كتب : محمد بركات
يعد الشيخ محمد رفعت أحد أيقونات تلاوة القرآن الكريم، تميز بتعدد طبقاته، واتساع مساحته، وقدرته على اختراق القلوب والاستقرار فيها، لدرجة كان وهو يقرأ يبكي تأثرا، حتى إنه انهار ذات مرة وهو فى الصلاة عندما كان يؤم المصلين، إذ كان يتلوا آية فيها موقف من مواقف عذاب الآخرة، بدأت شهرته حينما تولى القراءة رسميا بمسجد فاضل باشا بحى السيدة زينب عام 1918، وكان فى سن الـ15 من عمره، فبلغ شهرة عالية، وكان الالتفاف حول صوته آنذاك من ملامح ليالى ثورة 1919.
بعد أن أذابت الفوارق بين طوائف الشعب المصرى المختلفة، فقد استمع الأقباط إلى صوت ارفعتب بشغف وإعجاب شديد، فمنذ أن بدأ مسيرته مع تلاوة القرآن الكريم وضعه محبوه في مرتبة عالية لم يصلها أحد من القراء بعد رحيله، جعل للقرآن معنى آخر فى أذن المستمعين وزاد بتلاوته حلاوة أخرى بصوته الرائع الفريد، ورغم مرور أكثر من70 عاما على وفاته، لا يزال صوته جزءا من الطقوس الرمضانية التي تسبق رفع الأذان قبل الإفطار عند صلاة المغرب، فاستحق أن يطلق عليه محبوه اقيثارة السماء.
اعتصم بالقرآن
ولد الشيخ محمد رفعت في 9 مايو عام 1882، بدرب الأغوات بحي المغربلين بالقاهرة، وسط عائلة تنتمى إلى عائلات الطبقة الوسطى، تلقى الدروس الدينية وحفظ القرآن الكريم في كُتاب ابشتاكب، الملحق بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب، وذلك تمهيدا لالتحاقه بالأزهر الشريف قبل ظهور الجامعة المصرية 1908، وبعد 6سنوات، رشحه شيخه لإحياء الليالي في الأماكن المجاورة القريبة، فدرس علم القراءات والتجويد لمدة عامين على يد الشيخ عبدالفتاح هنيدي، صاحب أعلى سند في وقته، ونال إجازته، ولكن حين توفي والده محمود رفعت، مأمور قسم شرطة الجمالية، وكان حينها فى عمر الـ9 سنوات، وجد نفسه يتيماً مسؤولاً عن أسرته المكونة من والدته وخالته وأخته وأخيه وأصبح هو عائلها الوحيد، فلجأ إلى القرآن يعتصم به ولا يرتزق منه، وبعد أن كانت النية تتجه إلى إلحاقه للدراسة في الأزهر، بدأ وهو في الـ14 من عمره في إحياء بعض الليالي في القاهرة، بترتيل القرآن الكريم، وبعدها صار يُدعى لترتيل القرآن في القرى والنجوع.
الاذاعه المصريه
افتتح الشيخ ارفعتب بث الإذاعة المصرية سنة 1934م، وانطلق صوته عبر أثيرها مغردًا بكلمات الله وآياته البينات وتم التعاقد معه للقراءة لمدة سنتين،لا سيما فى رمضان حيث كان يتلو تلاوتين يوميًا على الهواء فيما عدا يوم الأحد، وكان يقرأ القراءة الأولى من الساعة التاسعة وحتى العاشرة إلا الربع مساءً، والثانية من الساعة العاشرة والنصف وحتى الحادية عشرة والربع مساءً، ليكون الصوت الأول الذى يخرج من الإذاعة المصرية، بعد أن تم الحصول على فتوى من شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم، بعد أن إفتتحها ارفعتب بالآية الأولى من سورة الفتح اإنا فتحنا لك فتحا مبيناب، ثم طلبت منه الإذاعة البريطانية ابي بي سيب العربية تسجيل القرآن الكريم بصوته، ولكنه رفض ظنا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي، فشرح له الأمر، وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم، اما معظم تلاوت الشيخ محمد كانت بمسجد فاضل باشا فى القاهرة، يقصده الناس هناك للاستماع إلى تلاواته حتى الملك فاروق، وبعد موت الزعيم سعد زغلول، حرص مصطفى النحاس باشا على الصلاة في المساجد التي كان الشيخ رفعت يقرأ القرآن فيها، وكان فى الصيف يتلو القرآن فى جامع المرسى أبو العباس فى الإسكندرية، وكانت جماهير المسلمين في مصر والعالم العربي والإسلامي تنتظره.
صوت قوي
اهتم الشيخ محمد بمخارج الحروف بكشل كبيرًا جداً ، أعطى كل حرف حقه، ليس كى لا يختلف المعنى فقط، بل لكى يصل المعنى الحقيقى إلى صدور الناس، وكان صوته حقًا جميلًا رنانًا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف، امتلك الشيخ محمد رفعت طاقات صوتية هائلة، جعلته يستطيع الانتقال بسلاسة شديدة بين المقامات أثناء تلاوته القرآن الكريم، ليس هذا فحسب، بل إنه امتلك القدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فيعلم متى يبكيهم، ومتى يبهجهم من خلال آيات الترغيب والترهيب فى كتاب الله، عز وجل، فقد أوتى مزمارًا من مزامير داود، وإذا ما وضعنا جماليات الصوت جانبًا لننتقل إلى قوته، فإن صوته كان قويًا لدرجة أنه يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من ٣ آلاف شخص فى الأماكن المفتوحة، كان محافظًا على صوته يتجنب نزلات البرد والأطعمة الحريفة ولا يدخن ولا يتناول طعام العشاء.
تسجيلاته
على الرغم من كون الشيخ رفعت أول من افتتح أثير الإذاعة المصرية ، إلا أنه ما زال لم تصل إلينا تسجيلاته القرآنية الجميلة كاملة، وبجهود محبيه استطاعوا أن يجمعوا عدد لا بأس به من الأسطوانات التى تضم 19 سورة ، وأعادوا تسجيلها وقدمت للإذاعة فى مطلع الستينيات، كانت جميعها من تسجيل أحد أكبر محبيه، وهو زكريا باشا مهران ، فكان يحب الشيخ رفعت دون أن يلتقى به، وحرص على تسجيل حفلاته التى كانت تذيعها الإذاعة المصرية على الهواء،واشترى لذلك اثنين من أجهزة الجرامافون من ألمانيا، وعندما علم بمرض الشيخ رفعت أسرع إلى الإذاعة حاملًا إحدى هذه الأسطوانات، وطلب من مسئولى الإذاعة عمل معاش للشيخ رفعت مدى الحياة، وبالفعل خصصت الإذاعة مبلغ ١٠ جنيهات معاشًا شهريًا للشيخ رفعت، ولكن الشيخ توفى قبل أن يتسلمه، وتبرعت عائلة زكريا باشا بالأسطوانات لكى تُنشر، وقد حصل عليها ورثة الشيخ محمد رفعت بعد وفاة زكريا باشا مهران من زوجته ، فلولا هذه التسجيلات لفقد تراثه إلا من ٣ تسجيلات تحتفظ بها الإذاعة، ولم تكن لتلك الأسطوانات أثرها فى حياة الشيخ فقط، بل زكريا باشا المُحب، الذى سجل دون معرفة شخصية أو رؤية للشيخ رفعت.
ليالي رمضان
عندما تولى الملك فاروق عرش مصر، نصحه الشيخ المراغي الذي كان محبا لصوت الشيخ محمد رفعت بالتواجد في الليالي التي كان الشيخبرفعتب يقوم فيها بقراءة القرآن الكريم، وكان من تقاليد تلك الأيام أن تنقل الإذاعة احتفالا يوميا في قصر عابدين، لقراءة القرآن الكريم خلال ليالي رمضان، وعلى الرغم من الشهرة التي حققها، إلا أنه استمر في قراءة القرآن في مسجد الأمير مصطفى فاضل حتى اعتزاله، من باب الوفاء للمسجد الذي شهد ميلاده في عالم القراءة منذ الصغر، فدائما كان يتعامل مع صوته كهبة من الله، على الرغم من أنه كان صاحب الأجر الأعلى بين مقرئي عصره، وكان أجره الأعلى حتى مقارنة بمطربي عصره محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، فقد كان يحصل وحده على 100 جنيه مصري مقابل إحياء ليلة العزاء وليالي رمضان، إلا أنه كان يقرأ في مساجد حي السيدة زينب يوميا لعموم الناس الذين صانوا تراثه في التلاوة مجانا.
وفاته
أصيب الشيخ محمد رفعت بمرض نادر في حنجرته، أدى لاحتباس صوته إلى الأبد من عام 1943، أنفق كل ما يملك على العلاج دون جدوى، لكنه لم يمد يده إلى أحد، حتى إنه اعتذر عن قبول المبلغ الذي جمع له في اكتتاب ابحدود 50 ألف جنيهب لعلاجه، رغم أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج، وكان جوابه كلمته المشهورة اإن قارئ القرآن لا يُهانب، وحين مات، اعتمدت الإذاعة على فيض من التسجيلات ، وتوفي يوم 9 مايو 1950، وسيظل يحتل مكانة كبيرة في قلوب وعقول المسلمين، وسيظل صوته العذب يقصده المسلمون للتدبر فى آيات كتاب الله ، فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.