صلابة أمى

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

كانت أسرة أمى من ابويها جميعا كردية قريبة عهد بالقدوم من ديار بكر، وقد رأيت أحدهم لا تميزه عن أمم الشمال فى لونه وقامته، وقد بقى بعض منهم إلى أيام طفولتنا نعاكسه حين ندعوه إلى اكلة ملوحة او ملوخية، لأنهم لم يتعودوا أكلها،أجداد أمى جميعاً قد تزوجوا فى السودان، وكان جدها لأبيها وجدها لأمها فى الفرقة الكردية التى توجهت إلى السودان بعد حادثة اسماعيل بن محمد على الكبير، وهناك عاش عمر أغا الشريف قبل قدومه إلى أسوان، وهو جد أمى لأبيها، وأبوها محمد أغا الشريف الذى اختار اطيانا للمعاش فى قرية من قرى الاقليم، والذى يتذاكره كبراء السن الاسوانيين عن عمر أغا الشريف انه كان رجلا شديد التقوى، شديد القوة البدنية، يدرب أبناءه على الرياضة العسكرية كأنهم على الدوام فى خدمة الميدان.
ولد له محمد وعثمان ومصطفى وحورية وفاطمة، وخطبت حورية وفاطمة فأراد ان يحتفل بزواجهما معا، ثم علم أن خطيب فاطمة لا يصلى فأبطل الخطبة فى اللحظة الاخيرة، وقال للوسطاء الذين حاولوا ان يصلحوا الامر : " أنى لا أزوُج أبنتى لتارك صلاة ولا لمحدث نعمة، كلاهما يجحد نعمة الله "، وشاعت حوداث العبد قاطع الطريق فى الصحراء، وخافه الجند وهابه تجار القوافل : فقال عمر لأصغر ابنائه مصطفى : " أتسمع هذا وتترك العبد يعيث فى الارض فساداً ؟ " فما انقضى أسبوع حتى عاد مصطفى بالعبد مكتوف اليدين.
أما محمد أغا جدى لأمى فقد كانت فيه تقوى أبيه وصلابته وكثير من أنفته واعتزازه بكرامته، وقد كان يمزج هذه الأنفة بالعمليات ولا يقصرها على القول أو السلوك، وورثت أمى تقواها وسلامة بنيتها من أبيها وجدها، ففتحت عينى أراها وهى تصلى وتؤدى الصلاة فى مواقيتها، ولم يكن من عادة المرأة أن تصلى فى شبابها، إنما كانت النساء لا يصلين إلا عند الأربعين، ومما ورثته عن أبويها حب الصمت والاعتكاف،كان الناس يحسبون هذا الصمت والاعتكاف عن كبرياء فى جدى رحمه الله، وكانوا يقولون إنها نفخة أتراك،لكنها لم تكن نفخة أتراك كما توهموا، بل كانت طبيعة تورث وخلقة بغير تكلف.
ولم أر فى حياتى امرأة أصبر على الصمت والاعتكاف من والدتى، فربما مضت ساعة وهى تستمع من جاراتها وصديقاتها وتجيبهن بالتأمين أو بالتعقيب اليسير، وربما مضت أيام وهى عاكفة على بيتها أو على حجرتها، ولا تضيق صدراً بالعزلة وإن طالت، ولا تنشط لزيارة إلا من باب المجاملة ورد التحية، ومن المصادفة اتفاق والدى ووالدتى فى هذه الخصلة، ولست أنسى فزع أديب زارنى يوماً وعلم أننى لم أبرح الدار منذ أسبوع، فهاله الأمر كأنه سمع بخارقة من خوارق الطبيعة،إنها وراثة من أبوين، يؤكدها الزمن الذى لا يحمد فيه معاشرة أحد. إلا من رحم الله !
وقوة الإيمان فى والدتى هى التى بنت فيها العزيمة ليلة احتضارى ! نعم أيها القارئ الكريم ولا تعجب، فقد احتضرت قبل نيف وثلاثين سنة، كما تخيّل عوادى فى تلك الليلة، فإذا بالوالدة هى الإنسان الوحيد الذى يتحامل على نفسه إلى جانب سريرى ليقنعنى أننى بخير، وتنطوى على ذلك ساعات وهى على عزيمتها، حتى جاء الطبيب أخيراً وأنبأهم أنه عارض غير ذى بال، فإذا المحتضر قد نجا، وإذا بالمؤاسية قد سقطت مغمى عليها، وكانت الوالدة لا تنكر من شئونى إلا الورق.. نعم : ما هذا الورق ؟ الورق الذى لا ينتهى !
هذا الورق الذى لا ينتهى هو الذى يمرضنى، وهذا الورق الذى لا ينتهى هو الذى يصرفنى عن الزواج، وهذا الورق الذى لا ينتهى هو سبب الشهرة، ووالدتى أيها القارئ من أعداء الشهرة تتطير بها ولا تغتبط بها لحظة إلا تشاءمت لحظات، هذه الشهرة هى التى " تشيل غارتك " أى تجعلهم يتحدثون عنك، وما تحدث الناس عن أحد وسلم من ألسنة الناس !
وقلت لها ذات يوم : " لو وجدت لى زوجة مثلك تزوجت الساعة "، ولم أكن مجاملاً ولا مراوغاً، فإننى لا أنسى كمال تدبيرها لبيتها منذ صباها، وكنا بفضل تدبيرها هذا ننتفع بالجورب حتى بعد أن يرث ويبلى..فإنه يصلح عندئذ كرة محبوكة ! ويغنينا عن شراء الكرات التى لا تحتمل أقدامنا مثل احتمالها، ولقد توفى والدى وهى فى عنفوان شبابها، وكان لى أخ صغير فتوفرت على تربيته وتركت كل شاغل غير طفلها هذا وأبناءها الكبار، وورثت منها كثيراً إلا القصد فى النفقة، وتدبير المال، وحسبى بحمدالله ما ورثت عنها.