السودان فى قلب مصر

السودان فى قلب مصر
السودان فى قلب مصر

أعد الملف:  علا نافع  ــ أحمد جمال

تصوير: خالد عيد ـ عبدالمنعم ممدوح ـ عصام مناع

تشهد العلاقات بين مصر والسودان تطوراً ملحوظاً فى أعقاب اندلاع ثورة ديسمبر السودانية التى أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير، ما فتح الباب أمام التخلص من نظام حكم الإخوان فى الجارة الجنوبية، الذى طالما استهدف وضع منغصات أمام العلاقات التاريخية بين البلدين.

وفيما ينتظر السودان خروج حكومته الجديدة إلى النــور، 4 فــبراير الجــارى، واستكمـال هياكل السلطة الانتقــالية ســـواء علـى مســـتوى إعـــادة تشكيل مجلس السيادة الانتقالي، وتعيين المجلس التشريعى الذى يعبِّر عن الثورة السودانية بجميع أطيافها، يتوقع دبلوماسيون كُثُر أن يصب ذلك فى صالح توسيع التعاون بين حكومتى البلدين.

يدعم تطور العلاقات فى شتى المجالات توفير بيئة خصبة لتوطيد أطر العلاقات الشعبية مع انصهار أكثر من ثلاثة ملايين مواطن سودانى يتمتعون بكافة الحقوق والواجبات على الأراضى المصرية ما يدعم التقارب الثقافى والاقتصادى بين البلدين وينسف أى محاولة لإحداث وقيعة بين الشعبين الشقيقين.

تلك هى الملامح الرئيسية لهذا الملف، الذى نلقى من خلاله الضوء أيضاً على أوضاع الجالية السودانية فى مصر، ورحلاتهم من الخرطوم إلى القاهرة والعكس، و∀حارة الصوفى∀ التى تشكل بؤرة وجودهم فى قلب القاهرة، والعلاقات التجارية بين بلدين يعيش فيهما شعب واحد ويربطهما نيلٌ خالد.

السودانيون‭ ‬المقيمون‭ ‬فى‭ ‬وطنهم‭ ‬الثانى‭ :‬أهل‭ ‬مصر‭ ‬أشقاؤنا

منذ أن وطأت أقدامهم أرض مصر، شعروا بالطمأنينة والأمان، فهى ليست بالدولة الغريبة عنهم بل ملاذهم وبيتهم الثانى.. لم يشكلوا عبئاً عليها، بل ركيزة أساسية فى سبيل الاستقرار والانتصار، فشاركوا فى معظم الحروب التى خاضتها مصر، وكانوا أصحاب دور تاريخى فيما مضى من أجل نشر  الأمان فى ربوع المحروسة ومطاردة الخارجين عن القانون، هؤلاء هم أبناء الجالية السودانية التى تعد من أكبر المقيمين فى مصر، ورغم محاولات بعض القوى المرتزقة الوقيعة بين الشعبين فإنها لم تفلح فى ذلك، فالعلاقات التاريخية بين البلدين أقوى وأمتن.

وجاءت "المبادرة الشعبية" لتعزيز العلاقات بين البلدين لتكون خير دليل على ذلك، وقد ضمت رموزاً سياسية وفنية جميعهم هاموا عشقاً فى حب البلدين، ولم تكن تلك هى المبادرة الأولى فى تاريخ البلدين بل سبقتها "جمعية الأخوة المصرية السودانية" التى عرفت قديماً باسم "جمعية وادى النيل"، وكانت تضم رموزاً مثل الدكتور صوفى أبوطالب وميلاد حنا وغيرهما، أما عودة الدراسة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم بعد توقف دام 27 عاماً فهو بارقة أمل لكل السودانيين بمصر ليعاودوا الاندماج والتلاحم مع أشقائهم.

فى منطقة "عين شمس"، وتحديداً فى "حى النعام" الذى يعد أكبر تمركز للسودانيين فى القاهرة، يتناثر السودانيون فى شوارعه وأزقته كأنهم كيان متلاحم يشدون أزر بعضهم البعض، يرتبطون بعلاقات صداقة قوية مع المصريين، فأغلبهم يقطن الحى منذ أكثر من عشر سنوات، يتواصلون بود مع جيرانهم المصريين، لا يتضايقون ممن يطلق عليهم لقب "سمارة"، لقب كل جميل فى مصر فهم عاشقون للنكات والقفشات الخفيفة مثلهم مثل المصريين، أما النساء فقد حفظن أسرار الأسواق الشعبية وبرعن فى إعداد الأكلات المصرية مثل الكشرى والفتة، وقمن بتعليم جاراتهن فنون المطبخ السودانى من أطباق الويكا والكمونية والضلع وغيرها، ويحتفلن سوياً بالمواسم الدينية، كشهر رمضان والعيدين ويتبارين فى إعداد ما لذ وطاب من مأكولات.

يقول مازن المعتمد )عامل(: نسكن حى عين شمس منذ أكثر من سبع سنوات.. عندما جئت من مدينة "أم درمان" للبحث عن عمل بعدما ساءت الأحوال الاقتصادية لدينا، واخترت هذا الحى لوجود الكثير من أقربائى فيه، ومنذ اليوم الأول لى هنا كوّنتُ صداقات مع الكثير من الجيران، وفى زياراتى لبلدى أحرص على شراء الكثير من الهدايا لأهلى هناك، فنحن نرتبط بعلاقات أخوية، كما يحرص جيرانى المصريين أيضاً على زيارتى فى الأعياد والمناسبات الدينية، ويحزنون عند سفرى لبلادى ولا يتوقفون عن مراسلتى والاطمئنان عليّ.

أما جواهر الهلالي، إحدى السودانيات اللواتى يقطن منطقة عين شمس منذ 20 عاماً، فأشارت إلى أنها تعيش فى القاهرة مع زوجها وأبنائها الذين يدرسون فى مراحل التعليم المختلفة، متمنية أن يكملوا تعليمهم فى إحدى الجامعات المصرية.

مجموعة من الفتيات السودانيات اللاتى يدرسن فى مصر

وتابعت: حين جئت إلى هذا الحى تولد بداخلى خوف كبير من الشعور بالغربة وعدم التأقلم مع المصريات، لكن بعد مرور أقل من أسبوع نجحت فى اكتساب صداقات عديدة، حتى أنهن أطلقن علىّ لقب "الزولة"، وعلمتهن طريقة إعداد الكثير من الأطباق السودانية التى نالت إعجابهن مثل الكسرة والعصيدة ومشروب العربيد المشهور لدينا، وفى المقابل تعلمت منهن صناعة الفطائر المصرية والمحشي.. فى السياق ذاته التقينا مجموعة من الفتيات السودانيات واللاتى يدرسن فى مصر ويترددن دائماً على الأماكن التى تربطهم بوطنهم إحداهن تدعى "سها" وتدرس بإحدى الجامعات الخاصة بمصر تقول سها: أعيش مع أسرتى فى مصر منذ أكثر من عشر سنوات ومنذ اليوم الأول لإقامتنا حتى شعرت بالأمان فالشعب المصرى لايختلف عن الشعب السودانى.

الحديث عن عشق مصر لا يتوقف على لسان رئيس الجالية السودانية فى القاهرة، الدكتور حسين عثمان: تعد الجالية السودانية من أكبر الجاليات فى مصر، وتصل الأرقام الرسمية المسجلة ما بين 800 ألف إلى مليون سودانى، وهم من يتعاملون مع السفارة ويترددون عليها، أما الباقون فهم إما سائحون أو جاءوا للعلاج وفور انتهاء مهمتهم بمصر يغادرونها، لكن النسبة الأكبر لأبناء السودانيين من أب أو أم مصريين، وعادة لا يهتمون باستخراج جواز السفر السودانى، إذ يكفيهم الباسبور المصري، ونحاول حصر أعدادهم.

مشيراً إلى أن دور الجالية فى خدمة أبناء السودان ينحصر فى تقديم الخدمات الطبية بكافة أشكالها ومساعدة المرضى، وحل المشكلات وقت انتشار فيروس كورونا، فضلاً عن دفن الموتى الذين لا عائل لهم فى مقابر أكتوبر وباب الوزير أو مساعدة ذويهم فى تسفير الجثامين إلى السودان.

أما بخصوص الرابطة المصرية السودانية فيقول: يرتبط الشعبان برابطة من نوع خاص من حيث اللغة العربية والدين الإسلامى إضافة لنهر النيل الذى هو بمثابة شريان الحياة لكليهما، وهناك علاقات مصاهرة قوية بين الشعبين، وكانت مصر أول دولة ترسل بعثاتها التعليمية إلينا، وأشهرها بعثة إلى بور سودان وجامعة القاهرة بالخرطوم التى أنشئت فى عهد الرئيس عبدالناصر ضمن التعاون بين البلدين ومن الجيد إعادة افتتاحها مرة أخرى.

وينفى عثمان نجاح البعض فى الوقيعة بين الشعبين، مدللاً على قوة العلاقات بالمبادرة المصرية السودانية التى ظهرت مؤخراً، وترأس اللجنة التنفيذية على الجانب السودانى السفير الدكتور على يوسف والدكتورة أمانى الطويل منسقاً عاماً للمبادرة المصرية، وتهدف المبادرة لتطوير العلاقات بين القاهرة والخرطوم فى كافة المجالات والوصول بالبلدين لبر الأمان.

يتفق معه الدكتور عيسى حمدين، رئيس اتحاد منظمات المجتمع المدنى السودانية بالقاهرة ويقول: منذ قدوم السودانين إلى مصر تشكلت الكثير من الجمعيات والنوادى التى يزيد عددها على 40 كياناً، وأقدمها النادى السودانى فى منطقة الجبل الأصفر بالخانكة، ويضم بداخله رابطة المرأة السودانية ورابطة أبناء السودان بالجبل الأصفر، إذ إن معظم السودانيين الذين كانوا يأتون إلى مصر استقروا بها لطبيعة عملهم بالهجانة وحرس الحدود المصرية، وهناك نوادٍ أخرى فى منطقتى ∀عين شمس∀ و∀السادس من أكتوبر∀ وتعدان من أكبر المناطق السكنية التى يعيش فيها السودانيون.

وعن دور الجمعيات يقول: يتمثل فى مساندة السودانيين بمشكلاتهم وتوفير محامين لمن يواجهون مشاكل فى الإقامة أو نزاعات أخرى، وحالياً نعكف على حصر أعدادهم ومساندتهم معنوياً، وبالطبع نقوم بدورنا هذا بجهود ذاتية من دون مساندة من السلطات السودانية.. ويرى عيسى أن تلك الجمعيات بمثابة الأسرة الكبرى للسودانى فى مصر، حيث تحتضنه وترشده إلى الصواب، خصوصاً إذا كانت لديه أسرة وأطفال يريد تعليمهم.

‭"‬آخرساعة‭" ‬ترصد‭ ‬حكايات‭ ‬المسافرين‭ ‬السودانيين

القاهرة‭ ‬الخرطوم‭.. ‬رايح‭ ‬جاى

بخلاف ملايين السودانيين المقيمين فى مصر بصفة دائمة، هناك رحلات تنطلق باستمرار من الخرطوم إلى القاهرة والعكس، إذ لا تتوقف زيارات أبناء الجارة الجنوبية لوطنهم الثانى، لأســـــباب عــــدة، كالتجارة والتعليم والعلاج، ومع هذه الزيارات المتكررة تتدفق  حكايات السودانيين عن عشقهم للمحروسة. "آخرساعة" زارت أحد هذه المكاتب فى ميدان الحلبي، والتقت عدداً من المسافرين السودانيين الذين تحدثوا إلينا عن علاقتهم القوية بالمصريين وطبيعة رحلاتهم بين البلدين.. وتفاصيل أخرى شائقة نتعرف إليها فى سياق السطور التالية.

يقضى الكثير من أهل السودان حياتهم فى الترحال بين القاهرة والخرطوم سواء للتجارة أو تحصيل العلم، ومنهم من يقرر البقاء فى مصر من دون أن يساوره شعور الغربة فلا يفصله عن وطنه إلا معبر حدودي، يبدأون فى عقد الصداقات مع المصريين والتى تمتد فى أحيان كثيرة إلى علاقات زواج ونسب لتختلط دماء أبناء الشعبين معاً وتزداد أواصر الصلة بينهم، وعند زيارة السودانيين بلادهم يحملون كل ما يحتاجونه من السلع والبضائع المصرية ويعودون بمنتجات سودانية خالصة من توابل وعطور وأعشاب قلما توجد فى مكان آخر حيث يقدمونها كهدايا لـ"الزول∀ المصرى وزوجته.

تتناثر مكاتب شركات النقل فى منطقة العتبة، وتحديداً فى ميدان الحلبى، حيث يتوافد إليها السودانيون الراغبون فى السفر من وإلى الخرطوم وكذلك المصريون، وعادة ما تستغرق الرحلة يوماً كاملا أو يوماً ونصف اليوم، حيث تغادر الحافلات التابعة للشركات المصرية من القاهرة متجهة إلى أسوان لتكون الحافلات السودانية فى انتظارهم فى "موقف كركر" لتقلهم إلى المعبر السودانى الذى لا يفصله عن مصر سوى شريط حدودى يسمى "أرقين" ويقصده المسافرون مباشرة إلى العاصمة، أما معبر "أشكيت" فينقلهم إلى باقى الولايات السودانية.

"آخر ساعة" قصدت هذه المكاتب للتعرف إلى عدد الرحلات اليومية المتجهة إلى السودان، وما إذا كانت قد تأثرت بأزمة فيروس كورونا، والاستماع لحكايات المسافرين، والمشاق التى يواجهونها فى رحلتهم، وما تمثله لهم مصر..

فى ركن هادئ بعيد عن حركة المارة المزدحمة بالميدان، جلس صابر النواحى، شاب ثلاثينى من مدينة الخرطوم، يتصفح هاتفه المحمول ويتابع آخر أخبار السودان، فربما تكون الأحوال قد تبدلت فى الشهور الثلاث التى قضاها بمصر، يتفقد حقيبته الكبيرة من آن لآخر فقد ملأها بملابس وأدوات تجميل مصرية كى يقدمها هدية لعروسه "خديجة"، يخرج علبة الكشرى التى اشتراها من محل قريب ويتناولها فهو عاشق لهذه الأكلة المصرية، يرش عليها الشطة السودانية فلا مذاق للكشرى من دونها، يملأ معدته جيداً، فرحلته إلى أسوان طويلة وتتبقى ساعتان لحين وصول الحافلة.

يقول صابر: "قدمت إلى مصر منذ خمسة أعوام حيث أعمل بالتجارة ونقل البضائع من القاهرة للخرطوم، وأغلبها أجهزة إلكترونية وملابس وأحذية، فأسعارها تعتبر رخيصة مقارنة بالدول الأخرى المجاورة، وعادة أقيم فى القاهرة لمدة خمسة أيام لحين ترتيب أمور تجارتى ثم أغادر للسودان وأعاود الرجوع فى الشهر التالي، وخلال عملى استطعت توطيد صلتى بالمصريين وبت صديقا حميماً للكثيرين منهم فطباعنا واحدة وقلوبنا تتسم بالطيبة والصدق".

مسافرون من قلب القاهرة إلى السودان

وعن تأثير جائحة كورونا على رحلته الشهرية يقول: "بالطبع تضررنا كثيرا لأن الإجراءات تشترط علينا إجراء تحليل الفيروس قبل السماح لنا بدخول المعابر فى كل مرة نسافر إلى القاهرة ثم نخضع له بمجرد دخولنا الأراضى السودانية، وهذا يمثل عبئا ماديا كبيرا علينا خاصة أن أغلبنا يسافر ثلاث مرات فى الشهر الواحد، لذا نطالب بتقنين إجراء التحليل مراعاة لظروفنا فالكثيرون تضرروا وأصبحت تجارتهم فى مهب الريح".

وعلى مقربة منه جلس على نصر، رجل سبعينى لا يتوقف عن إطلاق النكات السودانية، ويسرد بين الحين والآخر حكاياته الشائقة مع أصدقائه المصريين، فالحاج على يعيش فى القاهرة منذ أكثر من أربعين عاماً، حيث يمتلك محل عطارة فى "وسط البلد" يحوى التوابل والأعشاب السودانية الشهيرة ويجىء إليه الزبائن خصيصاً للأخذ بنصائحه فهو خبير فى التداوى بالأعشاب.

يقول علي: "تربيت على حب مصر وأهلها، ولا أنسى حكايات والدتى عن كرم المصريين وودهم خاصة أن أغلبهم كانوا يعيشون بجوارنا فى منطقة الرى السودانى المخصصة لمهندسى وخبراء الرى الذين كانت ترسلهم الحكومة المصرية للإشراف على شئون الزراعة، وكنت متيماً بصوت أم كلثوم وترتيل الشيخ عبدالباسط عبدالصمد القرآن، حتى أننى جئت إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر، ومنذ اليوم الأول لاستقرارى بالمحروسة قررت عدم مغادرتها والعيش بها، فالحياة هنا مختلفة ولا تشعر أنك غريب خاصة أن الجالية السودانية تعد من أكبر الجاليات فى مصر، كما كنت حريصا على حضور مباريات نادى الزمالك لوجود اللاعب السودانى عمر النور بها وقد كان معشوقنا الأول آنذاك فأكثر السودانيين يشجعون النادى الملكى".

يتابع: "حاولت الزواج من إحدى جاراتى المصريات لكن رفض أهلها لصغر سنها آنذاك فلم تكن بلغت السابعة عشرة رغم أن السودانيات يتزوجن فى نفس السن، وكتمت رغبتى فى الزواج من مصرية حتى بعد زواجى من ابنة عمى وعند بلوغى الأربعين تعرفت على أرملة مصرية من أسوان وتزوجتها بمباركة من زوجتى الأولى وعائلتى وأنجبت منها ولدين يعيشان معها بأسوان".

وعن سفره إلى السودان يقول: "أزور عائلتى فى الخرطوم مرة كل شهر، وأحمل لهم هدايا مصرية من كافة المحافظات مثل السجاد وتحف خان الخليلى، إضافة إلى الأجهزة الإلكترونية الخفيفة التى تباع فى السودان بأسعار مرتفعة".

أما محمد الفضالي، تاجر يعمل فى شحن البضائع المصرية إلى السودان فيقول: خفت حركة التجارة بين البلدين مع ظهور فيروس كورونا، وزادت الضرائب الجمركية التى نسددها، فضلا عن رسوم الانتقال الشخصية بجانب تحليل كورونا ولكن ما باليد حيلة، فمعظم المحال التجارية فى السودان يعتمد على البضائع المصرية لجودتها ورخص أسعارها مقارنة ببلاد أخرى.

وعن السودانيين الموجودين فى مصر يقول: "بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة فى بلادى يسافر أهله إلى مصر بحثاً عن لقمة العيش وأغلبهم يعملون بالشركات المصرية أو المحلات السودانية التى تعمل بالعطارة والمقاهى وحتى المطاعم، ولا يجدون صعوبة فى العيش بين المصريين لطباعهم المشتركة ولطيبة قلوبهم، مؤكداً أن من يضع قدمه على أرض المحروسة يعود إليها مرة ثانية وهناك من يأتى للعلاج بالمستشفيات المصرية لأن فيها أفضل الأطباء".

وبعد انتهاء الحديث مع السودانيين انتقلنا إلى أم سماح، وهى صاحبة شركة النقل المصرية المسئولة عن توصيل المسافرين لأسوان، حيث قالت: "هناك علاقات صداقة وأنساب مع السودانيين ظهرت منذ الفراعنة فالنيل كان الرابط بيننا وشريان الحياة لكلينا، ويوميا كانت تخرج حافلة تقل مسافرين من وإلى الخرطوم، يحمل كل واحد منهم حكاية تؤكد مدى ارتباطه بالقاهرة وشوارعها وأهلها، ولكن خفت حركة السفر مع ظهور كورونا وارتفاع تكاليف السفر، فباتت الشركات كلها تتفق مع بعضها لتجميع المسافرين فى حافلة واحدة وتسييرها للخرطوم وبالطبع خلف ذلك خسائر اقتصادية كبيرة علينا".

وفى أحد المكاتب الأخرى فى منطقة العتبة استقبلنا شاب سودانى ثلاثينى يدعى مُنذِر، أخبرنا عن مواعيد قيام الرحلات المتجهة للخرطوم: منذ عدة أشهر كان يتم تسيير رحلة يوميا للخرطوم ولكن بعد انتشار كورونا قامت الشركات السياحية بتجميع رحلاتها مع بعضها البعض فى أتوبيس واحد لقلة عدد المسافرين وهذا بالطبع كبدنا خسائر كبيرة، مشيراً إلى أن الرحلة تستغرق فى العادة يوما ونصف اليوم لحين الوصول لموقف الخرطوم الرئيسى.

منذر تحدث عن تكاليف الرحلة قائلاً: "تتباين الأسعار بحسب المسافة، فهناك من يصل لأسوان وتنتهى رحلته عند ذلك ويختار النقل النهرى الذى يعد الأرخص رغم أنه مخصص فقط لنقل البضائع، ويصل سعر التذكرة لأسوان 700 أو 800 جنيه ويتم السماح للراكب باصطحاب عدد معين من حقائب السفر وفى حال الزيادة تتم المحاسبة حسب الوزن. أما سعر التذكرة من موقف "كركر" إلى "وادى حلفا" فيتراوح بين 200 و250 جنيها، تُضاف إليها رسوم المغادرة وهى 100 جنيه بالمعبر المصرى والسودانى.

رحلات الوصول

وإذا كانت الحافلات التى تقل المسافرين للخرطوم تحمل معها أمنياتهم ودعواتهم بالعودة مرة أخرى للقاهرة، فإن حافلات العودة تضم بين جنباتها العشرات ممن جاءوا إلى مصر أملاً فى حياة كريمة أو طلباً للعلاج بعد أن ضاقت بهم السبل فى بلادهم، ومنهم أيضاً من جاء للسياحة وقضاء إجازته فى مصر.

أحد الجراجات الكبرى التابعة لشركة نقل المسافرين السودانيين فى منطقة "عابدين" بوسط القاهرة، لا يتوقف عن استقبال حافلات قادمة من وإلى الخرطوم يومياً، إذ يصل عدد الرحلات لأكثر من سبع رحلات.

وجوه متطلعة للحظة دخول الحافلة إلى الجراج، تنتظر بلهفة وصول ذويها فقد طالت أيام الفراق، آباء وأمهات يرقبون أبناءهم، وزوج يتطلع بشوق لنزول زوجته وأبنائه، يأخذهم بين أحضانه ويستمد منهم القوة فى غربته، وشيخ سبعينى يمشى الهوينا يتلفت يميناً ويساراً ويرقب بدهشة الشوارع الواسعة المزدحمة، وتلتقط آذانه مفردات العامية المصرية ثم يبتسم فى رضا، ولا يكف موظفو الشركة سواء المصريين أو السودانيين عن إسداء النصائح لهم وإرشادهم إلى مناطق السكنى المناسبة، ومنهم من يستأجر لهم "تاكسي" ويساعدهم فى نقل حاجياتهم من دون انتظار مقابل مادي.. يكفيه فقط كلمات الشكر والدعوات الصادقة.

استرعى انتباهنا رجل فارع الطول يُدعى مجاهد نوح، يرتدى الجلباب والعمة السودانية، لا يتوقف عن صعود الحافلة والهبوط منها، يحاصره القلق وتنتابه لحظات ارتباك، وعند اقترابنا منه بادرنا بالحديث عن طفلته الصغيرة ذات الأحد عشر عاما التى تعانى شللاً رباعياً، ولا تستطيع الحركة كلياً، وعجز الأطباء السودانيون عن إيجاد علاج لها، فما كان منه إلا أن جاء إلى مصر لعل الأطباء يستطيعون التخفيف من آلامها.. يصطحب زوجته معه تاركاً أبناءه الثلاث فى الخرطوم.

وفى زواية بعيدة، وقفت السيدة مى النورى مع ابنتها جهاد ذات السبعة عشر عاما تنتظران وصول الأب كى يصطحبهما لمنزله الكائن بوسط البلد، حيث يعمل مصطفى فى أحد محلات الأجهزة الكبرى منذ عشر سنوات، وفضل ألا يصطحب أسرته الصغيرة معه للقاهرة توفيراً للنفقات، فالإيجارات السكنية غالية على حد قوله، كما أن رسوم الإقامة ارتفعت فى الآونة الأخيرة.

تقول مى التى تعمل معلمة بإحدى المدارس الثانوية العليا بولاية الجزيرة: "أحرص على زيارة زوجى مرة كل ثلاثة أشهر مع ابنتى الوحيدة، حيث نزور المناطق الأثرية والترفيهية، كما نزور أقاربنا الذين يعيشون فى مصر مصطحبين معنا الهدايا السودانية من عطور وبخور يطلبونها منا خصيصاً، كما يحاول زوجى الترفيه عن ابنته، فهى فى السنة الأخيرة بالمرحلة الثانوية، وتعد مصر أقرب الدول لنا ففى مصر لا نشعر بأى غربة أو قلق.

أما جهاد مصطفى فتقول: "أعشق مصر عشقاً كبيراً، كما أننى مولعة بالقراءة عن تاريخها، فهى ترتبط مع السودان برباط تاريخى وثيق كما أن النيل شكل حضارتين كبيرتين هما الحضارة المصرية القديمة والسودانية، ورغم محاولات الكثيرين سواء قديما أو حتى فى الأيام الحالية بالوقيعة بين الشعبين فإن محاولاتهما تبوء بالفشل، مشيرة إلى أنها تتمنى الالتحاق بإحدى كليات الآداب المصرية لدراسة التاريخ.

يعشقون‭ ‬أم‭ ‬كلثوم.. وأغلبهم‭ ‬ازملكاوية

"عاشت مصر حرة والسودان، دامت أرض وادى النيل بأمان، اعملوا تنولوا واهتفوا وقولوا.. السودان لمصر ومصر للسودان"، لم تكن تلك الأبيات الشعرية التى تغنى بها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب سوى تجسيد للعلاقة التاريخية القوية بين الشعبين، فكانا تحت هيمنة الاستعمار البريطانى سوياً وذاقا ويلات الصراعات السياسية للسيطرة على خير النيل، ورغم كثرة المؤامرات ازداد تلاحم أبناء الشعبين، وحملت قسمات وجوههم السمراء حكايات وآلام سعياً وراء حياة كريمة، ولكن فى ظل تلك الدوامة لم يتخلوا عن الابتسامة وحمد الله على نعمه، يتشبثون بالأمل ولا يكفون عن إطلاق قفشاتهم ونكاتهم الخفيفة كأن حلاوة مياه النيل تدفقت على ألسنتهم.

سمات مشتركة عديدة بين هذين الشعبين، فمثلاً يجتمع المصريون والسودانيون على عشق كرة القدم ويشجعونها بحماس كبير، وعند المباريات الهامة يحتلون المقاعد الأولى بالمقاهى مطلقين صافرات التهليل عند إحراز هدف أو تضييعه، ولكن أكثر أهل السودان مولعون بنادى الزمالك، لا ينسون الكابتن عمر النور الذى ظل محترفا بصفوف النادى الأبيض مدة تزيد على عشرة أعوام، وحقق مع فريقه بطولات كثيرة حتى بات مصريا حتى النخاع، كذلك الكابتن "شطة" لاعب النادى الأهلى فى الجيل الذهبى بالسبعينيات والثمانينيات الذى كان مكلفا بتضييق الخناق على نجم الزمالك فاروق جعفر حتى أن الكثير من أهله فى ولاية الجزيرة كانوا يلومونه على ذلك.

ويطرب أبناء الجارة الجنوبية لصوت أم كلثوم، يتذكرون حكايات آبائهم وأجدادهم عن زيارة كوكب الشرق لهم فى الخرطوم أواخر عام 1968 والتى استمرت تسعة أيام بناء على دعوة لها من عبدالماجد أبو حسبو وزير الإعلام، وكان فناناً وشاعراً تربى فى مصر وتزوج من مصرية، ويومها تحوّل السودان إلى جنة يصدح فيها صوت درة الشرق.

كما أنهم يعشقون الرئيس عبدالناصر وكلما حلت سيرته يقرأون له الفاتحة، فقد كان أول من اعترف باستقلال السودان وساعده فى الحصول على حريته من المحتل البريطانى، ويروون بفخر بطولات السادات ولم لا؟ فوالدة الرئيس السيدة "ست البرين" كانت سودانية من دنقلا تزوجها والده أثناء عمله بالسودان، فأورثته بشرتها السمراء المحبوبة وقوتها الصلدة.