بعد وفاته.. ننشر أخر حوار لـ«الشيخ حافظ سلامة»

الشيخ حافظ سلامة
الشيخ حافظ سلامة

صوت نعيق الغربان يخترق الصمت، رجال المقاومة يتفقدون رفقاء السلاح، وحصر الشهداء ونقل جثامينهم الطاهرة من محيط قسم الأربعين، الأدخنة ما زالت تتصاعد من مدرعات ودبابات القوات الإسرائيلية التي ظنت أن بمقدورها دخول مدينة السويس واحتلالها يوم 24 أكتوبر، لكنهم فوجئوا بأنها مدينة باسلة يهاجم رجالها كالأشباح فأنزلوا فى قلوب المعتدين الخوف والرعب، ففروا وعادوا أدراجهم إلى خارجها وهم يجرون أذيال الخيبة.

برز دور الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة الشعبية في السويس، والذي سبق وأن شارك في معارك التحرير في فلسطين مع قوات الدفاع المدني والشعبي في الحرب العالمية الثانية، رفض الزواج واعتنق المقاومة رفيقا لحياته ورغم تقدمه في العمر والذي تجاوز التسعين عاما ما زال يتذكر ما حدث قبل ٤٦ عامًا يومي ٢٤ و٢٥ أكتوبر ١٩٧٣.

اقرأ أيضا| وفاة الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة الشعبية في السويس

استهل الشيخ سلامة حديثه معنا قائلا إن ما حدث على أرض السويس في 24 أكتوبر، لم يكن إلا معجزة من الله على شعب مصر بأسره.

لأنه لا يمكن بكل القوانين البشرية أن نقول أن هناك جيش منظما يأتي لمدينة لاحتلالها يضم 6 ألوية مدرعة ومعهم 600 دبابة ومصفحة وسلاح الطيران، ويستطيع ردعه وهزيمته عدد قليل من المقاتلين البواسل من أبناء السويس يقدروا بالعشرات ومعهم بعض أفراد القوات المسلحة والذين كانوا يمثلون مؤخرات القوات التي عبرت إلى سيناء.

ويحكى «سلامة» أنه في 23 أكتوبر الموافق يوم 28 رمضان، جاءه الشيخ عبد الله رضا الواعظ التابع للأزهر الشريف، قادما من شركة السويس لتصنيع البترول، وأخبره أن القوات الإسرائيلية وصلت إلى مشارف السويس.

في تلك الأثناء، تلقيت اتصالًا من محمد عبد القادر، الموظف في شركة السويس لتصنيع البترول، ليخبرني بوصول أول القوات الإسرائيلية، إلى الشركة من طريق ناصر، يتبعها عدد من الدبابات والمدرعات لمحاولة دخول السويس من اتجاه الجنوب، كما أخبر ملازم من الجيش أن هناك مجموعة أخرى تم مشاهدتها، بطريق الإسماعيلية - السويس، لتدخل السويس من اتجاه الشمال، عبر مزلقان المثلث وكان الاتجاه الثالث الذي حدده غريب الجيوشي أحد المقيمين بحي الجناين عندما رأى القوات الإسرائيلية تسير بالطريق الموازى لقناة السويس وغايتها الوصول إلى المعبر والذي يقع في الوقت الحالي بمنطقة حوض الدرس وذلك بهدف حصار المدينة من ٣ جهات، شرقا وجنوبا وشمالا.

تلك الأنباء وصلت تباعا، فما كان من قائد المقاومة، إلا الخروج إلى أهالى المدينة والذين رفضوا التهجير وقرروا الدفاع عنها، بجوار عناصر الجيش المتواجدة بالمدينة وتحدث معهم عن الاستعداد لحمل السلاح، وتم تشكيل فرق ومجموعات لعمل كمائن بشوارع المدينة، لاستقبال الدبابات والمصفحات الإسرائيلية عند وصولها صباح اليوم التالي للمدينة.

وفي تلك الليلة لم يتذوق رجال السويس النوم ويضيف الشيخ سلامة انه كان يمر على أعضاء المقاومة الشعبية في الشوارع، ليطمئن على الكمائن، وطالبهم بعدم إطلاق أى طلقة واحدة حتى دخول القوات الإسرائيلية إلى داخل المدينة، حتى لا يشعروا ان هناك من يستعد لمواجهتهم.

ووضع قائد المقاومة رجالا يكونوا عيونا له في كل محور من المحاور ووزع الفدائيين من منظمة سيناء العربية مع أفراد القوات المسلحة، ليتصدوا لهذا الهجوم الوشيك، حتى وصلت هذه القوات إلى مشارف المدينة تمهيدا لدخولها فى الحادية عشرة صباحا وتمركزت أمام قسم الأربعين، كما أن «قول» من الدبابات الشيرمان، والمصفحات مكون من 7 دبابات أحاطوا بمسجد الشهداء، وديوان عام المحافظة، وجاء إلى المسجد مصفحة بها 6 أفراد وتوقفوا أمامه، وطلبوا من الموجودين داخل المسجد عبر مكبر الصوت التسليم والخروج من المسجد الذي كان مقرا للمقاومة والفدائيين.

ويروي الشيخ سلامة أن العدو هدد باقتحام المسجد وقتل كل من كان فيه إذا لم يتم التسليم، وفى تلك اللحظات كان هناك كمين به ضابط وجندي ويحمل كل منهم «أر بي جي» فقام الضابط بإطلاق قذيفة على أحد الدبابات فأصابها. وكان ذلك سببا فى انسحاب جميع الدبابات المحاصرة لمسجد الشهداء والديوان العام، إلا أنهم فاجأوا الضابط بإطلاق النيران عليه فاستشهد وبعد وقت قليل حضر المجند إلى المسجد وأخبر سلامة باستشهاد الضابط.

ويصمت الشيخ حافظ ويرفع إصبعه وهو يقول : أقولها لله فردين فقط ملازم وجندي، استطاعا بفضل الله تبارك وتعالى فض حصار مكون من 7 دبابات ومصفحات كانت تريد احتلال مسجد الشهداء بمن فيه وكذلك مبنى المحافظة.

كان المشهد أمام قسم الأربعين، معركة حقيقية فرجال المقاومة تعاهدوا ألا تتقدم ألوية الجيش الإسرائيلي داخل المدينة، فظلوا متخفين ومع اللحظة الحاسمة خرجوا كالأشباح وهاجموا الدبابات والمصفحات.

ويقول سلامة إن الشرارة الأولى كانت للشهيد إبراهيم سليمان، دعا الله ثم كبر وأطلق قذيفة أر بي جي على أول دبابة في طابور المدرعات فتعطلت أمام قسم الأربعين وتوقف طابور المجنزرات وراءها. في تلك الأثناء هاجم رجال المقاومة تلك المجنزرات، حتى صعق العدو خوفا، وكانت التعليمات الواردة لهم بالاحتماء في أي مكان قريب ففروا الى قسم الأربعين، واختبئوا فيه، استمر قتال رجال المقاومة ومحاصرة القسم حتى غروب الشمس، وعندما حاول الشهيد إبراهيم سليمان دخول القسم، استشهد برصاصات العدو وهو على السور.

بينما استشهد الشهيد أشرف عبد الدايم أثناء دخول القسم من البوابة، واستشهد سعيد البشاتلي والسيد أحمد أبو هاشم فايز حافظ أمين وأشرف عبد الدائم، وشهداء أخرون صدقوا عهدهم مع الله.. وذكرت الصحف الإسرائيلية على لسان ضباطها وجنودها: «كنا نظن بعد دخولنا السويس، أنها مدينة أشباح، وفجأة انطلقت نيران من النوافذ والأبواب حتى أصبحت الشوارع كالجحيم».


يروى سلامة أبرز مشاهد يوم ٢٥ أكتوبر فيقول في صباح ذلك اليوم وصلت مجموعة جديدة من القوات الإسرائيلية إلى السويس، وتوجه قائدها «آريل شارون» إلى شركة السويس لتصنيع البترول بهدف التحدث مع حاكم المحافظة، ومطالبته بتسليم السويس.

وبالفعل دخل الشركة وطلب هاتف مكتب المحافظ اللواء بدوي الخولي عن طريق محمد عبد القادر موظف الشركة، فرد على الهاتف مسعد القفاص مصور المحافظة، وأخبره أن المحافظ موجود بمنزل مصطفى محمد على في سوق شميس.

واتصل محمد عبد القادر بالمحافظ في سوق شميس، وطالبه القائد الأسرائيلى شارون بتسليم السويس، إلا ان المحافظ طلب مهلة للرجوع للقيادة السياسية ليخبرهم بذلك ويرى رأيهم فى ذلك الشأن، لكن شارون رفض إعطاءه مهلة وأخبره ان عليه ان يحضر ومعه الحاكم العسكري وفي يدهم راية بيضاء، وإلا دك مدينة السويس بالمدافع.

واتصل المحافظ بالعميد عادل إسلام المستشار العسكري، على تليفون مسجد الشهداء حيث مقر الفدائيين، وأخبره بما دار بينه وبين القائد الإسرائيلي.. وتدخل الشيخ سلامة ورد على الإنذار الإسرائيلي، بان المقاومة الشعبية والفدائيين لن يسلموا، وعبر مكبرات الصوت قال لقائد قوات العدو « إن شعب السويس يرفض التسليم ونقول لكم، ان استطعتم أن تدخلوا المدينة مرة ثانية فأهلا وسهلا بكم، فان أرض السويس الطاهرة عطشى وفى حاجة إلى أن تروى من دمائكم مرة ثانية».

يؤكد سلامة انه استمر في ترديد هذا البيان، انتظارا لما سوف يقوم به شارون، ولكنه لازم الصمت، وقد ألقى الله تبارك وتعالى الرعب في قلبه ومن معه، وظنوا أن رجال السويس يمتلكوا أسلحة كثيرة ومصدر قوة وأن إمدادات كثيرة وصلت للسويس، بعدما تكبدوا خسائر بلغت 76 دبابة ومصفحة في 4 ساعات فقط.

ويكشف سلامة إن تعامله مع الإسرائيليين كان نابعا من خبرته في التعامل معهم، فيقول إن تهديداتهم إن لم تقابل بتهديد أخر أقوى كان من الممكن أن يدخلوا السويس ويأخذوا من فيها بين قتلى وأسرى.

وأشار سلامة انه عندما جاءت القوات الدولية من جهة مزلقان المثلث، كان لديه علم مسبق، بوصولها فأعطى تعليماته بالسماح لها بالدخول، إلا أن القوات الإسرائيلية أرادت أن تأخذ مراكز جديدة لها لتدعى أنها مسيطرة على السويس. .وتحدث سلامة لقائد قوات الطوارئ، واخبره ان القوات الاسرائيلية تقدمت مرة أخرى داخل السويس في حمايتهم، لكن القائد رد، أننا جئنا لنقف بينكم، وبينهم، ولم نأت للتصادم أو التدخل عسكريا. طلب سلامة من رجال المقاومة التجمع بأسلحتهم، وأطلقوا ضربة نيرانية موحدة.

وما أن أطلقوا هذه الدفعة النيرانية من حوالي 50 أو 60 فردا دفعة مرة واحدة إلا وفر الإسرائيليون هاربين، وبذلك استطعنا أن نردهم بعيدا عن المراكز التي احتلوها بعد دخول القوات الدولية.