سينما فلسطين «بين الجنة والأرض»

مشهد من فيلم بين الجنة والارض
مشهد من فيلم بين الجنة والارض

بقلم: خالد محمود

هل نجحت السينما الفلسطينية في معركة الوطن ووصول قضيته ورسالته إلى العالم ؟!

السؤال يفرض نفسه علي كلما شاهدت فيلما فلسطينيا جديدا، خاصة في ظل خفوت وتلاشي الدور السياسي ومحاولاته البائسة حيث أصبحت الصرخة من أوضاع مجتمع محتل ترتدى على الشاشة ثوبا إنسانيا وقضايا شخصية صغيرة ومركبة وأحلام مجهضة.

نعم دور السينما عظيم في تحريك المشاعر الإنسانية لدى العالم تجاه قضايا أوطانهم، لكن هذا العالم بات يكتفي بدور المشاهد وخاصة حول ما آلت إليه القضية الفلسطينية والفلسطينيين، وأصبح التأثير فقط ينصب على التعاطف مع ما يطرحه العمل السينمائي من معاناة شخصياته وأبطاله في نطاق اجتماعي، وهو الشعور الذي ينتهى غالبا مع كلمة النهاية، وبالتالي فقدت السينما الفلسطينية المعاصرة ملامحها السياسية المؤثرة، بعدما كانت رصاصة فى وجه الاحتلال.

نحن النقاد وعشاق السينما نلتف حول قيمة العمل الفني ومدى نجاح صٌناعه فى تقديم عمل استطاع أن يمتعنا أم لا، ولكن أيضا ننتظر التأثير السياسي، كما كنا نرى في أفلام حقب سابقة، ويتّفق العديد من النقاد والمراقبين على أن القضية الفلسطينية تعانى تهميشا فنيا انعكس على ندرة الأعمال التى تناقشها وتعبّر عن جوهر الأزمات التي يعاني منها المواطنون في غزة والضفة الغربية.

واقع الأمر هناك بعض المخرجين الفلسطينيين " أصحاب القضية " انسحبوا إلى اهتمامات أخرى، وضلوا الطريق، وانغمسوا في إنتاجات دولية مشتركة لها شروطها ومواصفاتها، ولم تعد فلسطين شغلهم الشاغل، لكن هناك البعض الآخر من الذين لم يفقدوا الأمل بعد، يجاهدون ويحلمون بدور أكثر تأثيرا لوصول قضيتهم قبل ان تفقد رمقها الأخير بصناعة افلام ربما تشكل ضربات موجعة فى قلب الانسانية وتجعلها تنبض من جديد للالتفاف حول حقهم في تقرير المصير، وطن من حقه ان يعيش حياة طبيعية من هؤلاء المخرجين نجوى نجار التي قدمت فيلمها "بين الجنة والارض" وهو بحق فيلم ساحر وجذاب وعصرى، ورغم فيض الكآبة التى طالت معظم أحداثه، إلا أن به شيئا من البهجة والأمل لأنه لم يغلق كل الأبواب أمام أبطاله، بل منحهم منفذ لرؤية جديدة يعيدون فيها نظرتهم لأنفسهم، وعلى أي أرض يقفون وبالتالي بداية جديدة.    

غير أن مخرجة الفيلم نفسها رأت أنه من الصعوبة رصد قضية كبيرة ومتراكمة من العشرينيات بسهولة، بجانب صعوبات التصوير والإنتاج التى تدفع الابتعاد عن الدخول فى مشكلات تؤدى إلى عرقلة خروج الأعمال الفنية للنور.

المخرجة‭ ‬نجوى‭ ‬نجار

وأكدت أن الأعمال الفلسطينية تحاول الذهاب إلى مناطق جديدة لم تعتد تسليط الضوء عليها من قبل فى محاولة لتعريف العالم بأبعاد القضية من جوانبها المختلفة، وركزت على سرد قصص أهالى القرى المهجّرة بسبب الاحتلال، فى عرض غلب عليه الطابع المجتمعى أكثر من السياسي، وهنا تكمن الأزمة، فباتت أغلب الأفلام تنسحب للقضايا الاجتماعية، متجاهلة أو متناسية القضية الأهم، وهى توحيد القوى الناعمة فى وجه الكيان المغتصب.

فيلم "بين الجنة والارض” المستوحى من أحداث حقيقية يحكى قصة تامر " فراس نصار " وسلمى " منى حوا "، وهما زوجان فى الثلاثينيات من العمر يعيشان فى الضفة الغربية المحتلة وتحدث بينهما العديد من الأزمات، وبعد 5 سنوات من الزواج يتفقان على الطلاق؛ ليبدأ رحلة من التعقيدات بسبب تصاريح العبور من نقاط التفتيش الإسرائيلية والذهاب إلى مدينة الناصرة لمدة ثلاثة أيام لاستكمال إجراءات الطلاق، وكل ذلك عبر رحلة فى سيارة تواجه فيها 150 حاجزا.

وخلال سرد السيناريو الذى كتبته المخرجة ايضا نرى كيف يبدأ الاثنان البحث فى ماضى والد تامر لإثبات محل إقامته الحقيقية لإتمام إجراءات الطلاق، فتأخذهما الرحلة إلى طريق بين الضفة وهضبة الجولان، وفى اتجاهات عديدة يلتقيان خلالها بنماذج مختلفة من سكان هذا الطريق، ويتعرّف الزوجان على نفسيهما من جديد خلال رحلة البحث حتى يجد الزوج أمه الصماء التى فقدت الكلام بعد خطف مجموعات إسرائيلية ابنها الصغير، وأعطته لعائلة أخرى لتكتشف أن هذا ابنها، وتقوم باحتضانه ويلتقى بشقيقه كى يعيشا فى النهاية حياة سعيدة.

إن سياسات الشرق الأوسط، التى كانت حاضرة أيضًا فى خلفية الأفلام السابقة للمخرجة، هى أشبه بشبح يطارد الحياة اليومية ويشغل بال قلوب وأرواح الشخصيات المضطربة، فيما قدم كل من منى حوا وفراس نصار أداءً شديد الإدانة يقودنا عبر متاهة الذكريات والأسرار الماضية والمشاعر المتشابكة.

شاهدت أيضا فيلم "200 متر" للمخرج الشاب أمين نايفة، على شاشة مهرجان الجونة، والذى فاز بجائزتى سينما من أجل الإنسانية، ولعب بطولته على سليمان الذى حصل أيضا على جائزة أفضل ممثل.

ويتناول الفيلم قضية معقدة، وذلك عبر قصة عائلة فلسطينية فرقها جدار الفصل العنصرى الإسرائيلي، حيث صار الأب مصطفى ــ الذى يجسده على سليمان ــ عامل البناء يعيش مع والدته فى الجانب الفلسطينى بالضفة الغربية، وخلف الجدار الذى بنته إسرائيل فى عام 1994، تعيش زوجته "سلوى" ــ التى تجسد دورتها لانا زريق ــ وأطفاله فى الأراضى المحتلة الخاضعة للسلطة الإسرائيلية.

يرفض "مصطفى" الحصول على التصريح الذى يسمح له بالعيش فى إسرائيل مع زوجته وأطفاله، معتقدًا أن ذلك يضفى الشرعية على الخط الأخضر، لذلك يفضل استخدام تصريح عمله للعبور، ولكن تتصاعد الأحداث لنرى كيف أن عنصرية الاحتلال تحول دون لم شمل هذه العائلة، وفى أحد الأيام يدخل أحد أبنائه المستشفى، ويحاول الأب الوصول إليه للاطمئنان عليه، ومن ثم يكون عليه أن يجد طريقة لعبور الجدار، لكنه يحتاج للسفر هاربًا فى رحلة تمتد لمائتى كيلو متر، بينما هو لا يبعد سوى 200 متر عن ولده.

قيمة الفيلم تكمن فى واقعية صورته خلال رحلة البحث عن حلول، والأداء المبهر لبطله الممثل على سليمان الذى أصر على الذهاب لأسرته والوقوف بجانب ابنه، رغم منعه من عبور الحاجز والوصول إلى الطرف الآخر من الجدار، وكانت انفعالاته مؤثرة للغاية، كما أن مخرجه وكاتبه أمين نايفة استطاع أن يفرض نفسه فى أول تجربة له مع الأفلام الطويلة، مبشرًا بميلاد مخرج له فلسفته منذ تعامله مع الفكرة، ورؤيته فى طرحها، واختياره الشخصي.

فى رؤية جاءت مغايرة لنموذج آخر من السينما الفلسطينية التى

تدعو للتصالح والتسامح مع المحتل بشكل يثير كثيرا من التساؤلات، قدم المخرج رشيد مشهراوى فيلمه " كتابة على الثلج " تتناول فى أحداثه الانقسامات التى نالت من فلسطين ــ وطن ومجتمع ــ بمفرداتها السياسية الأيديولوجية والدينية والجغرافية، التى تنمو على أسس عرقية طائفية فيما تلقى الأحداث ايضا بظلالها على الانقسامات الموجودة فى الوطن العربى وكأنه حالة عربية ممتدة، فالعمل فى جانب منه لا يتعامل فقط مع الحالة الفلسطينية، بل هو ينعكس أيضا على الحالة العربية بينما يظهر بين ثناياه ان المحتل هو المستفيد من تلك الانقسامات.يسرد الفيلم شخصيات يدفعها تفكيرها لإعادة النظر لذاتها ربما تصل للحقيقة الغائبة وهى لماذا اصبح الوضع الراهن هكذا،، وهو ما اوحى بأن الانقسام الفلسطينى ــ الفلسطينى أصبح همًّا ثقيلا واخطر من الاحتلال، وكل الصراع الذى يدور على السلطة يكون تحت الاحتلال.