أيام وليالى فى الملجأ

هنا عاش.. «العندليب الأسمر»!

جانب من المتطوعين لخدمة الأطفال
جانب من المتطوعين لخدمة الأطفال

هنا عاش وتعلم "العندليب الأسمر"!.. فى مؤسسة تربية البنين التابعة لدار رعاية أيتام الزقازيق كانت الخطوات الأولى لعبدالحليم حافظ حيث التحق بالمدرسة التابعة بها وذلك خلال مراحل طفولته المبكرة، ليقضى فيها تسع سنوات كاملة، ويتعلم العزف، وتزامناً مع ذكرى وفاته فى ٣٠ مارس ١٩٧٧، تسرد «آخر ساعة» حكاية أشهر يتيم مع الملجأ، وكيف كانت تفاصيل أيامه هناك؟!..وما حال تلك الدار الآن؟!.. 

تفاصيل أول قصة حب فى حياة عبدالحليم حافظ

كان يكره الغناء فى حفلات الملجأ!

فى بداية أحد أيام فصل الخريف، كان "القطار القشاش" يتأرجح بركابه القادمين من مختلف قرى وكفور الشرقية إلى مدينة الزقازيق ومن بينهم "متولى عماشة" الذى كان مستغرقا فى عالم آخر يفكر فى حاله وظروفه الصعبة التى تجعله عاجزاً عن الإنفاق على أربعة أطفال أيتام تركتهم أخته والتى توفيت بعد عدة أيام من ولادتها لأصغر أبنائها قبل أن يلحق بها الزوج بعدة أشهر.. قبل أن يفيق على طلب ابن أخته ــ الذى أصبحت سنه 5 سنوات ــ أن يشترى له قطعة عسلية من البائع الذى يجوب عربات القطار.
فى ضواحى الزقازيق.. وتحديداً بطريق هرية رزنة القديم، عبر "الخال متولي" البوابة الحديدية لأحد المبانى الكبيرة الذى كان يلهو أمامه مجموعة من الأطفال الصغار بينما كان الطفل الصغير "حليم"- الذى كان يرتدى بنطلونا قصيرا كاكيا وقميصاً أبيض- يمسك بيد خاله بينما فى يده الأخرى يمسك بعسلية خطفها منه طفل آخر جرى وراءه "حليم" حتى احتمى الطفل برجل تبدو القسوة على ملامحه، إنه المشرف على إدارة الملجأ، وفى دقائق قصيرة تم إنهاء اوراق التحاق الطفل وشقيقيه الصبيين بالمدرسة الملحقة بالملجأ، وفى أيام قليلة كانت الأسرة بالكامل تستقر فى الزقازيق فى بيت مجاور للملجأ والمدرسة.
وهكذا بدأت فى عام 1937 رحلة العندليب داخل ملجأ الأيتام، والحقيقة أن قصة إقامة وتربية عبدالحليم حافظ داخل ملجأ للأيتام لم تكن كما يتصورها البعض بل كانت إشاعة روج لها "العندليب" نفسه لكسب تعاطف الجماهير معه، حيث لم يكن أمام "الخال" الذى تعثرت ظروفه المادية مكان مناسب لتعليم ورعاية ابن أخته مع بقية أشقائه سوى إلحاقهم بالمدرسة كاملة اليوم حيث التعليم طوال اليوم وتوفير التغذية والرعاية الكاملة والتابعة لملجأ عبدالعزيز باشا وهو من أعيان الشرقية.
وأوقف عشرات الأفدنة من الأراضى والمنازل والمحلات للإنفاق على المحتاجين والفقراء وكان من بين ذلك إنشاؤه مدرسة لتعليم غير القادرين وملحق بها ملجأ لإقامة الأيتام وتوفير الوجبات الغذائية والملابس لهم.
أيام بدأت، وفى قلب الطفل "عبدالحليم" حنين جارف إلى قرية "الحلوات"، حيث كان المرح واللعب مع بقية الأطفال والسباحة فى الترعة والتعلم فى كتاب "الشيخ أحمد" الذى لم يكن أبداً فى قسوة مدير الملجأ الذى كان عنيفا للغاية ومعاونيه فى تصرفاتهم مع الطلبة، وهو ما ظل عالقا فى ذاكرة العندليب.
يقول عبدالحليم حافظ فى مذكراته: "لم يكن أحد يستطيع أن يميز لون أو شكل أو طعم أكل الملجأ يكفى أن أقول إن الأرز كان لونه بنياً أو أسود، وكان له زميل فى الملجأ يعمل فى محل يمتلكه المشرف على الملجأ وحدثت بينى وبينه مشاجرة، استجمعت فيها قواى الهزيلة وضربته، وهنا استنجد الولد بالمشرف الذى صفعنى على وجهى ووقعت على رجلى اليسرى وأصبت بها وظللت أمشى من مدرسة الملجأ حتى بيت خالي، وأنا أنظر إلى الأرض فلمحت عيناى ريال فضة ملقى على الأرض فرحت به ونسيت ألمى وحاولت إعطاء الريال الفضة إلى أختى علية لكنها رفضت، فاشتريت به حلوى وأعطيتها لزملائى اليتامى، أما حفلات الملجأ التى كنت أغنى فيها فكنت أكرهها لأن الحاضرين كانوا يختارون بعض الموجودين فى الملجأ ممن لا أهل لهم للعمل كخدم، كما كنت أكره دخول دورة المياه لأننى كنت ألاحظ نزول بعض قطرات الدماء نتيجة إصابتى بالبلهارسيا بعد أن أقضى حاجتى خوفا من أن تعرف أختى فتخبر أخى إسماعيل الذى سيصحبنى إلى المعمل الطبى ويوخزنى بالإبر التى أكره مفعولها من قيء وألم..
وحتى ما يفترض أنها قصة حب كانت مجرد كذبة اخترعها خيالى لأثير غيرة زملائي، حيث كذبت عليهم وأخبرتهم بأنى على علاقة حب مع سيدة فى الثلاثين، وقلت لهم إنها احتضنتني، وإنها قبّلتني، وإنها تنتظر خمسة أعوام، حتى يمكن أن نتزوج، وضحك زملائى وسخروا مني، وأطلقوا على لقب "حبيب نعيمة" وكان هذا اسم السيدة التى اخترعتها لكن من سوء حظى أنه كان نفس الاسم لسيدة تسكن فى بيت مجاور للملجأ كما أن ابنها كان يلعب معنا، وقال له الأولاد حكايتى فضربنى علقة ساخنة..
الشيء الوحيد الجميل الذى كان يشدنى دائما هو حجرة الموسيقى، حيث كنت أنتظر الحصص المقررة للموسيقى بشغف شديد حيث كنت أستمتع بعزف الأستاذ محمود أفندى حقى مدرس الموسيقى الذى اختصنى برعايته وعلمنى العزف على الأدوات الموسيقية ودربنى على الغناء حتى التحقت بفرقة الإنشاد الدينى بالملجأ، وكان يجعلنى أغنى وباقى العيال يسمعون"..
 وتمر الأيام ويحصل العندليب على الشهادة الابتدائية من مدرسة الملجأ قبل أن يتركها ويترك الزقازيق بصحبة شقيقه إسماعيل إلى القاهرة ليستكمل بقية رحلة الحياة قبل أن تمر السنوات ويصبح نجما مشهورا، ومع شهرته بدأت شهرة الملجأ الذى درس فيه على الرغم من أن نفس المكان شهد البدايات الأولى لشخصيات حققت نجاحات فى الحياة ومن بينهم الشاعر أحمد فؤاد نجم..
والحقيقة أنها مجرد شهرة لم تعد بأى فائدة تذكر على الدار إلا فى المناسبات والمواسم، وتمر السنوات وللأسف الشديد تمر "دار تربية البنين والبنات" بسنوات طويلة من الإهمال، ومع تراجع تصنيفها فى عام 2019، إلى أن تقرر أن تتولاها مؤسسة تمكين ليتغير الحال ويقفز تصنيفها إلى "موجب٧٠" فى تصنيف دور رعاية الأيتام.
يقول المهندس عماد شطا، رئيس مجلس إدارة مؤسسة تمكين المسئولة عن دار تربية البنين والبنات، لقد تحملنا مسئولية الدار فى شهر مايو 2019، ومنذ اللحظة الأولى لعملنا واجهنا مشاكل وعقبات كثيرة.
تابع، بدأنا فى تنفيذ تدريب لكافة العاملين ووضع مهام جديدة من خلالها نستطيع أن ننهض بالمنظومة كاملة وفى التدريب تعرفنا عليهم جيدا وعرفنا من لديهم الرغبة فى العمل والإصلاح، كما تم عقد اجتماعات تأهيلية مع الأبناء وقمنا بتنفيذ الأنشطة الترفيهية والتهيئة النفسية والدينية والصحية، ومنحنا التعليم وتعديل السلوك لأبناء الدار الاهتمام الأكبر إلى جانب الاهتمام بهم سلوكيا وصحيا، حيث قمنا بعمل فحص طبى وتحاليل شاملة لهم وقمنا ببدء برنامج علاجى وصحى لهم وقمنا بدعوة متطوعين ومتبرعين لدعمهم وتأهيلهم نفسيا ودينيا وعلميا وصحيا وحياتيا لأن الدار قائمة على التبرعات وتم أخذ خطوات كبيرة للصيانة وتأهيل المبانى والغرف والأدوات والإمكانيات وبالفعل تم تغيير الدار جذريا فى الشكل والمضمون، ومن لم يكن لديه الاستجابة الكافية للتعليم قمنا بإعادة تأهيله مهنيا وتعليمهم الحرف التى تكفل لهم الحياة بكرامة، وقمنا بتوفير وتجهيز شقق لأبناء الدار ممن بلغوا السن القانونية الشباب من ٢١ إلى ٣٠ سنة بمعدل ٣ شقق لست أبناء وبالمناسبة بينهم إثنين اشتغلوا واعتمدوا على أنفسهم وتم صرف إعانة لكل شاب ١٠ آلاف جنيه ومصروف شهرى وتغذية بعد تأهيلهم وإعدادهم للانفصال عن دار الرعاية والبدء فى حياة جديدة بعيداً عن الدار.