في ذكرى وفاته.. قصة أخطر عملية تجسس خدع بها «الجمال» وزير دفاع إسرائيل

رفعت الجمال وزوجته
رفعت الجمال وزوجته

«لعبة الجواسيس» قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام، تراقب كل شيء وأي شيء في أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية في لعبة شطرنج، ربما لن تنتهي أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس في تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».

 

في ذكرى وفاته «بوابة أخبار اليوم» تنشر إحدى حلقات مذكرات الجاسوس المصري رفعت الجمال، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التي نشرتها في كتاب يحمل اسم «قصة الجاسوس المصري رفعت الجمال.. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، وهذه الحلقة من مذكراته تتناول أخطر عملية تجسس قام بها رفعت الجمال .

 

انتقاله إلى ألمانيا

 

عندما بدأ رفعت الجمال في تصفية أعماله في إسرائيل استعدادًا للانتقال إلى ألمانيا بصحبة زوجته وأطفاله، ليسرد ما حدث بعد ذلك موجهًا حديثه لزوجته في مذكراته: «في غضون هذه الفترة تدهورت الأوضاع السياسية بين إسرائيل ومصر، وكانت هذه هي البداية لما حدث في عام 1967. 

 

كنت ما أزال أتردد ذهابًا وجيئة بين ألمانيا وإسرائيل، واستطعت في أبريل أن أخطر رئيسي بأن إسرائيل عمدت إلى القيام بعمليات استطلاع للكثير من القواعد العسكرية الجوية العربية الأساسية وتصويرها من الجو، وأنهم في إسرائيل أعادوا بناء نماذج مطابقة لكل قاعدة وتدربوا على قصفها من الجو. وأضفت أن من بينها مواقع مصرية. وأعربت عن تصوري بأنه إذا كان ثمة احتمال لعملية عسكرية، فإنها ستكون عن طريق القيام بهجمات جوية ضخمة.

 

ولم يأخذ أحد معلوماتي مآخذًا جادًا على نحو ما كشفت عنه الأيام بعد ذلك، إذ ساد التوقع بأن إسرائيل لو حاولت القيام بعمل عسكري، فإنها ستهاجم سوريا. جاهدت مرارًا وتكرارًا لأقنعهم بأن الضربة ستوجه إلى مصر، ولكنهم لم يصدقوني. وفي شهر مايو أغلق جمال عبدالناصر مضيق تيران أمام جميع السفن الإسرائيلية. وفي يونيو هاجمت إسرائيل القواعد الجوية الكبرى في مصر وسوريا والأردن والعراق على السواء.

 

ثارت ثائرتي، لماذا لم يسمعوا كلامي؟ لقد أبلغتهم قبل وقوع الكارثة بزمن طويل ولم يعبأوا بما قلت، غضبت وبلغ الغضب مداه حتى أنني عقدت العزم على أن أترك العمل، تذكرين يا فالتراود كيف أنك لم تفهمي لماذا وصفت المصريين بالغباء ولم أكن سعيدًا بانتصار إسرائيل، كل شيء كان واضحًا ومعروفًا لديهم، ولم يكن عليهم سوى أن يستعدوا لوقوعه، وينتظروا إسرائيل إلى أن تأتي بنفسها، ومع هذا فقد دفعوا ثمنًا غاليًا نتيجة إغفالهم لما قدمته لهم من معلومات.

 

جلسة مع «ديان»

 

ومضى الزمان، ومات (عبدالناصر)، وأصبح أنور السادات رئيسًا لمصر في عام 1970. تخليت في هذه الأثناء عن منزلي في إسرائيل واعتدت أن أنزل في فندق كلما ذهبت إلى هناك. وكنت حتى ذلك الحين لم أجد مشتريًا لحصتي في مكتب السفريات. وذات يوم ونحن في ساعة الأصيل جمعتني جلسة مع (ديان) في نادي تل أبيب. 

 

عرفت منه معلومات حيوية عن أنور السادات، وقال لي إن روسيا استقر عزمها في نهاية عهد (عبدالناصر) على تحويل مصر إلى دولة تابعة للسوفيت.

 

أسست شركة جديدة في ألمانيا اسمها «بي تي إم» للسمسرة وتجارة النفط، وسارت الأمور سيرًا حسنًا وحققت أرباحًا من عملي الذي تعلمته حديثًا. وانتظم الطفلان في المدرسة، وقررت أنت افتتاح بوتيك صغير لملابس السيدات. عشنا حياة سعيدة في ألمانيا وقلت تدريجيًا زياراتي لإسرائيل. ذهبت إلى هناك مرات كثيرة دون علمك، كنت تظنين أنني في اليونان وقبرص، وواقع الأمر أنني لم أذهب إلى اليونان، إذ تهيأت لنا قنوات معلومات جديدة. كنت أذهب إلى تل أبيب، ومن هناك إلى قبرص لأقابل رجل الاتصالات، لم يكن هناك الكثير مما يستحق أن أبلغه سوى العمل الروتيني.

 

ومضت الأيام وبعت في النهاية مكتبي في تل أبيب، لم أحصل على الثمن الذي كنت آمل فيه، وواقع الأمر أنني حصلت على مبلغ زهيد، لم أخرج من إسرائيل غنيًا.

 

أخطر عملية تجسس

 

وخلال زيارتي الأخيرة لإسرائيل عمدت إلى أن أقوم بآخر عملية تجسس لي وربما الأهم والأخطر شأنًا لصالح مصر، كانت العلاقات السياسية بين إسرائيل ومصر قد تدهورت مرة أخرى مع استمرار الجدل بشأن شبه جزيرة سيناء، وللمرة الثانية أخذ القدر مساره في اتجاه العنف. 

 

واكتشفت من خلال سام شواب أن ثمة تخطيطًا لتوجيه ضربة عسكرية أخرى ضد مصر، وأدركت أن من واجبي أن أعمل، وتلقيت معلومات عن طريق كل من (شواب) و(ديان) و(وايزمان) عن الخطط العسكرية المختلفة المبيتة.

 

كان كل شيء بدا مبسوطًا واضحًا أمامي، وغمرتني الرغبة في الضحك، على مدى كل هذه السنوات كنت أعد العدة لكي أترك إسرائيل مرة وإلى الأبد، وأن أترك عملي مع جهاز المخابرات، وعندما حان الوقت لذلك استطعت أن أنجز أروع أعمالي، وتوفرت لي معلومات تزيد عن الحاجة، نقلتها جميعًا: الزمن والتاريخ والموقع، كل شيء كان هناك.

 

وصدقني المصريون هذه المرة على نحو ما تشير أحداث التاريخ، وغمرتني سعادة بالغة لذلك، ولأول مرة انتصرت مصر على إسرائيل في حرب 1973. 

 

نهاية المهمة

 

وقررت أن هذه نهاية عظيمة لمهمتي، وأبلغت رئيسي أن هذه نهاية عملي معهم، وعدت إلى ألمانيا حيث حصلت على الجنسية الألمانية، وحصل دانييل بدوره على جواز سفر ألماني، وأصبحت إقامتنا الآن شرعية في البلاد، وسرني أن تخلصت من جواز سفري الإسرائيلي، ففي النهاية كنت دائمًا مصريًا في صميم فؤادي، بل كان الزعم بأنني إسرائيلي أو يهودي يجرحني في داخلي، ولكن كان الواجب يقتضيني أن أنجز مهمتي، وقد أديتها على خير وجه، وأستطيع أن أقول بشكل ما إنني كنت فخورًا بنفسي قليلًا.

 

وطلبوا مني أن أحضر إلى ميلانو مرة أخرى، حيث قال لي رئيسي:

 

– لقد أنجزت عملًا بالغ الروعة ونحن فخورون بك، لقد استطعت أن تقدم أكثر مما كنا نتوقع، فما هي خططك الآن؟

– حسن، أريد لعملي في مجال البترول أن ينجح، وحيث أنني حصلت على الجنسية الألمانية الآن، فإنني أستطيع أن أدع أمر إسرائيل جانبًا، وأصب اهتمامي على حياتي الخاصة.

– هناك في مصر أيضًا حجم أعمال ضخم في مجال البترول، نستطيع أن نساعدك للنجاح في هذا المجال كتعبير عن عرفاننا بجميلك الذي أسديته، لكن تذكر أن اصطحابك لأسرتك إلى مصر يمكن أن يكشف ما قمت به من قبل وبالتالي يهددل ويهددهم كذلك.

– لن أترك أبدًا أسرتي، هفي كل ما لي.

– ستكون بذلك مصدر خطر شديد على أسرتك، نحن كفيلون بحمايتك، ولكننا لا نستطيع حماية زوجتك وطفليك طوال الوقت. إذا لم تكن على استعداد لأن تتركهم في ألمانيا فستضطر إلى البقاء باعتبارك جاك بيتون الألماني، الذي عاش في إسرائيل يومًا ما، فكر في هذا وتدبر الأمر.

وقاطعته قائلًا:

– هل هذا معقول؟ إنني أحب فالتراود والطفلين حبًا يملك على أعماق نفسي، لا سبيل على الإطلاق إلى أن أتركهم.

استطرد قائلًا:

– جميل، إذا كان هذا هو ما تريد فليكن. غير أننا معنيون بك ليس إلا. أسرتك هي شأنك، إذا بقيت معهم، لن تستطيع العودة إلى مصر وتصبح رفعت الجمال. كذلك ستكون مسؤولًا عن نفسك، وإذا ما اكتشفت المخابرات الإسرائيلية حقيقة ما فعلت فإنهم سيعثرون عليك أينما كنت.

– إنهم لن يكتشفوني، لقد عشت داخل عرين الأسد زمنًا طويلًا وأعرف حيلهم. لقد سددت ديني إلى مصر ثلاثة أضعاف، وسوف أتصرف على مسؤوليتي مثلما اعتدت دائمًا. وإذا كان قدري هو أن أواصل العيش باسم جاك بيتون فليكن، غير أنني لن أترك زوجتي وطفلي تحت أي ظرف من الظروف، إنهم مسؤوليتي وأنا أحبهم إلى أقصى الحدود.

– وهو كذلك يا جاك بيتون، لقد حددت اختيارك وأصبحت كما قلت لك مسؤولًا عن نفسك، نحن نشكر جهودك ونرجو لك حظًا طيبًا. كان الله معك.

وقف الرجل ومد يده لي فصافحته وانصرفت».