أبناؤهن مرضى بالتوحد والشلل الدماغى

أمهات محاربات

أمهات المجمع يستقبلن أطفالهن بالأحضان
أمهات المجمع يستقبلن أطفالهن بالأحضان

كتب: علا نافع              تصوير: عبدالمنعم ممدوح

فى عيد الأم تتوالى حكايات لأمهات مضحيات، بطلات حاربن لأجل مستقبل مشرق لأبنائهن رغم الظروف الصعبة، فخلف الأبواب المغلقة قصص وبطولات سطرتها دموعهن، وتأتى أمهات المعاقين وأطفال التوحد على رأس القائمة، سيدات عانين نبذ المجتمع ورفضه لفلذات أكبداهن، لم يهنأن برؤية أطفالهن يكبرون كباقى أقرانهم، بعضهن حرم من سماع كلمة "ماما"، وأكثرهن يقطع أميالا مع الابن المريض لمتابعة جلسات التخاطب والعلاج النفسى بمجمع الإعاقة الشامل فى "عين شمس"، ينتظرن على أحر من الجمر انتهاء الجلسات حتى يلمسن التحسن والتقدم الذى يحرزه الأطفال، لا يتوقفن عن التفكير فيما تحمله الأيام لهن ولأبنائهن المعاقين.

داخل المجمع الكائن فى شارع متحف المطرية والمقام على مساحة ألف متر، عشرات الأمهات يدخلن ويخرجن طوال ساعات عمله السبع كأنه خلية نحل، فالعمل مقسَّم لفترتين صباحية ومسائية، لاستيعاب أعداد المرضى التى تتضاعف بمرور الأيام.

ثلاثة مبانٍ كبرى تخدم أطفال الشلل الدماغى وتقدم لهم جلسات التخاطب والعلاج النفسى بأسعار بسيطة، وكذلك أطفال التوحد الذين تختلف أعمارهم ونسب تأخرهم العقلي، ناهيك بـ"الحضانة الدامجة" التى تعمل على دمج الأطفال الأصحاء مع المعاقين لرفع مستواهم العقلى وتدريبهم على تحمل المسئولية.

فى حديقة واسعة بها عدة كراسي، تجلس الأمهات فى انتظار انتهاء أو بداية جلسات العلاج، يتشاركن الهموم والمسئولية، يتبادلن أطراف الحديث عن طبيعة المرض وأعبائه، جمعت الصداقة بعضهن، فكلهن فى الهم سواء، يلقين بالتحيات على أخصائيات التخاطب ومحمد فتحى مدير المجمع، ويبادرونه بالسؤال عن أحوال وتقييمات الأطفال الشهرية، فالمشرفون على الأطفال يسمحون لهن بحضور التقييم ومتابعته عن كثب.

دمى متحركة

عند ممر طويل بالطابق الأول من المبنى الذى يخدم مرضى الشلل الدماغى، كانت أم عبدالله تنتظر انتهاء جلسة التخاطب لطفلها "عبدالله" ذى الخمس سنوات. تقف مستندة إلى الحائط مرهفة السمع لصوت الأخصائية وهى تصف للطفل الصور الملوَّنة، تتمنى لو أن ابنها يردد وراءها الكلمات، فقد حرمت من سماع صوته وحديثه، اللهم إلا ابتسامته البريئة ولمسة كفه الحنون. تشرد عينها المختبئة وراء نقابها الأسود لتفكر فى "يارا" طفلتها الأصغر ذات الأربع أعوام والتى تعانى هى الأخرى نسبة إعاقة أقل نقلت إليها باحتكاكها وتلاصقها الشديد مع "عبدالله"، واصطحبتها الأم معها أيضا للتقييم الشهرى.

يُفتَح باب غرفة تنمية المهارات لتخرج "يارا"، وتجرى صوب أمها وترتمى فى حضنها، مكتفية بقول "ماما" بحروف متلعثمة. وهنا تقول أم عبدالله لـ"آخرساعة": رزقنى الله بطفلين يعانيان الشلل الدماغى ونسبة إعاقة مختلفة، ولم أدرك مرضهما إلا عند وصولهما سن العامين ونصف العام، فلم يكونا مثل الأطفال الطبيعيين من حيث التواصل اللغوى والنشاط الحركى، وعند عرضهما على طبيب الأطفال أبلغنى بإصابتهما بالشلل الدماغى مع نسبة تخلف عقلى لأصيب بصدمة شديدة.

تتابع: بمرور سنوات عمرهما، تحولا إلى دميتين متحركتين، عاجزين عن الكلام أو التعبير عما يريدانه، يكتفيان فقط بالإشارة بأيديهما وإطلاق صرخات بين الحين والآخر، وبعد أن أيقنت خطورة مرضهما طرقت أبواب المجمّع لأجد الرعاية الشاملة والاهتمام الصحى بهما من قبل الإخصائيات النفسيات ومشرفات العلاج الطبيعى.

وعن الأنشطة التى يمارسها طفلاها بالمجمع تقول: نأتى يوميا للمجمع خلال الفترة الصباحية، حيث يلتحق طفلاى بجلسة التخاطب ثم العلاج الطبيعى، وأخيرا تنمية المهارات، وتمتد كل جلسة لساعة أو أكثر، ناهيك بالاستقبال الطيب من قبل المشرفين، مشيرة إلى تحسُّن حالة طفليها وتعلمهما الكثير من المهارات والاعتماد على نفسيهما، خاصة أنهما كانا يعتمدان عليها فى كل شيء.

وعلى مقربة منها جلست أم محمود، وهى شابة صغيرة لم تتجاوز عامها الخامس والعشرين، تسأل بين الحين والآخر عن الوقت، تتلهف لانتهاء جلسة التخاطب لتستطيع اصطحاب "محمود" إلى طبيبه المعالج، فاليوم هو موعد استشارته الطبية الشهرية. لا تطيق ابتعاد وحيدها عنها حتى أنها تستأذن من الأخصائية كى تلقى عليه نظرة وتحتضنه، ولا تنسى فرحتها الشديدة عند ولادته فقد كان آية للجمال والبراءة، ورغم صدمتها عندما علمت طبيعة مرضه، فإنها لم تستسلم لليأس أو نظرات الشفقة من الآخرين، وقرَّرت إلحاقه بالمجمّع ليصبح مثله مثل الأطفال العاديين، خصوصاً أنه يمتلك مهارات كثيرة.

تقول أم محمود: تغيَّرت حياتى تماماً بعدما عرفت طبيعة مرض طفلى الوحيد، فالكثير من الأصدقاء والمعارف ابتعدوا عنى والبعض الآخر بات يحاصرنى بنظرات الشفقة والعطف، وبعد التحاق محمود بالمجمع وجدتُ أمهات مثلى يشعرن بوجعى ولديهن نفس مشكلاتى، ما دعمنى نفسياً وجعلنى قادرة على مواصلة المشوار، مؤكدة أن الشلل الدماغى ليس بالمرض المُعدي، بل يحتاج لرعاية ومواصلة تنمية مهارات الطفل وقدراته.

ميل للعزلة

وفى مبنى مجاور، يُطلق عليه "مبنى التوحد"، لم يختلف الوضع كثيراً، فالأخصائيات يتبارين فى تقويم سلوك الأطفال وإكسابهم مهارات مختلفة. يستقبلن الصغار بأوجه بشوشة ويحاولن قدر الإمكان جذب انتباههم، فطفل التوحد لديه صعوبة بالغة فى التواصل بصرياً مع الأشخاص، ولا يكف عن الصراخ المستمر والحركة الدائرية من دون هدف.

عماد، واحد من أطفال التوحد أو "الأوتيزم"، حباه الله بسمرة دافئة ووجه جميل، رغم صعوبة تركيزه وعدم قدرته على الكلام، فإنه لا يكف عن البحث عن والدته بعينيه، فوجودها معه يعطيه إحساساً بالأمان والقوة. وبين الحين والآخر ترسل إليه والدته قبلات عن بُعد ملوِّحَة له بدميته المفضلة، تحثه على التركيز مع "ميس أسماء" الأخصائية النفسية، ورغم عدم استيعابه كلماتها فإن روحه بدت مطمنة وهادئة.

تتذكر "أم عماد" وقت أن علمت بمرض ابنها، فلم تستوعب ماهية المرض أو أعراضه وكيفية التعامل معه، حتى وقت التحاقها بالمجمع وحضور جلسات التوعية ليتنامى بداخلها رضاء شديد بقضاء الله، ويساورها أمل فى تحسن حالة طفلها صاحب السنوات العشر.

تنتظر صديقاتها من أمهات الأطفال المتوحدين لكى يجلسن ويتشاورن فى الأمور الحياتية ويُعِين بعضهن البعض على مشاق المرض، ويتحدثن عن نماذج لأشخاص متوحدين حققوا نجاحات علمية وعملية سائلين المولى أن ينعم عليهن بتلك النعمة.

خدمات رائدة

ولنعرف المزيد عن الخدمات التى يقدمها المجمع، تحدثنا إلى مديره، محمد فتحى، حيث قال: أنشيء هذا المجمع فى الستينيات من القرن الماضي، وكانت البداية بمركز لخدمة مرضى الشلل الرباعى سواء من حيث العلاج الطبيعى أو تنمية المهارات وجلسات التخاطب، وحاليا يخدم أكثر من مائة طفل، جرى اختيارهم بحسب حالاتهم الاجتماعية وقدراتهم المادية، إذ يقدِّم المجمع خدماته بأسعار رمزية مقارنة بالمراكز الخاصة.

وأضاف: تم إطلاق مبنى أطفال التوحد عام 2018، وهو أكبر المراكز المتخصصة فى هذا المجال على مستوى مصر، ويضم غرف السيكومتر والتكامل الحسى والعلاج بالفن، إضافة إلى تعديل السلوك وتنمية المهارات، ويحتوى المركز على أكثر من 26 أخصائياً جرى اختيارهم بعناية.

المشكلة الأكبر، بحسب مدير المجمع، هى توعية الأهالى بطبيعة المرض، فأغلبهم يكون رافضاً الاعتراف بمرض طفله، ويصر على إنكار ذلك، والتعامل مع المرض باعتباره حالة عرضية ستزول باختلاطه مع الأطفال الأصحاء، ولذا فى بداية قبول الطفل بالمجمع نعمل على إلحاق الأم بجلسات توعية حتى تتنامى بداخلها قناعة بالمرض وطبيعته.