أطعمة تشعل الصراعات بين الدول

«حرب الأناناس» بين الصين وتايوان

حقـــق المزارعون التايوانيون أرباحــــــاً كبيرة من بيع الأناناس إلى الصين
حقـــق المزارعون التايوانيون أرباحــــــاً كبيرة من بيع الأناناس إلى الصين

كتبت: دينا توفيق

صراع سياسى وأزمة دبلوماسية.. عقوبات اقتصادية وحرب تجارية.. تحالفات دولية وأداة يمكن الضغط بها من أجل إحراز نصر فى السياسة الخارجية.. تصعيد وتلويح باستخدام نفوذها الاقتصادى المتنامى كسلاح.. تكتيكات اقتصادية واستراتيجية إعلامية أوسع لطى الحقيقة من قبل الصين.. ومن ناحية أخرى، تضامن من ديمقراطيات العالم مع ضحايا التنمر الاقتصادى فى بكين، وحملات دعم من أجل حرية الأناناس التايواني؛ لينضم إلى المواد الغذائية التى كانت سببًا فى اندلاع العديد من الحروب والثورات فى الماضي.

الأناناس هو أحدث منتج يصله نيران الصين، حيث تحولت علاقتها المتدهورة مع تايوان إلى التجارة. لسنوات، حقق المزارعون التايوانيون أرباحًا كبيرة من بيع الأناناس للمستهلكين الصينيين، مما أدى إلى توسيع حقولهم. حتى مع توتر العلاقات عبر المضيق، تجاهلوا التحذيرات بشأن اعتمادهم المفرط على السوق الصينية. وفى أغسطس الماضي، نفذت الصين سياسة التعريفة الصفرية تجاه مجموعة كاملة من الفاكهة التايوانية، بما فى ذلك جوز الهند والأناناس والمانجو. وانتهى كل ذلك هذا الشهر، بعد حظر الصين واردات الأناناس التايواني، وهو الإجراء الأحدث فى سلسلة الإجراءات العقابية التجارية ضد الديمقراطيات التى توضح كيف استخدمت الصين نفوذها الاقتصادى المتنامى كسلاح. وبصفتها أكبر شريك تجارى لتايوان، تشترى الصين أكثر من 90% من صادرات مزارعى الأناناس التايوانيين. وتشتهر تايوان، الجزيرة شبه الاستوائية بزرعة فواكه مزدهرة تم تطويرها عندما كانت مستعمرة يابانية. ويؤكد مجلس الزراعة التايوانى أنه من أكتوبر 2020 حتى الآن، اجتازت جميع أنواع الأناناس المصدرة من تايوان إلى الصين ضوابط السلامة. وانتقدت حكومة تايوان إشعار بكين المفاجئ ووصفه بأنه "ترهيب اقتصادي"، على غرار الحظر المفروض على النبيذ الأسترالى العام الماضي. 

فيما نفت الصين اتهامات تايوان بأن حظر الأناناس من الجزيرة يتعلق بالسياسة، قائلة إن الأمر يتعلق بالأمن البيولوجى فقط، فى حرب كلامية متصاعدة زادت من التوترات القائمة. وأعلنت الصين أن الحظر جاء بسبب "الآفات" التى يمكن أن تأتى مع الفاكهة، مما يهدد الزراعة فى البلاد، فيما تقول تايوان بالمقابل إنه لا عيب فى أناناسها وإن بكين تستخدم الفاكهة كطريقة أخرى لإكراه الجزيرة. 

وردًا على الحظر التجارى الصيني، أطلقت الحكومة التايوانية حملة عامة من أجل "حرية الأناناس" التى قوبلت بترحب ودعم. وأطلقت رئيسة تايوان "تساى إنج وين" تحدى الأناناس على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف دفع المستهلكين التايوانيين إلى شراء المزيد من الفاكهة وتناولها من أجل الوقوف فى وجه الصين. وكتبت تساى فى تغريدة لها على موقع التواصل الاجتماعى "تويتر": "بعد النبيذ الأسترالي، تستهدف الممارسات التجارية الصينية غير العادلة على الأناناس التايواني؛ ولكن هذا لن يوقفنا عن دعم مزارعينا واستمتع بالفاكهة التايوانية اللذيذة!" وسرعان ما انضم مستخدمو الإنترنت حول العالم لدعم المزارعين التايوانيين، ونشروا صورًا لكعكات الأناناس وأطباق أخرى الأناناس إحدى مكوناتها الرئيسية. وفى تايوان، ابتكر رواد المطاعم المبدعون أطباق الأناناس الجديدة، مضيفين الأناناس إلى المواد الغذائية الأساسية مثل حساء المكرونة باللحم البقري. وجاء التضامن من أجل "أناناس الحرية" من جميع أنحاء العالم، بما فى ذلك بريطانيا والدنمارك والهند والولايات المتحدة. ووفقًا لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، يشير رد الفعل السريع والعلنى للغاية ضد بكين إلى وجود شعور متزايد بالتضامن بين الديمقراطيات فى العالم مع ضحايا التنمر الاقتصادى فى الصين.

واتخذ الرئيس الأمريكى "جو بايدن" الخطوة الأولى للتصدى للنفوذ الصيني، وفى بيان مشترك، أعلن قادة الديمقراطيات الأربعة فى الحوار الأمنى الرباعي، أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، دعمهم لمنطقة المحيطين الهندى والهادئ "التى ترتكز على قيم ديمقراطية ودعم سيادة القانون وحرية الملاحة". ولتحقيق هذه الغاية، يبدو أن إدارة بايدن تتخذ أيضًا موقفًا مؤيدًا لتايوان بقوة، حيث قالت وزارة الخارجية الأمريكية فى بيان صدر فى يناير الماضى إن التزام واشنطن تجاه تايبيه "قوى للغاية".

ووفقًا للمجلة الأمريكية، فإن التكتيكات الاقتصادية لبكين ليست جديدة، لدى الصين تاريخ فى تهديد الصناعات فى البلدان التى تريد إكراهها. فى الخريف الماضي، فرضت الصين تعريفات جمركية باهظة على النبيذ الأسترالي، بعد دعوة أستراليا لإجراء تحقيق مستقل فى أصول فيروس كوفيد−19. كما أصبحت صناعة السلمون النرويجية أيضًا فى مرمى نيران الصين منذ عام 2010، عندما حصل الناشط الصينى فى مجال حقوق الإنسان "ليو شياوبو" بجائزة السلام. ولم تبدأ العلاقات فى التحسن إلا بعد توقيع الحكومة النرويجية على بيان مشترك مع الصين عام 2016 يعترف بمخاوف الأخيرة بشأن جائزة نوبل للسلام ويتعهد بعدم دعم الإجراءات التى تقوض "المصالح الأساسية للصين والمخاوف الرئيسية". وفى وقت سابق من هذا الشهر، أصدرت إدارة بايدن أجندة تجارية جديدة قائلة إنها ستستخدم ∀جميع الأدوات المتاحة" لمحاربة الممارسات التجارية غير العادلة للصين؛ ما هى الأدوات التى سيتم استخدامها، وتحت أى ظروف، وبأى طرق تظل جميعها أسئلة مفتوحة.

ولم تكن حرب الأناناس الأولى من نوعها، فى عام 2012 وبعد عقود من النزاع، انتهت الأزمة الاقتصادية الشهيرة والتى سميت بـ"حرب الموز" بين أوروبا من جهة والولايات المتحدة ودول أمريكا الجنوبية؛ وهى حرب سببها قيام دول الاتحاد الأوروبى بفرض رسوم جمركية مرتفعة على واردات الموز من مزارع شركات أمريكية فى أمريكا الجنوبية بينما تقدم تسهيلات كبيرة وتخفيضات فى الرسوم لواردات هذا المحصول من دول أفريقيا وجزر المحيط الهادى والكاريبى مما جعل أوروبا تواجه دعاوى قضائية وعقوبات اقتصادية من منظمة التجارة العالمية والولايات المتحدة. وفى عام 2012، وقع الاتحاد الأوروبى و10 دول من أمريكا اللاتينية اتفاقية لإنهاء ثمانى قضايا منفصلة لمنظمة التجارة العالمية رسميًا. ورغم أن هذا الاتفاق قد حل صراعا اقتصاديا طويل الأمد امتد لما يقرب من عقدين وحل أزمة عميقة بين الدول الأوروبية وواشنطن إلا أن هذا الاتفاق كان له تأثير على الدول الفقيرة التى تزرع الموز فى أفريقيا ومنطقة الكاريبى والمحيط الهادى وتعتمد عليه بشكل أساسى فى عائداتها الاقتصادية. لذلك نص القرار حينها على حصول الدول المتضررة على تعويضات بلغت حوالى 238.97 مليون دولار لمساعدتها فى توفيق أوضاعها. ويعد الموز أحد أهم الفاكهة التى يقبل عليها المستهلكون والتى تمثل ركيزة للأمان الغذائى العالمى ما جعلها واحدة من أكثرها رواجًا اقتصاديًا. ونظراً لأهمية هذا المحصول، فإن الصراع من أجل السيطرة عليه تجارياً كان فى غاية الشراسة، وصارت تجارة الموز فى العالم تمثل رمزاً للإمبريالية وعدم المساواة وعنواناً لعولمة الاقتصاد الزراعى؛ مما جعل تجارته تحتل المركز الرابع من حيث أعلى المعاملات التى تعانى من الفساد والأنشطة غير المشروعة.

ومن حرب الموز إلى قانون الشاى الذى يرجع إلى عام 1773، الذى كان أحد الإجراءات التى فرضتها الحكومة البريطانية المثقلة بالديون على المستعمرين الأمريكيين فى العقد الذى سبق الحرب الثورية الأمريكية (1775−1783). ولم يكن الغرض الرئيسى من القانون هو زيادة الإيرادات من المستعمرات ولكن لإنقاذ شركة الهند الشرقية المتعثرة، وهى جهة رئيسية فى الاقتصاد البريطاني. وحينها منحت الحكومة البريطانية الشركة احتكار استيراد وبيع الشاى فى المستعمرات. ولم يقبل الأمريكيون أبدًا دستورية واجب الشاي، وأعاد قانون الشاى إشعال معارضتهم له. وبلغت مقاومتهم ذروتها فى حفل شاى بوسطن فى 16 ديسمبر 1773، حيث صعد العديد منهم على متن سفن شركة الهند الشرقية وألقوا كميات من الشاى فى البحر. ورد البرلمان بسلسلة من الإجراءات القاسية التى تهدف إلى خنق المقاومة الاستعمارية للحكم البريطاني. وكان البرلمان قد ألغى عام 1770 جميع واجبات قانون "تاونزند" باستثناء تلك المتعلقة بالشاي، والتى تم الاحتفاظ بها كرمز لسلطة البرلمان على المستعمرات. أدت وفرة الشاى وتناقص الطلب عليه فى السوق الأمريكية إلى تعفن أطنان من أوراق الشاى فى مستودعاتها. وفى محاولة لإنقاذ المشروع ما يمكن إنقاذه، أقر البرلمان البريطانى قانون الشاى عام 1773. ومنح القانون الشركة الحق فى شحن شايها مباشرة إلى المستعمرات دون إنزاله أولاً فى إنجلترا، وتكليف وكلاء لديهم الحق فى بيع الشاى فى المستعمرات. احتفظ القانون بالرسوم المفروضة على الشاى المستورد بالسعر الحالي، ولكن نظرًا لأن الشركة لم تعد مطالبة بدفع ضريبة إضافية فى إنجلترا، فقد خفض قانون الشاى فعليًا سعر شاى شركة الهند الشرقية فى المستعمرات. وتسبب حفل شاى بوسطن فى أضرار جسيمة فى الممتلكات وأثار غضب الحكومة البريطانية. ورد البرلمان بالقوانين القسرية عام 1774، وتم إغلاق ميناء بوسطن حتى سدد المستعمرون تكلفة الشاى المدمر. واشتدت المقاومة الاستعمارية إلى أن أعلنت المستعمرات الأمريكية، بعد مرور ثلاث سنوات على إقرار البرلمان لقانون الشاي، استقلالها باسم الولايات المتحدة؛ وبدأت الثورة الأمريكية.

لم يتحكم البريطانيون فقط فى الشاى ولكن أيضًا فى الملح، حيث أبقت بريطانيا تجارة الملح فى الهند تحت سيطرتها منذ القرن التاسع عشر، ومنعت الهنود من تصنيعه أو بيعه وأجبرتهم على شرائه بتكلفة عالية من التجار البريطانيين. ونظرًا لأن الملح كان ضرورة غذائية فى مناخ الهند المشبع بالبخار، فقد رأى الزعيم الهندى "مهاتما غاندي" فى قوانين الملح شرًا لا يغتفر. وفى 2 مارس، كتب رسالة إلى نائب الملك البريطانى اللورد "إروين" وقدم مجموعة من الطلبات، من بينها إلغاء ضريبة الملح. ولكن تم تجاهله،  ووعد غاندى حينها بإطلاق حملة الإضراب السلمى "ساتياغراها". وفى فجر 12 مارس 1930، وضع خطته موضع التنفيذ، وانطلق سيرًا على الأقدام من الأشرم بالقرب من أحمد آباد مع عدة عشرات من رفاقه وبدأ رحلة برية إلى مدينة داندي. هناك، خطط لتحدى ضريبة الملح عن طريق جمعه بشكل غير قانونى من شاطئ البحر. كان من المتوقع أن يتم القبض عليه أو حتى تعرضه للضرب أثناء الرحلة، لكنَّ البريطانيين كانوا يخشون من رد فعل شعبى عنيف واختاروا عدم قمع المسيرة. بينما كان غاندى وأتباعه يتقدمون، انضم آلاف الهنود إلى صفوفهم، مما حول الكادر الصغير من المتظاهرين إلى مسيرة بطول أميال. وبدأت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية وغيرها من وسائل الإعلام فى متابعة تقدم المسيرة، نقلاً عن غاندى حيث ندد بضريبة الملح ووصفها بأنها "وحشية" ووبخ البريطانيين "لخجلهم من إلقاء القبض عليه". وتوافد المؤيدون عبر شبه القارة الهندية على شاطئ البحر لجمع الملح، وأخذت المرأة دورًا حاسمًا. ولكن تم القبض على غاندي، بعد أن أعلن عن نيته قيادة غارة سلمية على منشآت الملح الحكومية فى داراسانا. ورغم ذلك، تجاهل حوالى 2500 متظاهر تحذيرات الشرطة وقاموا بتقدم غير مسلح فى مستودع داراسانا. وكان رئيس وزراء بريطانيا "ونستون تشرشل" لم يكن من أشد المعجبين بغاندى إلا أنه اعترف لاحقًا بأن الاحتجاجات وما تلاها تسببت فى الإذلال والتحدى الذى لم يكن معروفًا منذ أن جاء البريطانيون لأول مرة على أرض الهند. ووافق اللورد إروين على التفاوض مع غاندى عقب إطلاق سراحه، وفى مارس 1931، توصل الاثنان إلى اتفاق غاندي− إروين، الذى أنهى ساتياغراها مقابل إطلاق سراح آلاف السجناء السياسيين. بينما حافظت الاتفاقية إلى حد كبير على احتكار راج للملح، حيث أعطت للهنود الذين يعيشون على السواحل الحق فى إنتاجه من البحر.