منى عبد الكريم
في معرضه الأخير الذي استضافه مؤخرا جاليري أوبونتو بالزمالك، اختار الفنان طارق الشيخ ضمير المتكلم «أنا» اسما لمعرضه، ليضعنا في تساؤل حول كينونتنا وحول المقصود باختياره ضمير المتكلم لاسيما بعد أن خرج معرضه السابق تحت عنوان "مفعول به"، وكأن ثمة فعل ما يسبقه بتبعياته، أو كأن ثمة جملة ما على وشك البداية كما فى معرضه الحالى ، حين التقيت به وسط أعمال المعرض طلبت منه أن يكمل الجملة ، فأخبرنى وهو ينظر للوحاته «أنا» .. فعل مقاومة وأمل..ويضيف الفنان المعنى بضمير «أنا» هنا هو الذات، وربما هو ما يعكسه أكثر العنوان الإنجليزى.
كعادته فى غالبية الأعمال التى شاهدتها على مدار عدة سنوات من خلال مجموعة متنوعة من المعارض من بينها «المواطن عادى» و«شبهى» و «مفعول به» وأخيرا «أنا» اختار الفنان طارق الشيخ أن يعبر عما يدور بخلده من خلال بطل واحد يتحرك وحيدا على المسطح، يقاوم ويسقط وينهض، يحاول الفرار أو القفز فوق الحواجز، يحتل المسطح بالكامل أو يتراجع تاركا مساحة كبيرة حوله، إنه الإنسان فى مختلف أدواره، الباحث عن طريقة لقول «أنا هنا» وأنا موجود وأنا أقاوم وأحاول ومستمر .
البطل فى تجربة الشيخ الفنية هو الإنسان الذى هو أحيانا المواطن، ثم هو أنا وأنت فى أدوارنا الأخرى التى نمارسها، وربما لذلك اتخذ الفنان طارق الشيخ شخصية الأراجوز أو المهرج بطلا لكثير من أعماله السابقة، باعتباره رمزا يعبر كما جاء بالنشرة المصاحبة للمعرض عن الثقافة المحلية المصرية ويمثل روح الدعابة الظاهرية والنقد الساخر فى المجتمع بينما تغلفه مجموعة من المشاعر الإنسانية المختلفة الداخلية التى تُمكن الفنان من تصوير حالات الإنسان المصرى وأحواله المختلفة من خلالها.
لكنه فى معرضه الأخير يحلل بطله من هويته، بل أحيانا من ملامحه ليبدو ككتلة تدخل إلى الحياة أو تنصهر خروجا منها، أو تكتشف حالات أخرى من الوجود بالامتزاج بمفردات أخرى، تتحرك فى فراغ يتراوح بين الأزرق والرمادى والأبيض، ولكنها مع ذلك حركة غير حرة بالكامل إذ ثمة حواجز صنعتها أشكال هندسية أحاطت بالبطل، أحيانا تبدو كإطار محكم يحدد الشكل بخطوط بيضاء عريضة، خطوط تظهر فى إحدى اللوحات وهى تحيط بالجسد المسجى لتبدو كقارب أو كلفافات من الكتان.. أو التى تتحول لكرسى أو طاولة أو حتى علامة استفهام ..
تتداخل الأشكال الهندسية والعضوية، حتى ليمتزج الكرسى والإنسان فى إحدى اللوحات، فى مشهد يثير عشرات الأسئلة حول مدلولاته، ربما أحدها هى محاولة النهوض، الأمل فى الخروج من الإطار الخانق للرحابة، فاختيار الشيخ اللون الأزرق مثلا للخلفية لم يأت من فراغ ، إنه كما يقول الفنان لون السماء أو انعكاسها على المياه، إنها البراح والرحابة والأمل، ولهذا أيضا ثمة انفراجة دائما فى الأشكال الهندسية المحيطة ببطل العمل، انفراجة تهرب منها الأيدى أو الأقدام أو الأرجل، كبداية جديدة.
ويبدو المعرض وكأنه اختبار لحالات متعددة من المتناقضات التى يجد الإنسان نفسه غارقا فيها، ذلك التناقض الذى عبر عنه الفنان بصريا بحوار بين الكتلة والفراغ، وبين السكون والحركة، وبين الهندسى والعضوى، حتى فى استخدامه لمختلف الخامات التى تتنوع فى العمل الواحد بين الخشب والورق التى تظهر فى شكل طبقات متراكمة ومتلاحمة، لتخلق حوار إضافى بين صلابة الخشب ورهافة الورق، بين لون الخشب وتقبله للألوان وامتصاصه لها، ولون الورق وشفافياته.
ويأتى هذا المعرض استكمالا لتجربة الشيخ التشكيلية التى يعتبرها بمثابة رحلة تقود كل مرحلة منها للأخرى، والتى تعكس -كما ذكرنا من قبل- اهتمامه بالإنسان بشكل عام والمصرى بشكل خاص، فالمواطن الذى شاهدناه فى معرض «المواطن عادى» هو كل منا، وحركته على المسطح تأتى كرد فعل للظروف المحيطة به، إذ لا يمكن فصل الإنسان عن محيطه المجتمعى والظروف التى مرت به، ولا جذوره، فمحاولة الإنسان للنهوض والاستمرار تأتى فى وقت حاسم نعانى فيه جميعا من الأزمات المحيطة بنا.. ولكن الحركة التى تعتبر أحد المحركات الأساسية للفنان طارق الشيخ ليس بالضرورى أن تكون رد فعل لما يحدث بالخارج، ربما حركة نابعة من مقاومة داخلية فى محاولة للعبور. وربما جاء ظهور القارب فى هذا المعرض كرمز للرحلة .. يقول الشيخ: إنها رحلة نفسية للبحث عن الاستقرار، ليس فى مكان آخر وإنما بداخلنا.