الصين تسيطر على أجسادنا

مع جمع الحمض النووى باختبار كورونا

نظام مراقبة واسع فى الصين
نظام مراقبة واسع فى الصين

دينا توفيق

يتفشى وباء كورونا وأصبح الجميع مهددًا بالإصابة به، ولا مفر من إجراء الاختبار للتأكد من خلو الجسد من الفيروس خاصة إذا أصيب من حولك، ولا سبيل غيره للحصول على شهادة صحية لتسهيل السفر والتجارة الدولية، لكن ما خفى كان أعظم، فوراء أخذ العينة وتحليلها، هدف لا يمكن تصوره.. اختبار يضعك تحت المراقبة والتتبع، يعرف مواطن ضعفك وقوتك.. يتحكم فى الساعة البيولوجية وخلايا الجسد عن طريق جمع الحمض النووى DNA، هذا ما حاولت الصين فعله لبناء أكبر قاعدة بيانات حمض نووى عن سكان العالم والتوسع فى الخريطة الجينية الخاصة بهم؛ ومن ثم الهيمنة على صناعة التكنولوجيا الحيوية وتطوير الأسلحة البيولوجية.

الحمض النووى الخاص بكل إنسان هو أثمن شيء يملكه، حيث يحتوى على أدق تفاصيل ماضيه وحاضره ومستقبله، سواء كان عرضة للإدمان أو خطر الإصابة بالسرطان أو أى أمراض أخرى.. إنه الرمز الجينى الذى يحمل شفرة الجسد وكلمة المرور لاختراقه، حلها لن يؤثر على صاحبه وحده بل على أقاربه وربما على الأجيال القادمة. ناقوس خطر يدق فى أرجاء العالم، وحذر منه مسئولون الاستخبارات الأمريكيين، محاولات من أجل وقف تدفق البيانات الطبية إلى الصين عبر الوكالات والأحزاب والإدارة الأمريكية واتخاذ إجراءات خلال العام الماضي، عقب توجيه اتهامات إلى متسللين مرتبطين بالحكومة الصينية «Vax hack» حاولوا سرقة معلومات من شركة "موديرنا" الأمريكية للتكنولوجيا الحيوية، التى تطور أبحاثًا من أجل إنتاج لقاح مضاد لفيروس كورونا، لكن هناك مزاعم الآن بأن لديها طموحات أخرى، تمثل خطرًا على الأمن القومى والاقتصاد. حيث ترى بكين أن بيانات الرعاية الصحية والجينوم، سلعة استراتيجية يتم جمعها واستخدامها فى أولوياتها الاقتصادية والأمن القومى؛ والبيانات الجينومية مصطلح واسع يشير إلى التسلسل الجينى بأكمله - كل الحمض النووى الخاص بالإنسان. وفى عام 2016، أعلنت بكين عن مشروع بقيمة 9 مليارات دولار على مدار 15 عامًا لجمع البيانات الجينية وتحليلها وتسلسلها لتصبح رائدة عالميًا فى الطب الدقيق، وهى عملية مصممة لتوفير علاجات مخصصة بناءً على التركيب الجينى والبيئة ونمط حياة الفرد.
وعلى مدار سنوات، جمعت الصين مجموعات كبيرة من بيانات الرعاية الصحية من أمريكا ودول أخرى، بوسائل قانونية وغير قانونية، واستغلال الحمض النووى للقمع والمراقبة، وفقًا للمركز الوطنى الأمريكى للأمن ومكافحة التجسس، حيث اشترت مجموعة BGI الصينية، أكبر شركة للتكنولوجيا الحيوية فى العالم، شركة "كومبليت جينوميكس" الأمريكية للتسلسل الجينومى عام 2013. وفى عام 2015، استحوذت شركة "فوسن فارما" الصينية على شركة "نكست كود هيلث" الأمريكية. وفى أوائل شهر مارس الماضي، عندما كانت واشنطن أول ولاية أمريكية موقعًا لأول تفشى كبير للفيروس، حيث كانت معدلات حالات الاشتباه بكورونا والحاجة لإجراء الاختبارات مرتفعة، استغلت بكين الفرصة وقدمت عرضًا مغريًا لحاكم الولاية، فى رسالة شخصية لافتة للنظر له عن طريق مجموعة BGI الصينية، حيث اقترحت بناء أحدث المختبرات لإجراء فحوصات فيروس كورونا والمساعدة فى تشغيلها، بتوفير الخبرة الفنية، وأجهزة التسلسل الجينى عالية الإنتاجية وحتى تقديم التبرعات.. الأمر بدا كأنه عرض لا يستطيع حاكم الولاية رفضه، لكن مسئولى الاستخبارات الأمريكية كانوا متشككين بشأن BGI وعلاقاتها بالحكومة الصينية. وحذرت وكالات الاستخبارات الأمريكية من أن الصين يمكن أن تستغل العينات لاكتشاف التاريخ الطبى أو الأمراض أو السمات الوراثية للمتقدمين للاختبار، وفقاً لتصريحات مديرالمركز الوطنى الأمريكى للأمن ومكافحة التجسس «بيل إيفانينا» مع برنامج «٦٠ دقيقة» الذى يذاع على شبكة «CBC» الإخبارية الأمريكية وتشكك إيفانينا، الذى تنحى مؤخرًا عن منصبه، فى أن هذه العروض المخبرية هى حصان طروادة، حيث تأتى BGI  إلى أمريكا حاملة هدايا فى الظاهر، لكن لديها دوافع أخرى وراءها، خاصة أن الشركة قدمت مقترحات مماثلة لأكثر من خمس ولايات أخرى، بما فى ذلك نيويورك وكاليفورنيا.
وبحلول أغسطس الماضي، قالت مجموعة BGI إنها باعت مجموعات اختبار إلى 180 دولة وأنشأت مختبرات فى 18 دولة فى الأشهر الستة الماضية. ويضيف إيفانينا: "هل نفهم إلى أين تذهب هذه البيانات؟" حيث تستطيع الشركات الصينية الوصول لبيانات الرعاية الصحية لكل دولة والحمض النووى لشعبها من خلال الشراكة مع المستشفيات والجامعات والمؤسسات البحثية الأخرى.
ووفقًا لعالم الكيمياء الحيوية والمحقق فى مكتب التحقيقات الفيدرالى FBI إدوارد يو، كانت الحكومة الصينية وزعيمها شى جين بينج منفتحين بشأن طموحاتهما للتغلب على الغرب، تستثمر بكثافة فى "ثورة التكنولوجيا الحيوية" وسنت سياسات وطنية تعطى الأولوية لجمع بيانات الرعاية الصحية فى الداخل والخارج لتحقيق هدفها المتمثل فى أن تصبح رائدة عالمية فى مجال التكنولوجيا الحيوية؛ حتى أن لديهم استراتيجية وطنية، تعرف بـ"صنع فى الصين 2025"، خطة الرئيس جين بينج لمدة عشرة أعوام لتحويل البلاد إلى قوة تكنولوجية عظمى، وأن تكون بكين القائد المهيمن فى هذا العصر البيولوجي، والرائد والقادر على تطوير اللقاحات والطب الدقيق وتعزيز الذكاء الاصطناعي. وأضاف: أقرت الصين قانونًا العام الماضى يفرض قيودًا صارمة على أى وصول إلى بياناتهم أو عيناتهم البيولوجية، بحيث لا تخرج إلى أى دولة أخرى على سبيل التبادل العلمي، لكنهم يمتصونها من جميع أنحاء العالم. ومنذ أواخر عام 2017، جمعت السلطات الصينية عينات من الصينيين لبناء قاعدة بيانات واسعة للحمض النووي، وفقًا لدراسة معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالى (ASPI) ونشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، حتى تستطيع السلطات تعقب الأفراد باستخدام عينة دم أو لعاب أو مواد وراثية أخرى فقط. ويعد المشروع تصعيدًا كبيرًا لجهود الصين لاستخدام علم الوراثة للسيطرة على شعبها، والتى كانت تركز على تتبع الأقليات العرقية وغيرها من المجموعات المستهدفة.
ورداً على قمع الأيغور، وفقًا لتصريحات  "صوفى ريتشاردسون" مدير إحدى منظمات حقوق الإنسان فقد فرضت وزارة التجارة الأمريكية فى يوليو الماضى عقوبات على شركتين تابعتين إلى مجموعة BGI الصينية، تم تحديد هذه الشركات على أنها تعمل على تسهيل جمع المعلومات الجينية للأيغور، وهذا بمثابة إشارة تحذير للعالم أجمع. وليس من قبيل المصادفة أن BGI  متورطة فى أزمة الأيغور نظرًا لعلاقة الشركة الوثيقة بالنظام الصينى.
وخلال قمة زعماء مجموعة العشرين فى نوفمبر الماضي، قال الرئيس الصينى "جين بينج" "نحن بحاجة إلى مزيد من التنسيق بين السياسات والمعايير وإنشاء مسارات سريعة لتسهيل التدفق المنظم للأفراد". واقترحت الصين آلية عالمية بشأن الاعتراف بالشهادات الصحية بناءً على نتائج اختبار الحمض النووى فى شكل رموز QR المقبولة دوليًا، ولكن ليس هذا اقتراحًا حميدًا كما يراه الكاتب الأمريكى "جوردون جى تشانج"، الذى اشتهر بكتابه "الانهيار القادم للصين"، بل من شبه المؤكد أن تكون هذه مبادرة صينية أخرى لجمع الحمض النووى وتوسيع الخريطة الجينية لسكان العالم، فالجهود الحثيثة التى تبذلها الحكومة الصينية لجمع البيانات الصحية ينبغى أن تثير قلق العالم. وتزعم وسائل الإعلام الحكومية الصينية أن البلاد لديها بالفعل أكبر قاعدة بيانات للمواد الجينية فى العالم - 80 مليون ملف تعريفي- لكن بكين تريد المزيد.
ودعت صحيفة "جلوبال تايمز" الموالية للحكومة الصينية مؤخرًا إلى "قانون الصحة الخضراء كشرط مسبق للصعود إلى الطائرة". فيما أعلنت السفارة الصينية فى كندا أن الركاب المتجهين إلى الصين يجب أن يكون لديهم رمز QR مع علامة تشير إما إلى المواطن الصينى أو الأجنبي. والرمز هو بديل للمتطلبات الحالية التى تقضى بأن يقدم الركاب نتائج اختبار كورونا قبل الصعود للطائرة. وهناك مخاوف تتعلق بالخصوصية يصعب حلها باستخدام رمز الاستجابة السريعة الإلزامي، كمسألة الثقة؛ من الذى سيثق بأى حكومة وطنية بمعلومات حول الصحة ومعلومات السفر؟ ومن سيدير مثل هذا النظام؟ وردًا على هذه المخاوف، اقترح العالم راينا ماكنتاير من جامعة "نيو ساوث ويلز"، أن تدير منظمة الصحة العالمية أو إحدى الوكالات التابعة للأمم المتحدة قاعدة البيانات المركزية للمعلومات وإنشاء تطبيق تتبع كوفيد-19، وفقًا لما ذكرته مجلة "نيوزويك" الأمريكية. ورغم اقتراحه هذا إلا أنه شكك فى ثقة العالم بمنظمة الصحة العالمية، خاصة أن تلك الهيئة لديها علاقة مشكوك فيها مع بكين؛ حيث كانت تعلم أن الفيروس التاجى كان شديد العدوى، لكنها أصدرت رغم ذلك تغريدة فى 14 يناير 2020، ساعدت الصين على نشر الرواية الخاطئة بأن المرض ليس قابلاً للانتقال بسهولة.
وإذا كانت بطاقة الصحة الرقمية لا تمنح الصين حق الوصول القانونى إلى بيانات السفر والرعاية الصحية فإن بكين ستحصل عليها بوسائل غير مشروعة، عبر سرقة الأبحاث والهجمات الإلكترونية. كان المتسللون الصينيون يستهدفون باستمرار شركات التأمين والرعاية الصحية. والجدير بالذكر أنهم حصلوا من Anthem، ثانى أكبر شركة تأمين صحى فى أمريكا، على معلومات لنحو 78٫8 مليون شخص فى هجوم اكتُشِف فى يناير 2015. وعلى إثر ذلك، وجهت وزارة العدل الأمريكية لائحة اتهام فى 2019 إلى شخصين مقيمين فى الصين بتهمة اختراق  Anthem وثلاث شركات أمريكية أخرى. ويوضح عالم الأحياء والأمراض الفيروسية فى معهد "والتر ريد" للأبحاث شون لين، فى تصريحات لـ"نيوزويك"، أن الصين تدفع رمز الاستجابة السريعة عالميًا لسرقة معلومات التعريف الشخصية؛ حيث تبنى بكين قاعدة بيانات الحمض النووى الضخمة الخاصة بها بعدة طرق، منها إجراء تجارب المرحلة الثالثة للقاح كوفيد-19 خارج الصين، بالإضافة لأسلوبها فى تقديم "تسلسل جينى واسع النطاق" منخفض التكلفة لبلدان العالم والشركات الأخرى.. ويقول المسئولون الحكوميون الأمريكيون إن الصورة أصبحت أكثر ترويعًا، مستقبل قد يبدو أسوأ بكثير؛ أسوأ مما حدث وقت انفجار هيروشيما، وبالنظر إلى كيفية استخدام الصين للحمض النووى بشكل استراتيجى ضد مواطنيها اليوم، لقد دخلنا حقبة جديدة من الحرب.