البستان

اللقاء الأخير على سجادة الصلاة

مع ابنته وحفيدته فى المتراس بالاسكندرية ٢٠١٠
مع ابنته وحفيدته فى المتراس بالاسكندرية ٢٠١٠

كتب: منير عتيبة

بين 9 أكتوبر 2010 أول لقاء لى مع الكاتب الراحل محمد حافظ رجب رحمه الله ببيته بالإسكندرية وبين آخر لقاء ببيت ابنته السيدة أمينة وزوجها المحترم الأستاذ حمدى بالقاهرة يوم 6 يناير2021؛ كان الحوار بينى وبينه لا ينتهى، سواء التقينا ببيته، أو تحدثنا تليفونيا، وكانت ابنته السيدة سامية رحمها الله تتصل بى إذا شغلتنى الحياة عنه قليلًا، وتطلب منى أن أتصل به لأنه يرتاح إلى صوتى، ولأنه يحبنى منذ أول لقاء، ولم أستغرب هذا الحب، لأن الأرواح جنود مجندة، وقد وقر حبه فى قلبى منذ أول خمس دقائق رأيته فيها، فى اللقاء الأخير أخبرته أننى اتفقت مع الدكتور هيثم الحاج على أن نطبع كل ما كتبه وما لم ينشر بعد بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وتحمس زوج ابنته الأستاذ حمدى ليساعدنى فى هذه المهمة. عدت إلى الإسكندرية بعد أن زال عبء ثقيل من فوق ضميرى لأننى لم أكن زرته منذ عدة أشهر رغم الوعود الكثيرة بالزيارة، ولأننى كنت أتحدث معه وأضحك، وأنا أخفى عنه –بالاتفاق مع باقى الأسرة- خبر وفاة ابنته السيدة سامية منذ شهرين، فقد كان ارتباطه بها وثيقًا حتى أننا خفنا عليه خوفًا شديدًا إذا علم الخبر، ولعلهما التقيا الآن فى جنة ربى بعدما عانته ابنته من مرض، وبعدما وصل إليه هو من صفاء وصلة بالله جعلته متسامحًا مع الدنيا وما فعلته به، مستغنيًا عما بها، مرتجيًا ما عند الله. 


تذكرت وقائع لقائى الأول به، فقد كان الطريق إليه مثل قصصه، وعرا ومخوفا، لكن المفاجأة تنتظرك دائما فى النهاية. أقرب مكان إلى البيت رقم 32 ش الشيخ إسماعيل بالمتراس.. هو صينية الورديان، تبعد عنه حوالى ربع ساعة مشيا أو بسيارة، يمكن أن تستغرق وقتا أطول بالسيارة، الصينية الواسعة على حوافها جرار بلدية «بلاليص» جميلة، لكنها مهملة، الترام يحوطها من كل جانب، رائحة سوق السمك القريبة تزكم الأنف، الزحام يجعل لا موطئ لقدم أو عجلة سيارة، من الصينية لابد أن يصحبك أحد، مرشد يعرف المنطقة جيدا، يسير بك فى شوارع متداخلة، تصل إلى ترعة النوبارية، ثم تصعد درجات سلم لرصيف مرتفع، لتدخل فى بيوت قديمة، قالوا لى إنه فى الدور الأول من بيت قديم يطل على ترعة النوبارية، السلالم عالية، مظلمة، كدت أنكفئ على وجهى عدة مرات، لا أرى جرسا على الباب، طرقت الباب بيد وجلة وأنا أفكر فى العودة.. هذا اللقاء كان يجب أن يحدث منذ سنوات لكننى أؤجله دائما، الصورة التى رسخت فى عقلى لمحمد حافظ رجب لا تشجعنى على لقياه، الثائر، الفوضوى، العصبى، الشتام، المهاجم لأى سبب، أو بلا سبب، صيحته الشهيرة، أو الصيحة التى نسبت إليه، نحن جيل بلا أساتذة، تؤطر هذه الصورة، عندما صدرت مجموعته القصصية «رقصات مرحة لبغال البلدية» كنت المسئول عن نشرها، لكننى احتفظت بها عدة أشهر دون قراءة، حتى أصدقاؤه المتحمسين له أعطونى فكرة نفرتنى من قراءته، هو صعب جدا، لن يفهمه أحد بسهولة، أحيانا هو لا يفهم ما يكتبه، لكنه عبقرى ذكره معجم اكسفورد عام 1987 بصفته «كاتب مصرى أسهم فى إدخال شكل جديد للقصة القصيرة فى مصر». أخبرته أننى عندما تشجعت أخيرا وقرأت المجموعة استمتعت بها جدا، ولم تكن منغلقة بالقدر المأساوى الذى صوروه لى. 
السيدة العجوز ذات الملامح الطيبة التى فتحت لى باب الشقة الوحيدة فى الدور الأول من البيت القديم المطل على ترعة النوبارية أخبرتنى أن شقة الأستاذ محمد حافظ فى الدور الثانى، من أولها معلومات خاطئة.. ربنا يستر!. واصلت طريقى فى ظلام السلالم، فى هذه المرة، وعلى ضوء شاشة الموبايل، كان يوجد زر جرس بجوار الباب، ضغطته، أضاء مصباح كهربائى أمام باب الشقة، سمعت أصواتا قادمة، فتحت لى الباب سيدة فى منتصف العمر، تضع بسرعة طرحتها على رأسها، حتى لا تتركنى مدة طويلة منتظراً، ابتسمت السيدة، شعرت بالراحة، تفضل، الحاج يتوضأ ليصلى المغرب ثم سيلتقى بك. دخلت؛ الشقة ثلاث حجرات وصالة صغيرة، حمام ومطبخ، عندما جلست فى حجرة الضيوف شعرت أننى انتقلت فجأة من العالم الخارجى الموجود به البيت إلى عالم آخر مستقل، أكثر هدوءًا ورقيا وثقافة. شعرت بخطواته قادمة، شعرت بوجل، جاء وحده، شعره غير منسق بشكل كامل، ولحيته تأخذ راحتها على وجهه النحيل، ملابسه فضفاضه، وجسده أيضا تحتها نحيل، وهو مثلى أقرب إلى قصر القامة، لم تأت معه ابنته؛ معلومة أخرى خاطئة: ابنته ستكون معه طوال الوقت لأنها تقوم بعبء الحوار كله تقريبا ولا تتركه أبدا، جاءت معه ابتسامته العريضة، التى أظهرت بخلاف الأسنان غير الموجودة والأسنان البنية أو الصفراء، نفسا حصلت؛ تقريبا، على كل ما ترغبه من صفاء ومصالحة داخلية. رحب بى كصديق قديم، أخبرته أننى أريد أن أتحاور معه لينشر الحوار فى إحدى المجلات ضمن ملف يعده شاب (أكيد لا تعرفه لكنه «مجنون بمحمد حافظ رجب» خصوصا أن أول بحث فى أول مؤتمر يشارك فيه كان عن محمد حافظ رجب)، وقف، تركنى لحظات، عاد يحمل كتابا عليه تاريخ الطبع، 2002م، فتح صفحة يعرفها، كان مقال هيثم الحاج على عنه. معلومة ثالثة خاطئة: هو كثير النسيان ولا يركز!. أخبرته أننى حصلت منذ عامين على جائزة إحسان عبد القدوس عن قصة مستوحاة من فكرة قصته «البطل»، وأننى أهديت قصتى إلى «محمد حافظ رجب صاحب البطل»، فلامنى لأننى لم أحضر له نسخة منها، ولمت نفسى. أحضر لى بعض المجلات التى نشرت ملفات عنه أو أجرت حوارات معه، بعضها قرأتها من قبل، بعضها أراه لأول مرة، تركنى أتصفح وأقرأ ما أريد دون أن يقاطعنى. عندما أخبرته بقصة ترددى فى قراءة كتاب نشرته له، اتفقنا أنه مثل العقاد الذى لا يقرؤه الناس لأن البعض قال إنه صعب. بدأ يحدثنى عن نفسه، عن تجربته الحياتية، مغامراته وحكاياته وخلافاته. قاطعته لنتفق على إطار حوارنا، لا أريد حوارا به حكايات طريفة أو مثيرة قيلت من قبل فى حوارات أخرى، وإلا كنت أخذتها من هذه الحوارات، أريد حوارا عن الكتابة نفسها، كيف اكتشفها، وكيف كشفت ما بداخله، علاقته بالكلمة، بالشخصية التى يراها فى الواقع ويقرر تحويلها إلى شخصية فى قصة، ما الذى مثلته له الكتابة طوال تاريخه، فى محراب الكتابة، والكتابة فقط كنت أريد لحوارنا أن يكون، كان يفلت منى من وقت لآخر، يدخل فى سكك فرعية، يقول لى هذه السكك ستوصلك لما تريد، أو يقول لى «معلش بعدتك عما تريد»، وعندما يتوقف فى منتصف جملة، يصمت طويلا، يسرح بعينيه العجوزين اللامعتين فى تفاصيل السجادة، أظن أن ما قالوه صحيحا، هو يسرح ويتوه منه خيط الكلام فلابد أن تعيده إليك، لكننى لا آخذ بالنصيحة، أنتظره حتى يعود هو بنفسه، يلتفت لى، يبتسم لى: لم أسرح منك، لكن بعض المواقف، الحكايات، الكلمات، تثير فى النفس «شغلانات جوانية» «أشغال داخلية»، فكن صبورا معى. أبتسم بدورى: معك أنا بلا شروط فلا تقلق.
الكتابة حياة ووجود
الكتابة حياة ووجود. كنت فى أجمل مكان بالإسكندرية، محطة الرمل، أمامى قلعة قايتباى. من وجودى فى موقعى كبائع وتأثرى بالمكان وجمال المكان أو جمال البشر فى المكان؛ كان تحركى من عالم الركود إلى عالم الإضافة، إضافة الجمال إلى الجمال. من البداية إلى النهاية علاقتى بالكتابة هى علاقة دم ولحم، ففى البداية تحركت لكى أكون، وبدأت الرحلة بما كان وما سيكون. الكتابة هى سبب وجودى. اكتشفت الإنسان من مكانى كبائع مراقب، واكتشفت الكتابة من نفس المكان، فأضيفت للبائع إضافة هى النظرة المتحفزة للأشياء.
الانشقاق..!!
فى البداية واجهت الانشقاق بين عالم الخواجات، عالم رائع الجمال، وبين كونى فى نفس الوقت عبد اللحظة، عبد المكان، أنتظر فى أول الشهر عسكرى البوليس ليأخذنى كبائع بلا رخصة بجوار سينما ستراند. من هنا حدث ما جعلنى أثور؛ أعطونى الجمال ولكن لم يعطونى الحرية. كنت أصفق عندما تقوم مظاهرة للطلبة ويسرع الخواجات إلى وضع خيش فوق العبارات الأجنبية فوق المحلات. الخواجات؛ أحبهم وأكرههم فى نفس الوقت. أحبهم للمعاملة النظيفة التى يتعاملون بها، وأكرههم لأنهم الاستعمار الحقيقى. من هنا حدث الانشقاق، من هنا بدأت أكتب سلسلة مقالات بعنوان «كتاب وثوار» عن إميل زولا، ديستوفسكى، فيكتور هوجو، الشيخ محمد عبده، جمال الدين الأفغانى، كانت هذه المقالات تنشر أسبوعيا فى مجلة الفن بالقاهرة سنة 1954، وفى نفس الوقت بدأت أكتب قصة كل شهر فى مجلة القصة القاهرية أيضا والتى كان صاحبها ياسين سراج الدين، كانت هذه القصص عن زنوج أمريكا وزنوج كينيا وعن بشرية الحفاة فى الإسكندرية. هذه الكتابة كانت هى التعويض الذى أسد به النقص الذى أشعر به، غربتى بين أجنبى يشترى منى ويبتسم لى ويضع يده فوق كتفى كصديق حميم، وأنا أبادله تلك المشاعر بإخلاص، لكن داخلى يبكى لأننى بائع معرض للبوليس وأننى تابع لسينما ستراند وتابع لرغبات مدير السينما وصاحب السينما وصاحب محل «على كيفك»، بالكتابة وجدت سلام الروح بين هذين الشعورين.
الكتابة الواقعية.. وأمريكا الحمقاء المطاعة!!
سنة 1950، بائع التسالى بمحطة الرمل، يقرأ مجلة «أمريكا»، يكتشف أن أمريكا تؤيد فرنسا، وفرنسا تستعمر المغرب، يقرر أن أمريكا هى المسئول الأول إذن، يكتب رسالة إلى المجلة، ينهيها بجملة «وداعا يا أمريكا أيتها الحمقاء المطاعة». يأخذنى البوليس إلى نقطة شريف (بجوار مركز الإسكندرية للإبداع الذى كان قصر ثقافة الحرية الذى كان نادى محمد على)، يهددوننى، يطلبون منى تغيير مكان عملى، وأنا خارج يقول لى الضابط إن مصر يجب أن تفتخر بى!!!. رغم هذا الجنون كانت كتابتى فى هذه الفترة واقعية متأثرا بالكتاب الثوار الذين كنت أقرأ لهم وأكتب عنهم. كانت الفكرة تأتينى كأنها انبثاق من واقع حياتى، ما أقرؤه، ما أراه، ما أشاهده فى السينما، تأثرت بمعاناة زنوج أمريكا وكتبت قصة «الأنشوطة»، كتبت عن زنوج أفريقيا، عن جوموكياناتا، كنت متأثرا جدا بالسينما، الموسيقى، الحوارات، الكاميرا، التمثيل، شحنة أسبوعية أخرج بها إلى «الفرش» حيث أبيع التسالى (اللب والسودانى والحمص والبندق واللوز والفسدق)، أتابع ما يكتب فى الصحف التى أستعيرها من أصدقائى باعة الصحف بالمحطة، تتفاعل الأشياء والمصادر والمثيرات والمؤثرات كلها مع رغباتى فى الجمال واحتوائه، تكون النتيجة إخراج قصة جديدة أو مقال جديد.
أول قصة.. وإضراب رجال البوليس
كنت فى التاسعة عشرة من عمرى عندما كتبت أول قصة ونشرتها فى مجلة القصة سنة 1954، اسمها «الجلباب» عن عامل تعارك مع آخر وقطع له جلبابه، كانت أسعد فترات حياة البائع الصغير، إذ أضرب رجال البوليس عن العمل لضعف المرتبات لعدة أيام كانت هى أيامى السعيدة، تركت الفرش أخذت أتجول خلف محطة الرمل عند الغرفة التجارية، كنت أشعر أننى ملك، غير خائف، الصراعات بداخلى كانت تهدأ، والانقسام الموجود بالنفس يروح.
عرفت بالثورة قبل الإعلان عنها
 كانت مصر تغلى، وكان لى صديق ضابط مباحث اسمه يوسف فوزى، جاءنى ليقول لى «فيه حاجة حصلت» قلت له «فيه إيه؟» «دلوقتى ح يعلنوها» «فيه إيه؟» «الملك تنازل عن العرش»، وأعلنوها بعد دقائق، قيام الثورة وتنازل الملك عن العرش. أنشأت الثورة إذاعة الإسكندرية، كان حافظ عبد الوهاب مديرا لها، تركت له قصصى فلم يهتم بها أحد، ذهبت إليه شخصيا، لمته بشدة، لماذا لا تذيعون قصصى وأنا أتعامل مع صحف القاهرة؟! كنت عنيفا جدا معه، وتركته ومشيت، فأذاعت لى الإذاعة قصة ذات نزعة وجودية اسمها «رسالة إلى الله»، أذيعت أيضا فى القاهرة من مختارات إذاعة الإسكندرية، وأذيعت من إذاعة المشرق الأدنى، كانت هذه القصة هى السبب فى محاولة البحث عن أسلوب جديد للكتابة.
أسلوبى الجنون.. من الفكرة إلى العضل
فى تلك القصص وفى الكرة ورأس الرجل ظهر الجنون! الملامح الكاملة للأسلوب، تحويل الفكر إلى عضل، هذا الأسلوب بالنسبة لى هو اكتشاف وابتكار معا. كتابة القصة عندى بحث ونحت واستخراج ما فى الأعماق، استخراج ما فى أعماق اللحظة وكل اللحظات. أدهشنى فى هذه القصص وأنا أكتبها أنها تعطينى سرها، الشعور بالغبطة والتألق والانفجار، والرغبة فى إيضاحى للمتلقى وجذبه معى إلى أشيائى، فهو فى صميمى وأنا أكتب وأنا أجذبه إلىّ، أريده –القارئ- مفتوحا؛ غير محمل بأفكار مسبقة، كى ننساق إلى لحظة واحدة، أريده فى حالة من العذرية لا تقل عن حالة الكاتب/المكتشف نفسه. أنا ضد الغموض رغم الشهرة الغامضة التى أحاطت بعملى تدعى أنه غامض! كانت هذه الشبهة مغرضة بهدف إبعاد القارئ عنى، مثلما حدث مع العقاد، وصفه بالعظمة والسمو والغموض، ليبدو وكأنك تعظم الشخص، فى حين أنك تضعه وحيدا فوق قمة جبل عال لينساه العالم هناك، كانت هذه لعبة القط والفأر التى لعبها معى جيل كامل، جيل الستينيات، كانت بينى وبين هذا الجيل مطاردة مستمرة، كان هذا الجيل يقلدنى، ولا يستطيع أن يقلدنى، وأهرب من المقلدين بابتكار طرق ونقلات أخرى فى الكتابة فتكون النتيجة العمل على إحجامى عن الكتابة. أما الجيل السابق الذى تحدثت باسمه، صحت باسمه، طالبت بحقوقه، فقد تركنى أخوض المعركة وحدى، لم يقف معى أحد فكان لابد أن أخرج بكثير من الجراح والتدمير. أهم النقلات فى تاريخى الكتابى تفجير اللغة، أى تبوح لك الكلمة بإيحاءاتها المتراكمة، والقارئ الذى يلهث يكون بسبب ضعفه هو، فيتركنى إلى من يقول إنه هو الأصلى، حيث يظن القارئ إن كتابات من قلدونى فيها جدة فى الأسلوب، وينسون أنها مجرد تقليد لى، لأن الأصل غاب أو غيب عنهم. شعرت بغربة شديدة فى ذلك الوقت، محمد عبد الحليم عبد الله قدم الكرة ورأس الرجل فى مجلة القصة، كتب مقدمة من أغرب المقدمات، يتقرب ويتراجع، يلهث ويقف جامدا، يحذرنى ثم يتلطف معى، وبعد أسبوع دخل غرفته السرية وكتب قصة اسمها «المسافر»، قصة الغموض كما دار فى مخيلته، ونشرها فعلا، وأشارت إليها مجلة الثقافة وقتها على أنها من أعماله الرائعة الجديدة، وهى من تأثير ما ظن أنه غموض فى قصتى التى لم يفهموها وقتها. نجيب محفوظ فى ثرثرته فوق النيل تجد أصابعى، وبعد توقف ثلاثين عاما عن كتابة القصة القصيرة يدخل خمارة القط الأسود وغيرها من الأعمال القصصية التى ترتدى قبعتى. هناك من تأثروا بى مع محاولة إخفاء هذا التأثر، فى عدد من مجلة القصة نشرت قصة ليوسف إدريس؛ بالحرف وبالجملة أخذ منى أشيائى!
دعوة مفتوحة
بعد التقاط بعض الصور  معه ومع ابنته وحفيدته؛ لم يتركنى الأستاذ أذهب هكذا، كنا قد صلينا المغرب معا، أنا الإمام، تذكرت أستاذى العظيم الراحل خالد محمد خالد عندما كان يجعلنى الإمام عندما نصلى معا فى الإسكندرية لأنه يقصر ويجمع، فصلينا العشاء أيضا، ثم أعطانى قصة «النبى.. بيافرا.. البوذية.. ملاجئ الحرب». «هل هذه قصة جديدة؟» «لا. لكنها لم تنشر من قبل» «هل تسمح بنشرها ضمن الملف؟» «افعل بها ما تشاء» «هل تسمح بأن أزورك مرة أخرى؟» «هل تستطيع أن تأتى مرة أخرى؟ عرفت المكان؟» «أنا ضعيف فى الجغرافيا لكن من أحضرنى اليوم يمكن أن يحضرنى فى المرة القادمة» «بيتى مفتوح دائما» «شكرا يا أستاذنا».
والحوار أيضًا مفتوح
أخبرتنى ابنته السيدة أمينة فى لقائى الأخير به بالقاهرة أنه يمضى يومه بين التأمل والصلاة والاستماع إلى القرآن الكريم، والحديث مع الأحفاد، شعرت بانه وجد ضالة كل إنسان، السعادة الداخلية، التى لا تحتاج إلى أية أشياء خارجية لتكون موجودة ومتوهجة، شعرت كالطفل الصغير وهو يبتسم لى ويحدثنى وأنا أنتقل من رسى إلى آخر، أجلس أمامه، ثم أقوم لجلس بجواره، وأحتضنه وأقبل رأسه، وقبل أن أغادر سألته: أين انت الآن؟. فهم سؤالى، نظر إلى أعلى وقال: معه.
هو الآن معه، فى رحاب رحمته، رحل بلا ضجيج من ملأ العالم إبداعًا وصخبًا، لكن هل انتهى حوارى معه بهذا الرحيل الجسدي؟ لا.. لم ينته حوارى مع إبداعه، ولا حتى مع شخصه الذى تملؤنى كلماته، وتزرع ابتسامته فى روحى طمأنينة نادرة الوجود.