حكايات| بقربة جلد الماعز وكيزان ماء الورد.. «السقا والمزملاتي» مهن روت عطش المصريين

المزملاتى
المزملاتى

المعلم شوشة السقا بطل رواية يوسف السباعى (السقا مات) دائم الهروب من فكرة الموت.. وعندما يستعيد عافيته الفكرية دائمة البحث عن الفناء ويتلقى خبر تعيينه شيخ الساقيين، ينهار الحلم على رأسه وينهدم البيت والسكن ويلقى الموت بين أحضان المعلم شوشة السقا.. ما بين واقع السقا في الرواية الأدبية والحقيقة فروق إنسانية وتاريخية.

عرفت مصر مهنة السقا في عصر الخلفاء والفتح الإسلامي، نظرًا لصعوبة الحصول على الماء للبيوت والأسبلة والجوامع، كانت الحاجة إلى وسيط يستطيع نقل الماء من النيل أو الآبار أو الخليج المصري الذي كان يصب في ترعة الإسماعيلية فظهرت مهنة السقا. 

السقا
 
السقا هو رجل قوي البنية يحمل قربة مصنوعة من جلد الماعز المدبوغ دباغًا جيدة جدًا لا تحمل أي أصباغ داخلها حتى لا تؤثر على طعم أو لون الماء.. يتم اختيار السقا بواسطة شيخ السقايين، بأن يقوم الشخص المتقدم للوظيفة بحمل شوال من الرمل يزن  67 رطلاً لمدة 3 ليال كاملة دون الجلوس أو حتى الانحناء أو النوم.. وبمجرد الانتهاء من الامتحان الأول يبدأ شيخ السقايين في الاستعلام عن أخلاقه وصفاته ومعرفة السيرة الذاتية للمتقدم لوظيفة السقا، فلابد من الأمانة والنظافة الشخصية والاستعداد لتحمل الصعاب.

وبعدها ينضم السقا إلى طائفة من الطوائف الخمس للسقايين في مصر: (طائفة حارة السقايين، طائفة قناطر السباع، طائفة تنقل المياه على ظهر الجمال، طائفة باب اللوق، طائفة باب البحر نسبة إلى حي باب البحر)، وبمجرد انضمام السقا إلى إحدى الطوائف الخمس، يبدأ في البحث عن السكن وهو عادة ما يكون قريبًا من مصادر المياه التي ينقلها في قربته.

ويبدأ السقا في شراء القربة المصنوعة من جلد الماعز من المدابغ، ويتأكد من نظافتها وعدم وجود أي ثقوب بها ويقلب القربة من الداخل، وعندما يرتاح إليها يدفع ثمنها ليبدأ في رحلته اليومية في توفير المياه للمنازل والجوامع والأسبلة المنتشرة في ربوع المحروسة وللأفراد، وقد يحمل مع القربة الجلد برميلًا كبيرًا أعلى عربة كارو صغيرة بعد تزويده بصنبور لضخ المياه، وكان تعامله اليومي يبدأ بالأماكن العامة التي يستطيع الحصول منها على المقابل فورًا.

أما البيوت فإن التعامل عادة ما يكون بالشهر أو الأسبوع، حيث يحمل السقا حجر من الطباشير وبمجرد الانتهاء من توفير المياه للمنزل يضع علامة على باب الدار وفي نهاية الأسبوع أو الشهر يجمع العلامات، ويحاسب صاحب البيت وأحيانًا كان يلجأ السقا إلى توفير حبات من الخرز لصاحب البيت، كلما قام بزيارته يحصل على حبه من الخرز خوفًا من مسح بعض العلامات من البيوت وتعتبر واحدة من حيل السقا للحصول على حقه من المال.
 
ولم تقتصر مهنة السقا على توفير الماء فقط، ولكنه أحيانًا ما كان يقوم بدور رجل الإطفاء أو رش الدكاكين صباحًا بالاتفاق مع أصحابها يوميًا نظير الماء والكسوة السنوية، واعتبرت مهنة السقا من المهن المربحة لأصاحبها. 


واستخرج للسقا رخصة للعمل من (الإدارة المحلية عن تسير واعتماد سقا)  تتضمن الرخصة توقيع الكشف الطبي على السقا والمواصفات الجسدية والاسم واللقب ومحل السكن، وتحدد له أماكن العمل (رخصة تسير واعتماد سقا.. اسم واللقب مرزوق علي واسم الشهرة محمد السقا.. الجنسية مصري.. السن 42 سنة.. محل الميلاد المنوفية.. جهة السكن باب الشعرية.. تاريخ الرخصة 1886. 
وتتضمن الرخصة المواصفات الجسدية من الطول واللون ولون الشعر وتحديد وظيفة السقا (سقا مسجد). 


الرخصة كانت جواز المرور للعمل ولم يسمح شيخ السقايين لأى سقى بالعمل دون رخصة، وجاء في كتاب "إحصاءات عن مصر"، أن عدد السقا وصل إلى 3 آلاف و876 شخصاً عام 1870، ويعتبر رقماً مناسبًا نسبياً لعدد السكان. وركن عدد كبير من السقايين إلى السكن بحي عابدين بحارة صغيرة أُطلق عليها بعد ذلك حارة السقايين وهي الحارة التي سكنت بها شفيقة القبطية وولد بها أحمد رامي. 


وبعد إنشاء شركة المياه 1865 التي قامت بضخ المياه في أنابيب توزع المياه بالقاهرة وإقامة (حنفية) عامة بالحواري والشوارع أخذت مهنة السقا في الاحتضار قليلاً، لكنها لم تختف، فقد ظل الكثير من الأماكن العشوائية لم تصل إليها المياه بعد وبقيت الحنفيات والأسبلة تسقي الناس وظل الحارس على السبييل يطلق عليه المزملاتي.
 
المزملاتي
 
بعد أن يقوم السقا بتوفير الماء لأصحاب المنازل والمدارس والجوامع ويحصل على المقابل الشهري منهم تنتهي مهمته، ولكن قد يتعثر على البعض توفير ثمن الماء أو قد يكون عابر سبيل يحتاج إلى شربة ماء لاستكمال رحلته وشرب الدواب معه، عندها فكر بعض الأثرياء في توفير الماء دون مقابل لكل محتاج، وذلك بعمل حيلة (الزير المعلق)، وهي عبارة عن زير من الفخار مربوطة بسلاسل حديدية أعلى المنزل لتوفير الماء، وانتشرت تلك الحيلة في الحواري الضيقة، واستطاعت توفير الماء لعدد محدود فقط نظرًا لحجم الزير مما يجعل السقا يقوم بملء الزير أكثر من مرة في اليوم الواحد ولكنها لم تستطع الوفاء لأكبر عدد من عابري السبيل أو الدواب الخاصة بالمسافرين. 

كان تفكير الأثرياء والملوك والسلاطين في التسارع في بناء الأسبلة (السبيل)؛ لتوفير الماء لكل عابر سبيل وصدقة جارية لهم ولأفراد أسرتهم وانتشرت الأسبلة في البلاد الإسلامية بشكل كبير تكاد لا يخلو بلد عربي من وجود الأسبلة في الحواري والأماكن العامة، وأول بناء للأسبلة في مصر في العصر المملوكي كان ابتداء من القرن السادس الهجري – الثاني عشر الميلادي بناه السلاطين والأثراء وكان السبيل يقوم بتوفير الماء لكل عابر سبيل دون مقابل. 

ويصف الدكتور سعيد عاشور السبيل: "السبيل عبارة عن مبنى يحتوي على طابقين، الأول عبارة عن بئر محفورة في الأرض بها ماء الأمطار أو ماء النيل يعلوه غطاء أو سقف من الرخام، أما الطابق الثاني فيرتفع عن سطح الأرض وتسمى حجرة التسبيل أو المزملة لتوزيع الماء على الراغبين ويقوم المزملاتي (الشخص المعين من قبل منشئ السبيل لرفع المياه من فتحة البئر) برفع الماء من البئر بواسطة قنوات تجري تحت البلاط المصنوع من الحجر الصلب وينتهي الماء إلى فتحات معدة لرفعه، وكان الماء يرفع من تلك الفتحات بواسطة كيزان مربوطة بسلاسل مثبتة بقضبان النوافذ.

أما طريقة التشغيل فكانت تتم بواسطة بكرة فوق البئر محمولة على خشبة مربوط بها حبل، وكان بطرف الحبل سطل يرفع به المزملاتي الماء إلى القنوات الموجودة تحت بلاط المزملة، فيجري إلى النوافذ القائمة عند فتحات القنوات، وكان طالب الماء يصعد على سلالم موجودة أسفل كل نافذة إلى حيث يجد الماء فيحصل على حاجته بـ"الكوز".

ويقوم المزملاتي بتوفير الماء المثلج المخلوط بماء الورد للمارة، وهي الوظيفة التي يقوم بها بجانب العناية بالسبيل من الاهتمام بنظافته ونظافة الأكواز المستخدمة وغسل السبيل ورش الماء صباحًا أمامه وإنارة السبيل خاصة في رمضان والأعياد وتجفيف الأحواض للحفاظ على نظافتها.

ويتم تعيين المزملاتي من قبل صاحب السبيل أو ناظر الوقف الخاص به ويحصل المزملاتي على المقابل النقدي شهريًا أو سنويًا، حسب تقدير ناظر الوقف أو صاحب السبيل، كان يتقاضى إلى جانب مرتبه كمية من القمح تصل إلى أردب شهريًا إلى جانب أرطال من الخبز يوميًا، وفي العصر العثماني كان يُصرف له بدل نقدي ثمن جراية وكُسوة، وفي بعض الأحيان تصرف له الجراية عينية وتقدر بثلاثة أو أربعة أرغفة يوميًا زنة كل رغيف ½ رطل وهي مهنة شاقة يقوم بها المزملاتي يوميًا، لذلك تتطلب مواصفات خاصة للمهنة منها حسن المظهر وخلو المزملاتي من الأمراض الجلدية خاصة الجزام والأمانة وحُسن السمعة ولديه القدرة على العمل، سليم البدن، قادر على تحمل العمل لساعات طويلة.

فلما كان العصر العثماني وانتشرت الأسبلة بشكل كبير وزاد الحمل على المزملاتي كان لابد من وجود مساعدين له (السبيلجي)، وهو المعاون للمزملاتي يقوم بأعمال المزملاتي ويتفرغ المزملاتي لشباك السبيل وخلط الماء بماء الورد ومتابعة الأعمال بالسبيل. 

من أشهر أسبلة القاهرة، سبيل أم عباس، بشارع الصليبة، أنشئ عام 1284 هـ - 1867م مبناه فسيح، متسع، أرضه مفروشة بالرخام وسقفه منقوش بالأصباغ الذهبية، شبابيكه من النحاس الأصفر، تتخللها دوائر عليها آيات قرآنية.

أمرت بإنشائه والدة الوالي عباس الأول، إنه أحد آخر سبيلين تم بناؤهما فى القاهرة، أما السبيل الآخر، فهو سبيل أم حسين بك، ويقع فى نهاية شارع الجمهورية قرب نهايته من ناحية ميدان رمسيس، أنشئ عام 1286 هـ - 1869م.

وكثير من الأسبلة لم يكتفِ فقط بمجرد توفير الماء للمارة ولكن أنشئ في الدور الثالث العلوي للسبيل مدرسة (كتاب) لتعليم أبناء الحي الذي بنى فيه السبيل، وانتشرت الأسبلة في مصر حتى عام 1869 عندما تم ضخ المياه في بعض البيوت وانتشار الحنفيات العامة بعدها توقف بناء الأسبلة تمامًا، وأصبحت ذكرى جميلة وإن كان البعض منها الآن تحول إلى واجهة لعرض بضاعة بائع ملابس أو تعرض للإهمال وأصبح مجرد ذكرى وسيرة من سيرة الأجداد. 


اقرأ أيضا| «جبرتي العصر».. يوسف السباعي تأثر بوفاة والده وتنبأ بحادثة اغتياله