المواطنة حق وحياة| مسيحيون بـ«الجبة والقفطان».. حين كان للأزهر رواقا للأقباط

رواق الأزهر
رواق الأزهر

بين الماضي، والحاضر، والمستقبل، نجد أن المحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم، لأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها، وإن حياة الانسان لا تبتدئ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم..

 

وها هنا على أرض مصر، تجسدت المحبة في أكثر من موضع، وربما كان الجامع الأزهر الشريف - أقدم جامعة على ظهر البسطية - شاهدا حيا على المحبة بين قطبي الأمة المسلمين والمسيحيين، وعمل على إرساء مفهوم المحبة وقيم مثل التفاهم والتسامح، ونبذ الطائفية..

 

 

رواق الأقباط

والتاريخ المصري، مليء بما لا يدع مجالا للشك، بأن الأزهر كان مثالا حيا على المحبة، حيث احتضن أقباطا في أروقته قديما، وكان يوجد رواق يسمى «رواق الأقباط» داخل الجامع الأزهر، وسارع الكثيرون منهم للدراسة في رحابه وعلى أيادي شيوخه وفقهائه، وكان مخصصا للطلبة المصريين الأقباط من دارسي اللغة العربية والعلوم الشرعية ومنهم من تبوأ مناصب كبيرة في الدولة بعد ذلك مثل وزير صلاح الدين الأيوبي، الأسعد بن مماتي.

 

 

ويحكي الكاتب والمؤرخ المصري الدكتور حسين فوزي النجار، كيف أن الطلاب المسيحيين أقدموا بشوق على الدراسة في أروقة الأزهر، ويذكر أنه كانت هناك مدرسة بالزقازيق تسمى مدرسة عبد المسيح بك موسى للمرحلتين الابتدائية والثانوية، وكان ناظرها عزيز أفندي، وهو ممن درسوا في الأزهر، وتخرج فيه، وكانت ثقافته أزهريةً في أساسها.

 

اقرأ أيضا|  المواطنة حق وحياة| مسيحيون بـ«الجبة والقفطان».. حين كان للأزهر رواقا للأقباط

 

وفي العصر الحديث، كان الإمام محمد عبده، يعطي دروسه في الرواق العباسي بالأزهر، وكانت هناك طائفة من الشباب القبطي تقبل على دروسه، معجبةً بآرائه وتسامحه، حتى إن الإمام محمد عبده أشاد بهم.

 

أبناء العسال

ولكن إن تعمقنا في التاريخ قليلا، نجد عائلة أبناء العسال والتي تعد واحدة من أشهر العائلات القبطية، التي عاشت في القرنين السادس والسابع الهجريين، ودرست في رحاب الأزهر الشريف، وتلقى أبناؤها تعاليم الإسلام، واللغة العربية، فانعكست تلك الثقافة الإسلامية في كتاباتهم، وهي عائلة مصرية قبطية من العصور الوسطى اشتهرت بالعلم والثقافة في العصر المملوكي في مصر.

 

الدكتور أحمد مختار عمر أستاذ علم اللغة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، يقول عن أحد إصداراتهم، في كتابه «تاريخ اللغة العربية في مصر»: إن «كتاب الصفي العسال المسمى المجموع الصفوي، الذي يتناول فقه المذهب الصفوي، يتضح تأثر المؤلف بالفقه الإسلامي في تقسيم الكتاب إلى قسمين: عبادات، ومعاملات، وفي عناوين أبوابه، وحتى في تقريره للأحكام. وإليكم النص الذي يوضح هذه الفكرة، وهو عن آداب القاضي؛ فيقول الصفي العسال: ويساوي بين الخصمين في الدخول والجلوس، والإقبال عليهما، والإنصات إليهما، والمخاطبة لهما، والعدل في الحكم لهما أو عليهما».

 

ويعتقد أن عائلة أبناء العسال جاءت في الأصل من سدمنت الجبل، بمركز أهناسيا، محافظة بني سويف في صعيد مصر، لكنها انتقلت إلى القاهرة وعاشت فيها ونبغ منها عدد من الكتاب والعلماء، وعمل عدد منهم في مراكز رفيعة بالدولة حتى من أيام الأيوبيين، وشغل عدد منهم في مراكز عليا في الكنيسة، مثل الصفي أبو الفضائل، الذي كان كاتم أسرار مجمع تم تأسيسه في عهد البابا كيرلس بن لقلق لفض الخلاف الديني الكنسي الذي حدث وقتها. وتوجد مخطوطات منسوبة لأولاد العسال محفوظة في المركز الثقافي القبطي بالقاهرة، والذي يعمل على تجميع تراث مصر القبطي.

 

ميخائيل الصباغ

إلى جانب أبناء العسال، هناك أيضا ميخائيل بن نقولا الصباغ (1775-1816م)، وهو أحد علماء عكا الذي سافر إلى مصر ودرس فيها على أيادي شيوخها من المسلمين والأقباط. ويذكر محمود المقداد في كتابه تاريخ الدراسات العربية في فرنسا: «أن ميخائيل درس على يد أساتذة مصر، وممن ذكرهم الشيخ يوسف الخراشي الأزهري، أي أنه تعلم على أيدي علماء الأزهر».

 

 

اقرأ أيضا| المواطنة حق وحياة| أقباط في رحاب الأزهر.. وأزهريون تحت مظلة الكنيسة!

 

تادرس وهبي

بخلاف ميخائيل، هناك تادرس بن وهبة الطهطاوي المصري، الذي ولد في القاهرة وتوفي فيها، حيث تعلم اللغتين الفرنسية والأرمنية بمدرسة الأرمن بالقاهرة، والعربية والإنجليزية والإيطالية بمدرسة الأقباط، ثم التحق بالأزهر - مع كونه مسيحيًا - فحفظ القرآن الكريم ودرس علوم الحديث والفقه، وعمل مترجمًا بقلم الترجمة في نظارة المعارف، ثم مدرسًا بمدرسة الأقباط وترقى فيها إلى أن أصبح ناظر المدرسة، وشغل هذه الوظيفة حتى عام 1916. كما عكس شعره ثقافته التي جمعت بين المسيحية والإسلامية بتسامح كبير.

 

 

القمص سرجيوس

«الدين لله والوطن للجميع».. كان ذلك هو الهتاف الذي رددته الأمة بعد أن أطلقه القمص سرجيوس، في خضم ثورة 1919، الذى استطاع أن يجمع قلوب المصريين على قلب رجل واحد.. وكان أول قس قبطي يعتلي منبر الأزهر، لأول مرة خطيبا وداعياً إلى الثورة، فكان ذلك ظاهرة جديرة بالبقاء فى ذاكرة الأمة حتى الآن.

 

د. محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، كان له كتاب تضمن سيرة القمص، ومما ورد فيه: «أن البعض تعرف إلى شخصية سرجيوس لأول مرة من خلال فيلم «بين القصرين»، حيث عرض المخرج في نهاية الفيلم بعض المشاهد عن ثورة 1919 م، ومن هذه المشاهد يسترعى الانتباه هذا القس الذي يعتلى منبر المسجد خطيبًا للوطنية، ورمزًا للوحدة الوطنية في لحظة نادرة ومضيئة فى سجل أيامنا المصرية»، متابعا: «أن الأسلوب الثوري عند القمص سرجيوس فى خطاباته، تميز بأسلوب سلس ولاذع ومثير للجماهير في الوقت نفسه وربما ساعده على ذلك قربه الدائم من الناس عن طريق الوعظ والإرشاد، خاصة للفئات المتوسطة والفقيرة».

 

تفاصيل الكتاب، شملت الاعتقال والمنفى إلى رفح حتى نهاية الثورة وبداية الإحباط، وعلى الرغم من النشاط الديني والسياسي لسرجيوس، فلن يبقى في ذاكرة العقل الجمعي المصري إلا صورة سرجيوس على منبر الأزهر خطيبا في ثورة 1919 م، ورمزا للوحدة الوطنية.

 

 

إبراهيم شحاتة

وهناك العديد من الأقباط الذين درسوا في الأزهر الشريف وقدموا نماذج صالحة لمجتمعاتهم، ومنهم الصحفي القبطي جندي إبراهيم شحاتة (1864ـ 1928) صاحب جريدة الوطن والذي تلقى دروسه في أحد الكتاتيب الإسلامية في مدينة جرجا بصعيد مصر، كما درس في الأزهر تحت اسم إبراهيم الجندي فتلقى علوم اللغة العربية والشريعة الإسلامية، وفق كتاب «من المواقف الخالدة لعلماء الأزهر» للشيخ أحمد ربيع الأزهري، والذي يذكر كذلك القبطي تادرس بن وهبة الطهطاوي المصري (1860ـ 1934م) والذي التحق بالأزهر وحفظ القرآن الكريم ودرس علوم الفقه والحديث بل وكتب مؤلفات مثل: «الخلاصة الذهبية في اللغة العربية»، ورسالة أخرى هي: «عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق».

 

ميخائيل جرجس

ميخائيل جرجس، أحد أولئك أيضا الذين درسوا في الأزهر من عام 1885 وحتى 1891م، وهو من أهم الشمامسة في ذلك الوقت، وفي هذه الفترة أتقن علوم النحو والصرف والبيان، كما استمع إلى ألفية ابن مالك من الشيخ محمد بصرة، وخلال السنة الثانية من دراسته بالأزهر رأى البابا كيرلس في صوت هذا الناشئ وفي حفظه السليم لكل ما تلقَّنَه من الطقوس والألحان المؤهلات الوافية لرسامته شماسًا، ولما أتم ميخائيل دراسته بالأزهر عينه البابا مرتلا بالكاتدرائية المرقسية، ثم عينه أيضا مدرسا للألحان في الإكليريكية في 2 نوفمبر من عام 1893م.

 

فرنسيس العتر

أما أبرز من تردد على مجالس الشيخ محمد عبده في الأزهر، فكان فرنسيس بن بطرس العتر، والذي ولد في القاهرة وفيها توفى، وبدأ فرنسيس تلقي مبادئ القراءة والكتابة في أحد الكتاتيب الإسلامية؛ ثم درس اللاهوت والفلسفة، وأجاد اللغة القبطية، إلى جانب اللاتينية، والفرنسية، ثم تردد على حلقات الشيخ محمد عبده، التي كان يعقدها مساء كل يوم بالجامع الأزهر في الرواق العباسي، منذ عام 1902م حتى وفاة الإمام محمد عبده في عام 1905م.

 

مكرم عبيد

وهناك أيضا السياسي الوطني القبطي مكرم عبيد، الذي درس في الأزهر عامين في مقتبل حياته، فحفظ القرآن، وتلقي علوم الشريعة الإسلامية، حتى إنه كان يكسب معظم قضاياه أمام القضاء، لاعتماده على محفوظه من القرآن الكريم.

 

«عبيد» هو صاحب مقولة: «اللهم يارب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين»، في تفسير عبقرى لفكرة «المواطنة»، وربما من أفضل ما توارد عن عبيد، تفاصيل قضية بطلها اثنان من المواطنين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، والغريب أن القيادي الوفدي القبطي قد ترافع عن المواطن المسلم، رغم أن هذا المواطن قام بسب الدين للمواطن المسيحي.

 

 

كريستين زاهر حنا

أما حديثا وفي عصرنا الحالي، فهناك كريستين زاهر حنا، أستاذ مساعد مناهج وطرق تدريس اللغة العربية والدراسات الإسلامية، هي أول طالبة قبطية مسيحية تتخصص في اللغة العربية والدراسات الإسلامية على مستوى جامعات الجمهورية، ثم تصبح معيدة ثم أستاذا مساعدا، والتي حفظت ٣ سور من القرآن استجابة لشروط قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية التربية، وكان أصدقاء والدها المسلمون يساعدونها في فهم الفقه، حتى أن أبحاثها جاءت تحت عناوين: «الصوم في الإسلام والمسيحية» و«الطب النبوي» و«مكانة العلم في القرآن والسنة النبوية»، وفي كل بحث كانت تستند إلى آيات القرآن والأحاديث النبوية.

 

نبيل لوقا بباوي

إلى جانب كريستين، يعتبر الدكتور نبيل لوقا بباوي أول مسيحي يحصل على درجة الدكتوراه في علم الشريعة الإسلامية وقد أشرف عليها الدكتور محمود زقزوق وزير الأوقاف الأسبق، وقد صدر له العديد من المؤلفات في الشئون الإسلامية، منها: «محمد الرسول وادعاءات المفترين»، و«انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء»، و«الإرهاب ليس صناعة إسلامية»، و«زوجات الرسول والحقيقة والافتراء في سيرتهن»، و«الجزية على غير المسلمين.. عقوبة أم ضريبة»، و«الأقباط...هل ساعدوا المسلمين في فتح مصر».

 

«أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا.. لولا الشعور الناس كانوا كالدُّمى.. أحبب فيغدو الكوخ قصرا نيرا.. وابغض فيمسي الكون سجنا مظلما».. ويبدو بعد كل ما تقدم أن الكوخ كان قصرا نيرا، وأن الأزهر ضرب أمثلة كثيرة على الانفتاح والمساواة وعدم التمييز، ويبدو أن هناك تعاونا مازال مستمرا بين الأزهر والكنيسة، ولكن هل تلك النماذج لا تدفعنا نحو مزيد من التعاون، ولما لا يكون هناك توسع أكبر وتفاهمات أوسع، لكي نعيد أمجاد هذا التاريخ من المحبة والتقارب، للتسهيل على الدارسين من الأقباط للتعلم في رحاب الأزهر أو على يد فقهائه وعلمائه، أو العكس..

 

اقرأ أيضا| المواطنة حق وحياة| ما بين القبول والمنع.. أزهريون عن دراسة الأقباط في الأزهر

 

 

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي