ضوضاء

الموت الملعون

محمد عبد الفتاح
محمد عبد الفتاح

حينما سألت صديقى العازب عن حياته قال: لا شئ فى العزوبية يستحق أن يُروى، إنه فقط ذلك الظرف الذى يسمح لك بالتحرر من أى التزامات إلا تجاه نفسك.. سألته: ألم تسمع مقولة الأديب الفرنسى ميلان كونديرا بـ"أن التعاسة الأكبر للرجل تكمن فى زواج سعيد، حيث لا أمل فى الطلاق؟" ابتسم ابتسامة ساخرة، وبدلاً من أن يجيب سألنى هو: "أوتعلم من هو العازب يا عزيزي؟"، لم أجبه، فأكمل: "إنه الشخص الذى لا يعترف بوجوده أحد، إنه ذلك المتمرد اللاجتماعى الذى تتنزل عليه لعنات المجتمع التقليدى آناء الليل وأطراف النهار، إننى أتعجب من أولئك الذين يحسدونني، فأنا أعيش فى وحدة قاتلة لدرجة أننى فكرت فى الانتحار أكثر من مرة، ولكن ما منعنى من هذه الفكرة هو أنه لا أحد سيكترث بوفاتى على الإطلاق، ما يعنى أننى سأكون بموتى وحيداً أكثر مما كنت حياً".

وبعد برهة من الصمت حكى لى عن أصدقائه العزاب الذين سبقوه إلى الموت: كان موت أحدهم غير مثير لأدنى شفقة لا لأقربائه أو لأصدقائه، رغم أن ملامح وجهه تُظهر أنه عانى كثيرا من سكرات الموت، ولم يكن هناك من يبكيه بجوار سريره، بينما خادمته تفتش دولابه وتعد ما به من أموال قليلة، وينتظرها بمدخل العمارة أحد المتشردين وهو يطبق بشفتيه على سيجارة ببرود يكاد يُطفئ نارها.

الأعزب الذى يظن أن هناك من يحيط به بالفعل هو مخدوع فى حقيقة الأمر، وجسده مختوم بعملة لا قيمة لها، وبعد موته، فإن المقربين منه ليسوا حتى مضطرين لتمثيل كوميديا الحزن عليه. كما أنه ليس ضروريًّا تمثيل كوميديا الحزن، ولا داعى لاستكمال طقوس الحداد التى تصاحب الأموات فى المعتاد، فبمجرد موت الأعزب يصبح شيئًا غير مرئى.

هكذا هو الأعزب.. حينما يبلغ من العمر أرذله يُحيط به أناس غير مبالين به.. يترقبون موته لاقتناص إرثه، ويُظهرون له أسوأ ما فيهم حينما لا يموت بالسرعة المطلوبة. أما صديقه الآخر فبالكاد أسعفته أنفاسه الأخيرة ليخبر خادمته بأهم ما سيتركه خلفه: "أترين تلك الشقة المظلمة الباردة، وتلك الدواليب المفتوحة والأدراج المنهوبة، أترين تلك الأسمال البالية.. هناك كيس لحفظ الموتى".. فى رواية "الغثيان" للأديب الفرنسى جان بول سارتر، يقول رجل عجوز ناصحاً شاباً صغيراً: "تزوج يا صديقي، فإنك لا تعرف معنى أن تعيش وحيدًا فى مثل سني.. فحينما تكون عجوزًا سيكون من الجيد أن يكون لك أطفال".

عزيزى المتزوج، يا من تكالب عليه الأهل والأحباب والعادات والتقاليد ليفقدوه أعز ما يملك، يا من فقدت البهجة والحرية وضحكات العزوبية، فلتواسى نفسك بمشاهد موت العازب.. إنه الموت الملعون.