«حارة الصوفي».. حي سوداني بوسط البلد

ملوك الصبة: الأكلات السودانية تنتشر روائحها الزكية بالشوارع
ملوك الصبة: الأكلات السودانية تنتشر روائحها الزكية بالشوارع

فى إحدى الليالى الشتوية عام 1919 وقبل اندلاع الثورة السعدية بشهور، دأب الإنجليز على نشر بذور التفرقة بين المصريين والسودانيين وفصل البلدين عن بعضهما أثناء وحدتهما تحت راية المملكة المصرية، فأطلق فنان الشعب سيد درويش أغنيته الشهيرة "سرقوا الصندوق" رداً على المؤامرة الاستعمارية: "سرجوا الصندوق يا مهمد لكن مفتاحه معاى.. مافيش هاجة اسمه مصرى ولا هاجة اسمه سودانى.. نهر النيل راسه فى ناهية رجليه فى الناهية التانى.. اتنين جيران بلدنجى والهيطة جنب الهيطة"، وأصبحت تلك الأغنية تجسيداً حيا لمتانة العلاقة بين الشعبين، لم تفرقهما الاختلافات السياسية أو الظروف الاقتصادية فكلاهما فى الشقا والهنا واحد.

يأتى السودانيون إلى القاهرة فتحتضنهم "حارة الصوفى" بأزقتها المتشعبة إذ باتت حياً سودانيا خالصاً فى قلب العاصمة، يركضون إليها ويلتقون فى مقاهيها كأنهم لم يغادروا بلادهم قط، يلتهمون أطباق "الويكا" مع "العصيدة" و"الكسرة" ثم يحتسون "الجبنة" أو القهوة الممزوجة بحبات القرنفل والزنجبيل والقرفة كما كانت عاداتهم فى وقت العصارى، يتبادلون الأحاديث عن أحوال بلدهم متناسين كافة نزاعاتهم السياسية، والغريب أن المصريين أيضاً هاموا عشقاً بتلك الحارة التى تزخر بكافة المنتجات السودانية من عطارة وتوابل ومطاعم وتنتشر بين ثناياها روائح العطور النفاذة، كأنهم يخوضون رحلة فى قلب بلاد الذهب والعسل، تحمسهم ابتسامات الباعة الجميلة وأحاديثهم العذبة، لتختلط فى هذه الأجواء اللهجتان المصرية والسودانية.

فى زقاق ضيق متفرع من شارع عبدالخالق ثروت بوسط البلد وعلى مقربة من ميدان الأوبرا تقودك قدماك إلى داخل "حارة الصوفى"، فتشعر أنك فى أحد الشوارع السودانية بالخرطوم، حيث تنتشر روائح التوابل المميزة، وجوه سمراء تتربع داخل المقاهى والمطاعم أغلب أصحابها جاءوا إلى مصر هرباً من ويلات الانقسامات والظروف الاقتصادية المرة، ينادون بعضهم البعض بـ"سنارى" نسبة إلى ولاية "سنار" بوسط السودان التى كانت عاصمة كبيرة ذات يوم.

تتواجد السيدات السودانيات فى الحارة على استحياء، إذ يعتبرن المسئولات عن إعداد القهوة السودانية "الجَبَنة" بنفس طريقة الجدات باستخدام "الشرقرق" وهو إناء يحضَّر فيه كوب القهوة المحوجة بالأعشاب ثم يوضع على "الكانون" أو الموقد النباتى مع قطع من الخشب يسمى "المقلاة" ليخرج فى النهاية قدح قهوة بمذاق مميز ورائحة نفاذة.

إحداهن تدعى فاطمة عيسى، قالت لـ"آخرساعة∀: جئت إلى مصر مع زوجى وأبنائى منذ أربعة أعوام بعد أن ضاق بنا الحال فى الخرطوم، فالقاهرة ليست بالغريبة عنا أو عن طباعنا، كما أن معظم أقاربنا يقيمون بالقرب منا فى منطقة عين شمس التى تعد من أشهر الأحياء التى تحتضن السودانيين، أساعد زوجى فى مطعمه الصغير بالحارة والمعروف هنا باسم "سعدون كسلا" نسبة إلى ولاية "كسلا" التى ننتمى إليها، حيث أقوم بإعداد بعض الأطباق السودانية المميزة مثل "ملاح نعيمية" وهى من الأكلات المعتمدة على الخضراوات مثل الطماطم الويكة )البامية المجففة المطحونة( إضافة للتوابل المجففة مثل البصل والفلفل الأسود، وتعد من الأطباق الرئيسية لدينا فى فصل الشتاء، حيث تمد الجسم بالطاقة والدفء.

تتابع: يزخر المطبخ السودانى بأكلات شهية أخرى مثل شوربة الكوارع الشبيهة بنظيرتها المصرية، لكنها تختلف فى التوابل المضافة إليها، ما يُضفى عليها نكهة خاصة، كما نشتهر بـ"العصيدة" المصنوعة من القمح والتمر وتمزج مع بعضها البعض ويضاف إليها السمن والسكر، والكثير من المصريين يأتون خصيصاً لتناول هذه الأطباق نظراً لطعمها الشهى وسعرها الرخيص.

هناك أيضاً مشروبات سودانية يقدمونها للزبائن، حيث توضح فاطمة: لا بديل عن مشروباتنا التقليدية مثل الكركديه و"العقود" وهو مشروب مكوّن من عصير العرديب والعجوة وقمر الدين والشمر وعادة ما نتناوله فى شهر رمضان، كما نقدم أيضا "القنقليز" المصنوع من أوراق شجرة التبلدى التى تعالج ارتفاع الكوليسترول وأمراض القلب، وهناك مشروبات أخرى مثل الشيح والقرفة.

وعلى مسافة قصيرة من مطعم "سعدون" يوجد "السودان بولوتيكا" أو عطارة أسواق ركن السودان، وهو محل كبير لبيع مستلزمات العطارة السودانية من أعشاب طبية وعطور ودلكة وخُمرة وحنة، تأتى إليه العرائس خصيصا لابتياع حاجاتهن، ولا يتوقف المحل عن استقبال زبائنه سواء من المصريين أو السودانيين الذين يعيشون بمصر.

على باب هذا المحل يجلس صابر الطيب بملابسه المزركشة التى أهداها له صديقه مارتن السودانى الجنوبى الذى يعيش حالياً فى ولاية جونقلى، يحرص على ارتدائها بين الحين والآخر منذ انفصال السودان ليؤكد أن العلاقة القوية بين الشعبين لا تزال قائمة، ولا يتوقف صابر عن تدخين السجائر السودانية التى تأتى إلى الحارة وتختلف عن السجائر المصرية فى أن النيكوتين الموجود بها أخف وأقل ضرراً كما يضاف إليها بعض الأعشاب المطحونة مع التبغ.

المطاعم السودانية تقدم الأكلات الشهية

ويمتاز صابر بخفة ظله وعشقه لكرة القدم، فهو من كبار مشجعى نادى المريخ السودانى والزمالك المصرى، ولا يفوت الفرصة لمشاهدة أى مبارة للفريقين.

يتابع: جئت إلى مصر فى أواخر الثمانينيات للعمــــل بأحــــــد مطــاعـــم السودانية التى ظهرت مبكراً فى القاهرة ويقع تحديداً فى حى عابدين، وبمجرد أن خطت قدماى وسط البلد وشوارعها التاريخية حتى وقعت فى عشقها وتعلمت اللهجة المصرية سريعاً فهى لا تختلف كثيراً عن لهجتنا، وأقمت مع بعض أصدقائى فى شارع عدلى، واستطعت توفير تكاليف إقامتى لمدة ثلاثة شهور، ووجدت أن الحياة تغيرت وأصبحت رغدة فقررت استدعاء ابنيّ الكبيرين للاستقرار معى فى مصر، وافتتحت محل العطارة، وحالياً أنهى ابناى تعليمهما فى جامعة القاهرة، الأول تخرج فى كلية الآداب والثانى فى كلية العلوم، لكنهما فضلا الانتقال إلى الخرطوم ليكونا برفقة والدتهما وشقيقتهما الصغرى التى لا تزال تدرس بالمرحلة الثانوية.

وعن علاقته بالحارة يقول: تعد ملجأ لكل السودانيين، فهنا لا توجد نزاعات سياسية وتذوب الفروق العرقية، يأتى الجميع إلى الحارة ليستحضروا روح بلادهم ويستمدوا العون من بعضهم البعض، كما تعد الحارة مركزاً تجارياً صغيراً لقربها من منطقة العتبة، حيث تتوافر المنتجات السودانية الأجود على الإطلاق.

وفى منتصف الحارة تقريباً وعلى أحد المقاهى يجلس مسن سودانى مرتديا الجلباب والعمة البيضاء، يتلفت حوله يميناً ويساراً ويتابع حركة المارة، إذ ينتظر مجيء ولده الأكبر الذى يصحبه فى رحلة علاجه بالقاهرة، يخرج أوراقه الشخصية من جيبه ويعيد ترتيبها مجدداً وينظر بحنين إلى كارنيه نادى الأدب الشعرى فى الخرطوم فهو شاعر يشار له بالبنان.

يقول عباس النورى: أرتبط بعلاقة وثيقة بمصر، فلم تغلق أبوابها يوماً أمامنا، وفى السبعينيات كانت القاهرة تحرص على احتضان الشعراء وكتاب القصة السودانيين، وعقدتُ علاقات صداقة وطيدة مع أبرز الشعراء المصريين آنذاك مثل صابر زرد والراحل أحمد فؤاد نجم الذى كان عاشقا للسودانيين، وكانت تقام الأمسيات الشعرية أسبوعيا فى نادى القصة وقصر ثقافة القاهرة، خاصة بعد نصر أكتوبر 1973، وكنت ألقى حفاوة من كل الحضور كما كنت لا أفوت حفلة للعندليب عبدالحليم حافظ، خاصة أنه زار الخرطوم عام 1960 للاحتفال معنا بعيد الاستقلال وحرص على زيارة المرضى بمستشفى الخرطوم مما زاده تقديراً لدينا.

وعن سبب زيارة الشاعر السودانى إلى القاهرة يقول: تفتقر السودان للمستشفيات المجهزة، فمنظومة الصحة تعانى مشكلات عدة، وقد حاصرتنى الأمراض مؤخراً فلم أجد أفضل من القاهرة لمواصلة رحلة علاجى بها واصطحبت ولدى الأكبر "حسن" الذى يعمل بأحد البنوك فى ولاية الجزيرة، وفى اليوم الأول بالمستشفى وجدت اهتماماً ورعاية فائقة من قبل الأطباء المصريين، بخلاف روحهم المرحة، فقد كانوا يطلقون على "الزول السودانى".