لحظة وعى

سلمى قاسم جودة تكتب : موت الكتابة.. وتوحش الدراما

سلمى قاسم جودة
سلمى قاسم جودة

الجريمة بكل أشكالها.. الشهوة الكئيبة.. الانحراف.. الشخصيات الشائهة، هى الكوكتيل الجهنمى المهيمن على أغلب الدراما التليفزيونية الرمضانية، فيبدو أن مهمة الفن صارت إبراز أسوأ مافى البشر، إيقاظ الغريزة لتتجلى فى أقبح وأخطر صورها، المهم إشعال الصدمة وتابعها الإثارة بأى ثمن ولتكن الحلقة الأولى حافلة بالطعنات، بالحرق، القتل، تعاطى المخدرات ودروس فى كيفية «الشم»، الاغتصاب، فالمدمنة، البلطجي، السادى والسيكوباتى ضيوف رمضان، لتحاكى الشاشة صندوق بندورا للشرور ولترسخ الانتقام، الغل المتعملق والكراهية بكل صنوفها، يقول غاندى «عين بعين يخلق عالما من العميان».

التطبيع مع القبح الخيانة العنف بل الوحشية أصبحت الركائز الأساسية للدراما وكأن مصر ليست إلا صفحة الحوداث ينهلون منها بنهم، ويتم اختزال هذا البلد الكبير، العظيم فى حفنة وباقة من الجرائم بدافع التلمظ للمكسب واستجداء الإثارة والتشويق، فكل القضايا النبيلة والصراعات الوجودية للحياة تشحب وتندثر أمام الغواية الرجيمة للنجاح الزائف والزائل والمريب ولا أحد ينشد الفن المباشر ولكن المغالاة، الفجاجة، الاستسهال وغياب الإتقان، الرسالة، المنطق بفعل ضمور الموهبة يجعل النصوص مهترئة، تعربد من خلالها ذائقة التعطش للدماء وإلحاق الأذى بأقرب الناس فى مواقف مفتعلة يغلب عليها اللا منطق، ليشعر المشاهد المغلوب على أمره، المحاصر، الفريسة السائغة لتغييب الوعى أنه قريب من نهاية العالم وإرهاصات القيامة، فتلك الأجواء القياماتية حيث الأبناء يفتكون بالأهل والأشقاء، ينهشهم الحقد تجاه بعضهم البعض، فأنت عزيزى المشاهد أقرب إلى جحيم دانتى ومن لن ينجح فى إبراز مواهبه فى الذبح، الطعن والحرق فى الحلقة الأولى سوف يسقط ويخرج من السباق الرمضانى ليصبح مهزوما، ملفوظا وربما يلتصق به الفشل إلى الأبد ويُطرد من الماراثون المحموم، ففى «لحم غزال» لغادة عبدالرازق وهى ممثلة جيدة يباغتك العنف، التوحشى والإدمان من أول لحظة، فالأجواء الغامضة المشحونة بالإثارة طاغية، فنحن فى سوق المدبح حيث أحشاء الحيوانات معروضة فى ديكور يميل إلى سوق «الهال» «Halle» بباريس والشقة الشعبية تغمرها الأضواء الوردية، الخافتة للأباجورات لتغوص فى خضم ذائقة جمالية تجنح إلى التغريب.. «اللى مالوش كبير» خالد الصاوى النجم رائع الأداء هو هذه المرة الزوج الملياردير السادي، السيكوباتى فى مواجهة البلطجى المتميز أحمد العوضى والجميلة ياسمين عبدالعزيز، فالانتقال إلى «الطاووس» جريمة الاغتصاب الجماعى المستوحاة من واقعة زلزلت المجتمع المصرى، الجانب الإيجابى ظهور الرائعة دوما سميحة أيوب، والحضور الطاغى لجمال سليمان، والأحداث تدور فى الإسكندرية وجاذبيها تكمن بالنسبة لى فى أنها عاصمة الحنين، أما «حرب أهلية» ليسرا فهو تكرار واستهلاك للنجاح المدوى لـ«فوق مستوى الشبهات» ثم الأقل «خيانة عهد»، وذات التيمة الغل الذى ينهش العائلة الواحدة، ولا صوت يعلو فوق صوت الثأر، وهنا المشاهد منزوعة المنطق، فالسيدة الطبيبة تفتح الخزنة المكتظة بالأموال أمام السباك وسلسلة من المواقف العبثية، وهذا لا علاقة له بأداء يسرا وإطلالتها البديعة، تواجد الزواحف والوحوش الضارية هو بطبيعة الحال شيء لزوم الشيء.

وأتساءل بحيرة موجعة: لماذا غياب أى سيرة ذاتية، أين النصوص الأدبية أو أى إضافة للمشاهد، وخاصة فى قلب هذا الموات للكتابة، فلا يوجد أسامة أنور عكاشة، محمد صفاء عامر، وحيد حامد، لينين الرملي، محفوظ عبدالرحمن، محمد جلال عبدالقوى، لماذا هو غير موجود، فقر المشهد الإبداعى يثير الأسى والخطر فتأثير الدراما فادح السرعة هو ليس كالتعليم يحتاج إلى سنوات هل تلك الكتابة الضحلة، الغارقة فى استلهام الشرور تتم مثلا فى ورشة واحدة؟ مكان واحد يتناوب عليه هؤلاء بالليل والنهار فالتشابه الجلى فى كل شيء ينضح بشيء ما غريب ومريب، فالبطل فى أغلب الأعمال هو يبزغ مايسمى بالرباعية المظلمة وهى تحتوى على شخصية: النرجسي، المكيافللي، السيكوباتى والمضطرب عقليا، أما ما أسعدنى هو إيقاف «الملك» المأخوذ عن كفاح طيبة لنجيب محفوظ حيث تحول الفراعنة بفعل الاستسهال، التجهيل والاستهزاء بالتاريخ البحث والمعرفة إلى دواعش، أو أبوجهل وأبولهب أصحاب اللحى وأحيانا التغريب لتقذف بك المشاهد إلى أفلام Brave heart «Troy» وتروى كتب نجيب محفوظ فى «كفاح طيبة»: «نحارب حتى نصد العدو عن حدودنا، وإذا شاء مولانا حاربنا حتى نحرر الشمال ونجلى عن أرض النيل آخر رجل من الرعاة البيض ذوى اللحى الطويلة القذرة».

ولقد ثبت بعد الحفل المهيب للمومياوات أن مقولة الجمهور عايز كده أكذوبة خبيثة، فالناس تسعى دوما إلى الإبداع الراقى منذ نشوة العوام عند سماع القصائد يتغنى بها محمد عبدالوهاب وأم كلثوم.