عاجل

قصص القرآن.. معركة الروم والفرس

الشعراوي
الشعراوي

يقول الحق تعالى فى سورة الروم:«غُلِبَتِ الرُّومُ » وكلمة «غُلِبَت» تدل على وجود معركة غلب فريقٌ، وغُلب فريق، فالذى غُلب هنا الروم، وكانوا أهل كتاب ومقرهم الشام وعراق العرب، فالعراق منها قسم ناحية العرب، وقسم ناحية فارس، والروم نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم.» فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» قوله «أَدْنَى...» يعني: أقرب لأرض العرب، أى أقرب أرض للجزيرة العربية.
وفى قوله سبحانه:»وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» بشرى للمسلمين، فالفرس قوم كانوا يعبدون النار، أما الروم فأهل كتاب، إذن: فالخلاف بيننا وبين الفرس فى القمة الإلهية، أمَّا الخلاف بيننا وبين الروم ففى القمة الرسالية، فَهُم أقرب إلينا؛ لأنهم يؤمنون بإلهنا، وإنْ كانوا لا يؤمنون برسولنا.
وهذا من عظمة الإسلام، فالذى يؤمن بالإله أقرب إلى نفوسنا من الذى لا يؤمن بالإله؛ لأنه على الأقل موصول بالسماء؛ لذلك لما غُلِبت الروم فرح كفار قريش وحزن المؤمنون، وفرح كفار قريش لأن فى هزيمة الروم دليلاً على أن محمداً وأصحابه سينهزمون كأصحابهم. وكلمة «غَلَبِهِمْ...» مصدر يُضاف للفاعل مرة، ويُضاف للمفعول مرة أخرى، تقول أعجبنى ضَرْبُ الأمير مذنباً، فأضفت المصدر للفاعل. وتقول: أعجبنى ضَرْب المذنب فأضفتَ المصدر للمفعول، وكذلك هنا غَلَبِهِمْ مصدر أضيف إلى المفعول.لكن لماذا قال سبحانه: «سَيَغْلِبُونَ» وجاء بالسين الدالة على الاستقبال، ثم قال بعدها «فِى بِضْعِ سِنِينَ» وهى أيضاً دالة على الاستقبال؟ قالوا: لأن الغلبة لا تأتى فجأة، إنما لابد لها من إعداد طويل وأَخْذ بأسباب النصر، وتجهيز القوة اللازمة له، فكأنهم فى مدة البضع سنين يُعدون للنصر، فكلما أعدوا عُدَّة أخذوا جزءاً من النصر، فالنصر إذن لا يأتى فى بضع سنين، إنما من عمل دائم على مدى بضع سنين.
فهتلر مثلاً لما انهزم فى الحرب العالمية، وتألَّبتْ عليه كل الدول، جاء فى عام 1939 وهدد العالم كله بالحرب، فهل سقطت عليه القوة التى يهدد بها فجأة؟ لا، بل ظل عدة سنوات يُعد العدة ويُجهِّز الجيش والأسلحة والطرق إلى أنْ توافرتْ له القوة التى يهدد بها.
وقوله تعالى: «فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ » أثارت فرحة الكفار حفيظة المؤمنين، إلى أنْ نزلت «وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» ففرح المؤمنون حتى قال أبو بكر: والله لا يسرُّ الله هؤلاء، وسينصر الروم على فارس بعد ثلاث سنين.
لأن كلمة بضع تعنى من الثلاثة إلى العشرة، فأخذها الصِّدِّيق على أدنى مدلولاتها، لماذا؟ لأنه الصِّديق، والحق سبحانه وتعالى لا يُحمِّل المؤمنين مشقة الصبر مدة التسع سنين، وهذه من الصديقية التى تميز بها أبو بكر رضى الله عنه.
لذلك قال أبو بكر لأُبيِّ بن خلف: والله لا يقرّ الله عيونكم- يعني: بما فرحتم به من انتصار الكفار- وقد أخبرنا الله بذلك فى مدة بضع سنين، فقال أُبيٌّ: أتراهنني؟ قال: أراهنك على كذا من القلائص- والقلوص هى الناقة التى تركب- فى ثلاث سنين عشر قلائص إن انتصرت الروم، وأعطيك مثلها إن انتصرت فارس.
فلما ذهب أبو بكر إلى رسول الله، وأخبره بما كان قال: (يا أبا بكر زِدْه فى الخطر ومادِّه)، يعنى زِدْ فى عدد النوق من عشرة إلى مائة وزده فى مدة من ثلاث سنين إلى تسع، وفعلاً ذهب الصِّديق لأبيٍّ وعرض عليه الأمر، فوافق فى الرهان على مائة ناقة.
فلما اشتدّ الأذى من المشركين، وخرج الصَّدِّيق مهاجراً رآه أُبيُّ بن خلف فقال: إلى أين أبا فصيل؟ وكانوا يغمزون الصِّدِّيق بهذه الكلمة، فبدل أن يقولوا: يا أبا بكر. والبَكْر هو الجمل القوى يقولون: يا أبا فصيل والفصيل هو الجمل الصغير- فقال الصِّديق: مهاجر، فقال: وأين الرهان الذى بيننا؟ فقال: إن كان لك يكفلنى فيه ولدى عبد الرحمن، فلما جاءت موقعة بدر رأى عبد الرحمن أُبياً فقال له: إلى أين؟ فقال: إلى بدر، فقال: وأين الرهان إنْ قتلْتَ؟ فقال: يعطيك ولدي.
وفى بدر أصيب أُبيٌّ بجرح من رسول الله مات فيه، وقدَّم ولده الجُعْل لعبد الرحمن، فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (تصدقوا به).