أم كلثوم.. وذاكرة العشق

لحظة وعى سلمى قاسم جودة تكتب :

سلمى قاسم
سلمى قاسم

اشتعل السكون الليلى بروعة صوتها الخلاب.. أشرق الليل الحالك تحت وطأة ماتصدح به أم كلثوم فتحول إلى جمرة حمراء.. أرجوانية، أطرب شدوها أمة بأسرها، فآن الأوان لقداسة الهوى فتجمل الزمان والمكان بفعل إبداعها الساحر، المهيب لتتجاوز الديفا آفاق الطرب وتصبح بمثابة الرمز الأسطورى المفضى إلى حالة «الكلثومانيا» فى قلب قاهرة قصية.. عصية مغايرة لقاهرة اليوم حيث كان الشعب بأكمله من الصفوة، فالجميع يكتنز ذائقة جمالية وإبداعية واحدة تحتفى بالقصيدة، بالفن الراقى الذى سحق الفجوة بين الطبقات، ذات يوم قال لى نجيب محفوظ عن أم كلثوم: إن العرب اختلفوا على كل شيء باستثناء ولعهم بها فالكل من أهل الهوى.. لقد ترنمت بتحرر مدهش عن عذابات الألم فى الحب والسياسة فتماهت وتوحدت مع هؤلاء الذين ارتشفوا رحيق حزن الفراق والهجران فكان أشبه بنوع من الفصد، ولا أجمل من كلمات إيزيس: «عندما يصير الزمن إلى خلود.. سوف نراك من جديد.. لأنك صائر إلى هناك.. حيث الكل فى واحد».
نحن الآن فى القاهرة 60،50،40 الهواء مألوف ولكنه غامض، مألوف بتكراره بوشم الصوت الآخاذ، بالعطر والفصول المتتالية وحفلات الست الخميس الأول من كل شهر والحدث الجمالى يتكرر، وهو غامض غموض سحر العشق والتيه المطل دوما على حافة المجهول، كلمات، شدو ونغم ينساب أقرب إلى نداهة فادحة الغواية، سابية تتحكم فى مريديها، الكل يتماهى مع الآهات والأنات، الجمهور فى قصر النيل، الأزبكية والأندلس يتلذذ بذروة النشوة، شعب يعرف الهوى ولايعرف الابتذال، فلقد سمت أم كلثوم بالغريزة الملتاعة وهشمت الهوة الفاصلة بين الروح والجسد فتطهرت الشهوة بنيران جذوة الإبداع المحلق صرخت بالأغنية والقصيدة فانتزعت المتعة من أحشاء الشوق المؤلم.. صار صوتها النديم الأصيل لأمة بأكملها.. ها هى تقف على المسرح ترتدى (الأوت كوتور) من الدانتيل والجيبور تصميمات ڤاسو حيث كانت تذهب أمى وصديقاتها تبدو أم كلثوم كأنها بازغة من لوحة لتمارا دى لمبيكا، الوشاح الموسلين الوردى يتجاذبه النسيم الليلى وعطر شانيل ٥ ينصهر مع الأثير.. والقمر بدر.. والقمر هلال والقمر من ماس فى جيدها، فى صدرها، فى عتمة شعرها الغزير والحياة رقصة مسكرة، محلقة هشمت التابوهات.. لقد شيدت محرابا مشروعا للهوي، واختارت الليل ملاذا لشدوها باستثناء روائع (شمس الأصيل) و(ياصباح الخير) هى تحاكى شهر زاد ألف ليلة وليلة هذا النص الليلى الفذ المحمل بالأروتيكية، والحسية الجامحة، أم كلثوم ألف أغنية وأغنية لم تسكت عن الكلام المباح ولا النغم فمازلنا نأنس بصوتها المنقوش فى وجدان أمة تقتفى أثر ما هو سرمدي، مولعة أنا بمشاهدة حفلاتها، أتأمل الجمهور آنذاك يبدو وكأنه قادم من عالم آخر، الشياكة، الألق، التماهى مع من تترنم بالغرام اليانع، بالعاطفة الكاملة.. الحب العميق، الناضج للحبيب وللوطن.. هو صحيح الهوى غلاب، أهل الهوى، حيرت قلبى، أنا فى انتظارك، ليه تلوعيني، لسه فاكر، حب إيه، فكروني، أمل حياتى، أصبح عندى الآن بندقية، عودت عيني، أراك عصى الدمع، الأطلال، مادام تحب بتنكر ليه، ياليلة العيد.. هجرتك، هاسيبك للزمن.. هى تنعى دوما تقلبات وتحولات الزمن فهو الغريم الأزلى يحول الأفئدة، هادم الملذات ومفرق الجماعات يحمل فى طياته فناء أحلى المشاعر، يتجهم، يقبل تارة ويدبر تارة.. فى حالة محمد عبدالوهاب وأم كلثوم.. (الأذن ترى) فأنت تستعيد الزمن المفقود، تكاد تبصر ما كان.. فالزمان مكان وأمجاد، أشخاص وحكايا تقاوم العدم بالفن الخالد، لا الفن الاستهلاكى الماضى إلى زوال..
أكاد أسترجع المحروسة فى الأيام الخوالى العشق بعد الثامنة، الخميس الأول من الشهر يعلو إنشادها فتتحول القاهرة إلى مدينة للهوي، مسحورة مسرنمة مهيأة للحلم تعتصم بالصمت المطلق.. لهفة الاستماع آمرة.. ناهية.. طقوس وصمت مقدس الكل فى واحد يحاكى جلال لحظات الإفطار فى رمضان، أم كلثوم كاهنة ليلية فى بلاط المتعة الأبدية ترتقى بالحواس، المدن العربية تصبح خارج الزمن، غياب أشبه بالخدر، القصور المنيفة، البنايات الشهيرة فى مصر لوبون، الأنيون، الإيموبيليا، مرشاق، أبوالفتوح، الكويتية، السعودية، الدهبيات، الشرفات مرصعة بالقناديل، الشموع، الأبواب الموصدة، الاستعداد للسهرة فى الحارات، الأسطح، البدرومات، الكل يتأهب ليرتشف الفتنة والجمال المحملين بترياق الوجود السحرى ، رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ تصف الاحتفاء الموحى لحفلات سيدة العشق العربي.
إذاعة أم كلثوم العصارى صوتها يمتزج فى كل طريق بمصر ينساب بعذوبة الانصهار بنسيم العصارى يخترق الأذن قادم حتى من محلات الخردوات، البقالة، المقاهي، الأزقة، الحارات، الميادين، المكوجى السهران يكتوى بلهيب رنين الصوت الشجي.. أم كلثوم ذكاء، وطنية، موهبة فذة.. هى زينة وجودنا.