«لَـهْـــوُ الإلهِ الـصغـير» لُـعْـبةُ الحلم والـكابوس ٫٫٫تُـجاهَ الـعـبَثِ الأزلــى

البستان
البستان

مـحمد برادة

فى هذه الرواية الخامسة لـطارق الـطيب (دار مـسكـيـلياني، 2021)، لا نـرتادُ عالم اللـهْـو والـمـرح كما يوحى العـنوان، وإنمـا يـقـودنا الكاتب بالتـدريج وعـبْـر بـنـيةٍ مـفتوحة لا تخلو من تـهْـويمات عجائـبية، إلى فـضاء يضـج بـأسئـلةٍ تـُلامـس الـهـوية والـكينونة فى مـناخٍ تـخـنقه الـكوابيس وفـُـقدان الـبـوصلة. من خلال ثلاثة عـشـر فصلا، وعـبْـر ثلاث قـنـــواتٍ ســردية، نـرافق «شـمس» الشاب الذى جاء من إفــريقيا إلى فـيـيـنـا عاصمة النـمسا لـيكتشف حضارة أخـرى قـد تـمــنـحـه الاطـمئنان الذى يبحث عـنه. وإلى جانب الـسارد شمس من خلال ضميـر المـتكلم، يُـطالِعنا صـوتُ سارد ثانٍ يسمى نفسه الـعارف لأنـه مُــطـلع على تـفاصيل من حياة وسلوك شمس الذى هو نفسه لا يـعـرفها، ثم هناك ســارد ثالث يـتقدم تـحـت اسم «الكاشف» لأنه عالم بأســرار الآلِــهة، وبـِخاصّةٍ الإله الصغير الذى يحمل اسـم «لاهـِــي» الـذى يــلِــذّ لـه أن يـتـسلـــى بـإملاء مـواقف وسلوكات على شمس لـيجعله مـثيـرا للسـخرية والضحك. عندئذ يـتدخل «الكاشف» لـيلقى الضوء عــــــلى دوافع الإله الصغير، مثلما يتدخل «الـعارف» لـيوضح خـلفيات يجهلها شمس جـعـلتْه يُقدِم على سـلوكٍ مـعيـن. وفى كثيـــــر من الأحيان، يـنـشب خـلافٌ بين الكاشف والعارف، ويـصحح أحدهما لـلآخـر، دون أن يـدريَ شمس بـذلك. على هذا النحو، تـضـطـلع صيـغـةُ الســرد الثلاثى بـوظيفةٍ مـزدوجة، إبــراز محـدودية سلطة شمس فى الـقرار واختيار المصير، وإبـــراز تـعدّد الأصوات ومضمونِ لـغتــها. مثلا، يقول الكاشف: «العلم عند الإله الأعلى ولى حق الكشف والتصحيح: كيف يــدرك (شمس) أن الحياة كانت تسيــر على غير ذلك؟ لا يـستطيع الإمسـاك بأى أمــارةٍ تُـعـيده من هـلعـه إلى شِبْه طمـأنـينـته. إنـها بـداية كارثة لا يـعرف كيف تحدُث...» ص 32. ويقـول العارف فى مجال آخـر: «الحكايــــة أعــزّكـُـم اللـه مختـلفة: التــواريـــخ تـوقفتْ عند هذا اليوم الكابـوسى الذى بــدأ باختفاء الناس وكل الكائنات الـحية. يـرى شمس على هاتفه النـقـّـال تاريـــــخ آخـر يوم حصـل فيه الكابوس...» ص 53.
عـندما نـلـمـلـمُ ما يـسـرده شمس ونـتـأمـل فى المواقف والأحداث التى تـحيل على الواقع أو تـستـوحى التـخـيـيـل، سنجدُ صــفاتٍ ومــلامح تـنطبق على حياة كاتب الرواية لـكنها تأخـذ أبـعادا أخـرى لـدى شخصية «شـمس» الذى يـجـسّد نـوعــا من التخـيـيل الـذاتي، لأن الكاتب وضـع نـفسه فى مواقف وحالات من التـوهّـم يـمـتـزج فيها الخيال بالـحُـلم، وهو ما يسمح للكاتب أن يتــحرّر من مـرجعية «الـواقع» لِـيـخـوضَ فى ســيْـلٍ من الأسئلة المـتصلة بالكينونة والبحث عن الهوية وعـــن المشاعـر والانـفعالات الـثاوية فى الأعـمـاق منذ الطفولة (خاصة ذلك الجانب الأنـثـوى الكامن فى نفس كـلّ رجل). يسـرد عليـنـا شمس جوانب من طفولته وحياته قبل أن يأتى إلى فـيـيـنا، لكنه لا يـفعل ذلك من موقـع التـأريخ الـسّـيـر- ذاتي، وإنما بحثًـا عـن اللـحظة التى اهـتـزّ فيها مســارُ حياته، إذ فــقـَــدَ القدرة على سماع ما هو خارج عن ذاته، كما فقـد حاسة الشمّ وأصبح سجين مناخٍ كابوسى مُـرعِب، فـقرّر العودة إلى بلاده فى إفـريقيا، لـعـلـه يـستـعيد مـذاق الحياة الـمُطمئـنة. صحيح أنه جـاء إلى فـيـيـنا لأنها كانت تـمثل لـديه أشياء جميلة كان يـفتـقـدها فى الوطـن، لـكنه الآن يجد نفسه مُطاردا بذلك الكابوس الذى يأخـذ عدة أشكال وتـجليات مُـقلقة، فـقـرر أن يعود إلى إفـريقيا حيث وطــنه وطفولته الـهـنـيّة، والتاريخ الـعريق الـمـمـتــدّ منـذ الحضارة الـفرعـونية ... غـيـر أن طـريق الـعودة لـم يكن سـالـكًا، ومـــــع ذلك تحمّـل كل الــمشقات والمصاعب ليُصابَ بـخيبةٍ زلـزلتْ كـيانه وجعلته يُخـرج كـلّ ما فى أحشائه من أسـئــلةٍ مـوجعـة : «المـكان الذى تـركتُه خلفى قبل سنوات بعيدة ثـبـت فى ذهنى على صورة آخــر مـرة كنتُ فيه، ملامح الأشـــــــــخاص وأعـمارُهُم وأحجـامُهم وملابسهم. كـأنى تركتُ صورة فوتوغرافية ثابتة سـأعود وأجدها كمـا هـى. تـغيرتُ أنا، ولــمّـــا عـدتُ إليهم أردتُ أن أستـحضـر صورهم وأن أراهم عـن قـرب (...) لـم أجد سـوى هـياكل وأطــلال، ومـرة أخـــــرى لا وجـود لـكـائــنٍ حـيّ وحـيد، ولا حتى جُـرذٍ جائع ملهوفٍ خــرجَ بــاحثـا عن أيّ بـقـايا» ص 168.
كلما تقدمنا فى قـراءة الرواية، تـبـاعدتْ ذكـرياتُ شمس عن طفولته وأخواته البنـات وأمـه وأبـيـه، لـتـنــتـصب أمـامــــه صورة الأطلال والـخواء والشعور بالوحدة. لا فـرق بين فـيـيـنا وأرض الوطن، ولا مـناص من مواجهة الأسئــــــلة التى تكمن فى أعماقه عن ذلك الكابوس الذى زلـْـزَلَ الـكيان: «كنتُ أظن أننى سـأنزل فى الإسكــندرية التى أعـرفها أو فى أيّ مدينة أخــرى، فى دمياط مثلا، لـكنى وجدتـُنى على أرض لا أعـرفـها، أرض أجهلها حتى من الكتب والمراجع وحكايات التاريخ. أما الأرض التى عشـتُ فيها حقا ورأيتها هـنا، فـلا تـبدو لها أيّ ملامح... تـتكرر الـحالُ نفسها التى عشتـُها فى فـيـينا، يتكــرر الــكابــوس الـساكتُ، بـل أكـثر من ذلك: يـضـيـعُ صــوتى(...) صـرتُ أكـثـر ذُلاً مــمّا كنتُ عليه» ص183.
لا بأس من الإشارة إلى أن كلمة الكابوس وما تـوحى به من خـوف وانـسـدادٍ لـلآفاق، مـنذ وظّـفَها فـرانز كافكا فى نسيجه الـروائى الـكابوسى بامـتيـاز، قـد عـادت بكـثرة إلى بـِنْـياتِ الـرواية المعاصرة، لأن وضعية المجتمعات راهنا تـعيش تـحت وطأة الاستلاب والخوف والجـائحات الجامحات، فـأصبح الاطمئنان مفقودا. وكثير من الروايات العربية والعالمية تـستوحى هذا المناخ الكابوسى بدلالاتٍ مُـتباينة، على نحو ما نجد فى الرواية الأخيرة لسلمان رشدى «كيـشوتْ» 2019-Quichotte، التى جعل فيها بطل سيـرفانتس يعيش تحت وطــأة الحياة الكابوسية فى أمريكا ذات الإيـقاع الجنونى. وفى رواية «لــهْـوُ الإلـه الصغير»، المختلفة شـكلا وسـردا، تـُطرَحُ أيـضا تلك الإشكالية الأبدية حيث يجد الـفرد نـفســــه وجها لـوجْـه أمام تلك الــقـوّى الـخفية التى تـتــلاشـى إرادتُه أمـامها، فيحسّ كـأنـه ريشـــة فى مـهَـبّ الريـــــاح، وأن جـميـــع المقولات والأنســاق التى يـحتمى بـها لـمواجهة الـعالم لا تـعـدو أن تكون جـدارا من قــشٍّ وهـواء، وأن مـأساته هى قبل كل شــيء فى هـشــاشته وعجزه أمام الكـوابيس المتناسلة، وأمام سلطة الـقـدر التى لا تـعرف للـعدالة طـريقا. يقول شمس فى لحظة انهزام ويأس :»
«تَـكْـويـنى الأسـئلةُ وأنا فى هَــوَانى الأخـير، لعلـها أسئلتى الأخيرة: هل يمكن أن يكون الإله بهذا الـقدْر من القسـوة؟ هـل يمكن أن يطلب منى أنـا الضعيف الفـقير، أنْ أعـبده وأتـذلـل لـه، وأن أبــذل القـرابين من أجله بحُجةِ أن هذا كـله اخـتبار الدنيا وفى الآخــرَة الـجــزاء؟ هـل من المعــقـــول أن يخـلقــنى إلــه قـويّ، قـادِر، كـيْ يجعلنى أنا، هــــــــذا المخـلوق المسكيـن المـنهوك مُـستـغـرقاً فى عــبودية تـامّة وانـصياعٍ وخضوعٍ وامـتـنانٍ، لأنه خلقنى وسوّانى كما أنـا؟». (ص 186). بـعد اعتـراف شمس بـهزيمته ومـرارته من الـلاّ عـَدْل السماوي، تـبدو الرواية وكأنها تـؤكـد ما هو معروف عن سـطوة القـدر وموازينه الـمجحـفة، لكـنها تـفاجـئـنا بنـهايةٍ تـفـتح بـابـاً للـتحــــدّى واستـكشاف طـريقٍ لـمواجهة الكابوس ولــهْـوِ الآلــهة. ذلك أن ما يـتــوفـر عـليه الإنسان المـُحـاصَــر بالخوف ولـُـغـزية الـوجود هـو أن يـراهـن على الإيروس ضــدّ الـتــانـاتوس، أى أن يـُراهن على قـُـوّى الحب والتـعـلق بالحياة ضـدّ قـوى المـوت والإفــنـاء. وهذا مـا يؤكده شمس فى الفقرة الأخيرة من الرواية، عـنـدما قـرّر أن يسـتـجيب لـرغـبـته الـدّفــينـة فى ارتداء الـفستـان النسائى والأسـاور والإيشارب والـحذاء ذى الـكعب الــعالي: «..أردتُ الـعودة إلى الشقة لكنى فضـلتُ أن أكْــمِـلَ طريقا طويلة مُــمـــــلـّـة بـينما الــكعبُ الـعالى يــدق على الأرض بـِنـقــراتٍ مُـذهــلــة: يا إلــهي ! إنى أسمع. سمعى يـرتدّ إليّ» ص 201. لقـــد استـعـاد شمس حـاسة السـمع، مثــلما اســترجـع تـميــيـز الألــوان اللـذيْـن فـقدهما نـتيجة تلك اللحظة الكابوسية التى بدأتْ ذات يوم فى الساعة السـابعة وسـبع دقائق صباحا، حين اخـتفى الناس وكل الكائنات الحية وظـلّ هو وحيدا غارقـــا فــى الأحلام والذكريات والوساوس.. لكنه استـطاع أن يسـتــأنف الحياة عـنــدما اخـتار أن يسـتـجيب للـنزوع الأنـثوى الكامن لــدَى كـلِّ رجـل، مُـحررًا رَغْــبـتـه من وصاية الآلـهة وسطوة العائلة.