ضحايا العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

حسن حافظ

عرف عباس محمود العقاد بمعاركه الأدبية والسياسية، لا يكاد ينتهى من معركة إلا ويدخل فى أخرى، لذا ظلت المعارك الأدبية علما على العقاد، والعقاد علما عليها فى القرن العشرين، فعلى مدار نحو خمسين عاما لم تتوقف معارك لسان حزب الوفد الجبار فى الدخول فى معارك أدبية تارة وشعرية تارة أخرى وسياسية فى كرة ثالثة، وفى الكثير من هذه المعارك كان هناك ضحايا هنا وهناك، فقلم العقاد الحاد يصيب فى مقتل، ولم ينج منه إلا القليل، لذا فى ذكرى رحيله الـ58، تتذكر "آخرساعة" أشهر معارك العقاد الفكرية وأبرز ضحاياه.

عباس العقاد (مواليد 1889)، شق طريقه بنفسه وتغلب على الظروف القاسية التى عرفتها أيامه وسكنت تفاصيل حياته، فلم يتوقف عند عدم استكمال دراسته، وعلم نفسه بنفسه معتمداً على ذكائه وألمعيته فشق طريقه، حتى أصبح أحد أبرز نجوم الفكر والثقافة والسياسة، خصوصا أنه أصبح لسان حزب الوفد الليبرالي، والمعبر عن أصوات المصريين فى مواجهة الاحتلال الإنجليزى وألاعيب القصر، لذا لم يكن غريبا أن يلقى بالعقاد فى السجن بتهمة العيب فى الذات الملكية للملك فؤاد عام 1930، ويقضى 9 أشهر خلف القضبان.
ورغم شراسة معارك العقاد السياسية مع خصوم الوفد من الأحزاب الموالية للقصر والإنجليز، فإن معاركه الأدبية والفكرية كانت الأكثر صخبا والأكثر حدة وبقاء فى الذاكرة الأدبية، لذا كثرت الكتب المكرسة لمعارك العقاد التى تلقى الضوء على فهمنا للحياة السياسية والثقافية فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين، ومن أشهر هذه الكتب: "العقاد فى معاركه الأدبية والفكرية" لسامح كريم، وله أيضا "العقاد فى معاركه السياسية"، كما ألف عامر العقاد وهو ابن شقيق عباس العقاد، كتباً عن عمه منها: "معارك العقاد الأدبية" و"صفحات من معارك العقاد السياسية"، و"العقاد: معاركه فى السياسة والأدب"، وكتاب الناقد الكبير رجاء النقاش "عباس العقاد بين اليمين واليسار".
ويرى النقاش أن أول معارك العقاد وأول ضحاياه كان مصطفى لطفى المنفلوطي، فالأخير كان يترجم ويكتب روايات تدور حول قيم الرومانسية وهى قيم انهزامية لا تتوافق مع قيم المجتمع المصرى فيما بعد ثورة 1919، لذلك شارك العقاد صديقه إبراهيم عبدالقادر المازنى فى الهجوم على المنفلوطي، ووصمه بأنه يقدم أدب "المنهزمين"، وكانت هذه الحملة سببا فى خفوت نجم المنفلوطى فى سماء الأدب، فى ظل صعود الدعوات لأدب مصرى خالص يحكى تفاصيل الحياة المصرية، وهى الأصوات التى ستؤدى بعد تفاعلات كثيرة لطى صفحة المنفلوطى وانطلاق الرواية المصرية الخالصة على يد محمد حسين هيكل فى رواية "زينب" ثم فى شكل أكثر نضجاً مع توفيق الحكيم وعمله التأسيسى البديع "عودة الروح"، وهى الرواية الأكثر تأثيرا فى الأجيال التالية من الروائيين.
معركة أخرى وضحية جديدة من ضحايا العقاد، لكن هذه المرة لم تكن الضحية شخصا بل طبقة وتوجها سياسيا، فالعقاد القادم من بيئة فقيرة والصاعد اجتماعيا على مجهوده الشخصي، فعبر عن الطبقة الوسطى المتعلمة بنجاح، دخل فى مواجهة شرسة مع حزب "الأحرار الدستوريين" ممثل كبار الملاك والأرستقراطية المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين، فكتب مقالته الشهيرة "ماذا تخسر مصر لو فقدت الأحرار الدستوريين؟"، والذى نشره فى مطلع عشرينيات القرن الماضى، ليصل بأدب الهجاء السياسى إلى ذروته، فقد حول قادة الحزب الرجعى إلى مادة سخرية وأفقدهم أى قدرة على التأثير فى الشارع المصرى، فظلوا كما وصفهم عالة فى وجودهم السياسى على القصر والإنجليز، فكان أبرز ضحاياه السياسيين عن استحقاق وجدارة.
أما أبرز ضحايا العقاد فى مجال الأدب فكان مصطفى صادق الرافعي، الذى دخل معركة أدبية عنيفة ضد العقاد، وهى واحدة من أكبر وأعنف المعارك الأدبية فى تاريخ الأدب العربى الحديث كله، بحسب تقييم سامح كريم فى كتابه "العقاد فى معاركه الأدبية والفكرية"، وقد استخدم العقاد بداية من مايو 1914، كل أسلحته الثقيلة فى مهاجمة الرافعى الذى كان نجما أدبيا كبيرا، فقال عنه العقاد إنه يعمل القلم ولا يعمل الرأي، ويضيف: "مصطفى أفندى الرافعى رجل ضيق الفكر مدرع الوجه يركب رأسه مراكب يتريث دونها الحصفاء... وكذلك فعل ضيق الفكر وركوب الرأس بمصطفى الرافعي، فحق علينا أن نفهمه خطر مركبه، وأن قدميه أسلس مقادا من رأسه لعله يبدل المطبة ويصلح الشكيمة".
وأمام هذا الهجوم العنيف رد الرافعى بكتابه "على السفود"، وهو مجموعة من المقالات التى ترد الصاع صاعين للعقاد، ويقول الرافعي: "نحن نريد أن نضع أنف هذا الجبار فى الأرض مقدار ساعتين على الأقل، لأنه لم يتجرأ عليه أحد إلى الآن، والذين كتبوا عنه لم ينالوا منه نيلا"، لكن العقاد لا يعود وإذا دخل معركة فهى حرب لا تبقى ولا تذر، واستمر فى هجومه القاسى على الرافعى الذى خفت نجمه بعد هذه المعركة، وعندما حاول إعادة إحياء المعركة بمهاجمة ديوان العقاد "وحى الأربعين"، رد عليه العقاد بقسوة بالغة قائلا: "مصطفى صادق الرافعى رجل عامى من فرعه إلى قدمه، أو من قدمه إلى فرعه، يظن كما يظن كل عامى أن المناقشة هى أن يغلب، وأن علامة الغلب أن يظل يتكلم ويتكلم"، ويضيف: "لا يا هذا عندى ما يشغلنى عن ضغينة نفسك الصغيرة فاذهب إلى عالم الأشباح الذى ألقيت بك فيه منذ سنوات".
فى نفس الفترة التى كان العقاد يدمر فيها تراث الرافعى بأسلوبه العنيف، كان ينتهى مع مدرسة الديوان الشعرية، والتى تضم بالإضافة للعقاد كلا من إبراهيم عبدالقادر المازنى وعبدالرحمن شكري، من صياغة النقد الشهير ضد مدرسة الإحياء الشعري، ممثلة فى أبرز روادها أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، وصدر الجزء الأول من "الديوان فى الأدب والنقد"، والذى أثار موجة هائلة من ردود الفعل لما حمله من أحكام قاسية ضد أمير الشعراء وشاعر النيل، ورغم الأحكام القاسية للعقاد على شعر شوقي، فإنه بحسب سامح كريم: "موقف العقاد من شوقى أفاد الأدب عامة والشعر خاصة فقد فتح الطريق نحو أدب جديد، كما أتاح الفرصة لظهور شعر جديد له قواعده ومقاييسه"، ورغم أن الهجوم أدى لتحطيم أسطورة شوقى وأدى بالتالى لفتح جديد فى الأدب العربى يعتمد فيه المبدع على طابعه الشخصى ويعبر عن ذاته ولا يهتم بأدب المناسبات، فإن مدرسة "الديوان" الشعرية لم تستمر كثيرا إذ دخلت فى معركة عنيفة.
إذ اندلعت مواجهة شديدة القسوة بين أصدقاء الماضي، العقاد والمازنى فى جانب وعبدالرحمن شكرى فى جانب آخر، ويتعجب عبداللطيف شرارة فى كتابه "معارك أدبية قديمة ومعاصرة" من مصير الأصدقاء الثلاثة قائلا: "أعجب ما فى هذه المعركة التى نشبت ضد شوقي، أن الذين أذكوا أوارها، وزودوها ما استطاعوا بالوقود، أفضوا فيما بينهم إلى نزاع داخلى عنيف، يوازى عنفهم على الأدب التقليدى الذى يمثله شوقى شعراً، والمنفلوطى نثراً، إذ انفصل شكرى عن العقاد والمازني، ثم نشأت بين هذين خصومة كثرت معها المهاترات والاتهامات".
وبدأت المعركة بشعور شكرى بانزواء العقاد والمازنى عنه، فى وقت اتهم رفيقه السابق المازنى بانتحال قصائده من الشعر الإنجليزي، ما أثار غضب رفيقهم الثالث العقاد، الذى انحاز لصف المازنى ورفض اتهامات شكرى صراحة، فتحول الأمر لخصومة وقطيعة بين رواد مدرسة "الديوان" الشعرية التى حملت راية التجديد فى الشعر وهاجمت التيار الكلاسيكى ووصلت الخصومة لحد وصف المازنى والعقاد لشكرى بالمجنون و"صنم الألاعيب"، وكانت الطعنة نجلاء فى ظهر شكري، الذى أحس بطعم الخيانة، وأصيب باكتئاب حاد وابتعد عن الحياة الأدبية وانصرف لحياته العملية، حتى توفى بعدها بسنوات بعيداً عن أضواء الأدب والفكر.
ورغم أن العقاد دخل فى معارك كثيرة مع مختلف رواد عصره من أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمد مندور وسلامة موسى وأمين الخولى وبنت الشاطئ ومدرسة أبولو الشعرية بقيادة أحمد زكى باشا، فإنه اختتم حياته بواحدة من أكبر المعارك الشعرية، إذ رفض الاعتراف بقصيدة التفعيلة وهاجم أبرز رموزها، وارتدى قبل وفاته أشهر عباءة لحماة التقليد ورافضى التجديد، على عكس بداياته التى يصفها رجاء النقاش بأنه كان وقتها يجلس على يسار السلطة ويحمل لواء التجديد، وهنا رد عليه صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازي، وهاجما شعر العقاد، لكن الأخير لم يرد فقد كان الموت أسبق وتوفى فى 13 مارس 1964، لتكون حياته كلها صراعات فكرية وأدبية أثرى بها الحياة الثقافية فى مصر طوال عقود، لكنها تركت خلفها الكثير من الضحايا.