محمد بنودى: فن الفسيفساء برؤية جديدة

محمد بنودى
محمد بنودى

منى عبد الكريم

كيف يمكن لحدث رياضى أن يتحول لمثير فكرى وإبداعى ملهم للعالم وكذلك للفنان المتميز محمد بنوي، الذى ألهمه لاختيار عنوان معرضه الأخير «التعافى – ريمونتادا» أو العودة العظيمة  الذى استضافه مؤخرا جاليرى آزاد بالزمالك، فريمونتادا تلك الكلمة  الأسبانية التى تحمل موسيقى داخلية تدفعك لتعيدها على نفسك، وقد وجدت طريقها إلى العالم بعدما استخدمت على نطاق واسع بفوز فريق برشلونة  الاستثنائى على فريق باريس سان جيرمان الفرنسى فى 2017 لتتحول الكلمة إلى شعار يثير الحماس والرغبة فى عبور الصعاب إذ تعنى التعاَّفى والعودة بقوة بعد الهزيمة.
يتوقف بنوى كثيرا أمام تلك الكلمة، تداعب أنامله القطع الصغيرة التى يصنعها بنفسه قبل أن يقوم برصها على مسطحه، مدققا فى كل التفاصيل قبل أن يكتمل العمل ويتساءل كيف يمكن لحضارتنا أن تحدث الريمونتادا الخاصة بها، إذ يقول: ريمونتادا هى توصيف ليس مقتصراً على تسجيل أهداف بارعة، بقدر ما هو عودة عظيمة.. ونحن.. بإمكاننا الحلم بريمونتادا لحضارتنا وتاريخنا العظيم وتطورنا الذى توقف بشكل غريب وغير مفهوم متنكراً لأى عودة أو تطور... ماذا لو قُدرَ لنا التواصل مجدداً مع حضارتنا؟
ربما يطرح بنوى بما يقدمه من أعمال فنية، إجابة شديدة الخصوصية لهذا السؤال، فمضامين أعماله الفكرية لا تبتعد أبدا عن الجذور إنما هى جسر للعبور بين الماضى والحاضر، حتى على مستوى الطرح البصري، فمع  فرادة ما يقدمه بنوى فهو يعيد تقديم فن الفسيفساء القديم بمفهوم عصرى ولسان حاله يقول إن التعافى لا يعنى أبدا النقل المباشر أو الاستهلاك المستنزف للقديم وإنما هو تشرب واعى لمفردات الحضارة وهضمها جيدا وانفتاح على العالم وثقافته وتقديم الجديد المتفرد الأصيل فى الوقت ذاته، والحقيقة أن بنوى ربما يقدم نوع جديد من الفن هو مزيج بين الفسيفساء والتصوير والكولاج والنحت،  إذ يوظف قطع صغيرة من مختلف الخامات كالرخام والأحجار والزجاج والخشب وغيرها على المسطح، توظيفا عير متكرر،  فكل مجموعة من القطع منحوتة بعناية وبأشكال تختلف من عمل لآخر، قبل أن يعيد توزيعها على المسطح مانحا إياها الفرصة لتكتسب صفة جديدة فتارة بإمكانها أن توحى بكونها مبانى المدينة الفاضلة، وتارة هى تلك الشمسيات المتناثرة على الشاطئ من مشهد علوي، وتارة هى نحن البشر فى تلاحمنا وتفرقنا، الأهم أنه لا يقدم رؤية ثابتة للعمل، فمع تغيير زاوية الضوء وسقوطه على المسطح تتغير الظلال ومن ثم هناك عدد كبير من الرؤى التى يتيحها العمل ذاته، يصمت بنوى قليلا قبل أن يخبرني: كلنا لنا ظل وانطباع وجودنا مرتبط بظلنا، فمع الظل تعطى الأشياء انطباعات مختلفة، العمل متحرك والإضاءة متحركة والظل كذلك.
ولكن ليس هذا فحسب، بإمكاننا مشاهدة العمل معلقا على الحائط أو موضوعا على مسطح ، يثير الفنان خيالنا بمجموعة من الصور الفوتوغرافية لأعماله، ليفتح الباب أمام خيارات لا حصر لها فى الاقتراب من أعماله، وكأنها تقدم مفهوم اللانهائية والخلود، وهى مفاهيم لها علاقة بشكل أو بآخر بفكرة فرادة المصرى القديم فيما قدمه، فكلما اقتربت مما قدمه المصرى القديم تكتشف فكرة تعدد الخيارات طبقا لسقوط زاوية الضوء ولدرجة البروز. كما يجيد الفنان كذلك التلاعب بمختلف الأشكال الهندسية سواء فى مسطحه بالكامل أو حتى فى تفاصيل القطع وعلاقة المساحات اللونية بعضها ببعض، ليأخذنا إلى الفن الإسلامى، أو الفن المصرى القديم وغير ذلك.
أما قراءة أعمال بنوى بدلالتها الفكرية والفلسفية فهذا أمر أخر، إذ تستدعى كل مجموعة من أعماله دلالات أدبية وفلسفية وإنسانية، ففى مجموعة الرسائل مثلا يأخذنا بنوى إلى بيوتنا وإلى السطح وإلى أجهزة الاستقبال المتناثرة من أطباق الدش والإريال، هذه الأشياء تشكل وعينا وتلتقط الإرسال وتعيد تصديره لنستقبله، لكن كل ما يتم بثه هو محكوم تماما بوعينا، الأمر ليس بسيطا أبدا، فقد يقودنا لكيفية هيمنة دول على دول أخرى فكريا،  أما مجموعة «رسائل الغفران» فعلى الرغم من أننا سنفكر على الفور فى رسالة أبى العلاء المعري، فإن رسالة الغفران هنا تتناول علاقة الإنسان بالسماء وأبواب الغفران وتسامح الإله مع أخطائنا، إذ يبدو العمل كرسالة مكتوبة، وتبدو القطع نفسها التى تشكل سطور الرسالة هى الأشخاص ذاتهم، فى حالة وجدانية طالبين الغفران من الله. أما فى عمله « العودة إلى السماء» يختار بنوى القارب مفردة أساسية للعبور، قائلا: وأنا صغير أردت أن يكون لى بيتا فى الماء، وأنا أعتبر القارب مثل البيت وليس مجرد وسيلة للانتقال، ولكننى هنا أعتبر القوارب  حاملات الحضارة، وأنا الآن لا أريد أن أخذ قواربى وأنزل إلى الماء، بل أريد أن أخذها وأصعد بها إلى السماء وأعود إلى حياتنا الأولى،  سنأخذ مركب ونعود إلى حضارتنا.
تعكس كثير من الأعمال علاقة وطيدة بالطبيعة.. بالماء والشمس والهواء ، وحين نفكر فى الماء فإننا نفكر فى النهر وفى حضارتنا ووادينا الطيب الذى نشأت عليه حضارتنا وهى الفكرة التى ألهمته العمل الذى قدمه فى بينالى فينيسيا الدولى للفنون فى دورته الخامسة والخمسين، وقد تم اختيار تلك الجدارية «الوادى»  ضمن أفضل خمسة أعمال موزاييك على مستوى العالم، من قبل الجمعية البريطانية للفسيفساء المعاصرة فى 2013.
إن ما قدمه بنوى، المدرس بكلية الفنون الجميلة، فى معرضه الأخير، سبقه رحلة طويلة من الإبداع والتجريب، تتخللها محطات مهمة عديدة، منها على سبيل المثال حصوله على منحة جائزة الدولة للإبداع الفنى بمقر الأكاديمية المصرية للفنون بروما  2006، وقد أتاحت له المنحة فرصة للاطلاع على ثقافة الآخر، ذلك بخلاف تأثره بثورة يناير التى قدم عنها عملا اعتبره نقلة فى تجربته الفنية، كما حصل فى 2018 على جائزة  الدولة التشجيعية فى التصوير الجداري، وهذا كله مجرد جانب صغير من سيرة فنية حافلة.
ولذا إن معرض «التعافى – ريمونتادا»  هو أكثر من معرض واحد، فهو خلاصة تلك التجربة الممتدة ، ولذا فلكل مجموعة من الأعمال مذاق خاص تحمل بصمة بنوي، تتشارك فى السمات العامة وتختلف فى التفاصيل، تتنوع فى شكل المسطح الكلى وفى شكل القطع وتوزيعها ومدلولها. ولكن الخلاصة أن بنوى يجيد انتزاع الأشياء العادية من سياقها التقليدى ليقدم معانى ودلالات جديدة أما على مستوى التشكيل فقد قدم تجربة متميزة لا تكفيها قراءة واحدة أبدا.