر ذى الحجة، فى حين أن السنة ليس من الضرورى أنْ تبدأ بالمحرم وتنتهى بذى الحجة، إنما تبدأ فى أى وقت وتنتهى فى مثله بعد عام كامل.


وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يُعْلمنا أن السنة هى العام، لا فَرْق بينهما، ولا داعى للجاج فى هذه المسألة.
ثم يذكر سبحانه نهاية هؤلاء القوم الذين كذّبوا: «فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ»، فالعلة فى أخذهم، لا لأنهم أعداء، بل لأنهم ظالمون لأنفسهم بالكفر، وهكذا تنتهى القصة أو اللقطة فى آية واحدة الغرض منها تسلية النبى صلى الله عليه وسلم، إنْ أبطأ نَصْره على الكفار.
وكلمة «فَأَخَذَهُمُ...» الأخْذ فيه دليل على الشدة وقوة التناول، لكن بعنف أو بغير عنف؟ إنْ كان الأخذ لخصْم فهو أخْذ بعنف وشدة، وإنْ كان لغير خَصْم كان بلطف.


والطوفان: أن يزيد الماء عن الحاجة الرتيبة للناس، فبعد أنْ كان وسيلة حياة، ومنه كل شيء حتى يصبح وسيلة موت وهلاك، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يلفت أنظارنا إلى المتقابلات فى الخَلْق حتى لا نظنَّ أن الخَلْق يسير برتابة.. فسيدنا موسى -عليه السلام- ضرب البحر بالعصا، فتجمَّد فيه الماء حتى صار كالجبل، وضرب بها الحجر فانبجس منه الماء.


إنها طلاقة القدرة التى لا تعتمد على الأسباب، فالمسبِّب هو الله سبحانه يفعل ما يشاء، فليست الأشياء بأسبابها، إنما بمراد المسبِّب فيها.