كتب: مينا عادل جيد

تجلي

نصوص لـ مينا عادل جيد - صابر رشدى محمد الشحات
نصوص لـ مينا عادل جيد - صابر رشدى محمد الشحات

ابتدى‭ ‬النهار‭ ‬يميل،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬زحام‭ ‬عظيم‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬وقلوب‭ ‬الناس‭ ‬محلقة،‭ ‬معلقة‭ ‬أعينهم‭ ‬نحو‭ ‬السماء،‭ ‬كمراقبين‭ ‬فى‭ ‬مرصد‭ ‬فضائى،‭ ‬يتابعون‭ ‬الأجرام‭ ‬السماوية‭ ‬فى‭ ‬ظاهرة‭ ‬فلكية‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬وعيونهم‭ ‬كأنها‭ ‬تليسكوبات‭ ‬ترصدُ‭ ‬حركة‭ ‬كويكب‭ ‬عملاق‭ ‬من‭ ‬نار،‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬رؤيته‭ ‬بالعين‭ ‬المجردة‭ ‬يتجه‭ ‬نحو‭ ‬كوكبنا‭ ‬أسرع‭ ‬من‭ ‬الضوء،‭ ‬قادم‭ ‬بسرعة‭ ‬ملايين‭ ‬الأميال‭ ‬فى‭ ‬الثانية‭ ‬الواحدة،‭ ‬وقلوبهم‭ ‬يملؤها‭ ‬شعور‭ ‬بخير‭ ‬قريب‭ ‬منهم،‭ ‬لكنه‭ ‬غير‭ ‬مرئي،‭ ‬لم‭ ‬أستوعب‭ ‬سبب‭ ‬الزحام‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬واضح‭ ‬من‭ ‬النظرة‭ ‬الأولى،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الترقب‭ ‬والسرور،‭ ‬وهناك‭ ‬نشوة‭ ‬تصلهم‭ ‬بالسماء‭ ‬عبر‭ ‬خيط‭ ‬نور‭ ‬مصدره‭ ‬قلوبهم‭..‬

ورجل‭ ‬يقسم‭ ‬بالمصحف‭ ‬أنه‭ ‬رآها‭ ‬أمس‭ ‬تتجول‭ ‬بثقة‭ ‬على‭ ‬سور‭ )‬البطرخانة‭( ‬العتيق،‭ ‬فظنها‭ ‬شابة‭ ‬محطمة‭ ‬تحاول‭ ‬الانتحار،‭ ‬حاول‭ ‬منعها‭ ‬ولكنها‭ ‬اختفت،‭ ‬ثم‭ ‬عادت‭ ‬اليوم؛‭ ‬لتنفى‭ ‬شبهة‭ ‬الانتحار،‭ ‬وتسبب‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الزحام،‭ ‬والتدافع‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬التى‭ ‬تناحرت‭ ‬أيديهم‭ ‬المرفوعة‭ ‬نحو‭ ‬السماء،‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬غير‭ ‬واضح‭ ‬معالمه‭ ‬للجميع،‭ ‬ولا‭ ‬الجميع‭ ‬متفقون‭ ‬عليه‭!‬

تشبثت‭ ‬بيديّ‭ ‬الاثنتين‭ ‬الصغيرتين‭ ‬فى‭ ‬يد‭ ‬جدتى‭ ‬المجعَّد‭ ‬جلدها،‭ ‬ويزينها‭ ‬وشم‭ ‬صليب‭ ‬شبه‭ ‬باهت‭ ‬يصارع‭ ‬البقاء‭ ‬والزمن،‭ ‬كمن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬ملاذ‭ ‬يطمئنه‭ ‬من‭ ‬مهابة‭ ‬الموقف،‭ ‬أو‭ ‬ينشد‭ ‬معجزة‭ ‬فوق‭ ‬المعجزة‭ ‬تنهى‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التوتر‭ ‬حوله‭ ‬وداخله‭.‬

ومعلم‭ ‬الألحان‭ ‬القبطية‭ ‬بـ‭)‬البطرخانة(‭‬،‭ ‬رجل‭ ‬خمسينى‭ ‬فاقد‭ ‬نور‭ ‬عينيه‭ ‬منذ‭ ‬طفولته،‭ ‬اندفع‭ ‬كالذى‭ ‬لطش‭ ‬الخمر‭ ‬رأسه،‭ ‬ورتل‭ ‬بصوته‭ ‬الجهورى‭ ‬المحتقن‭ ‬بالبهجة‭ ‬والمخافة‭:‬

*‭ ‬فوق‭ ‬القباب‭ ‬سماء‭ ‬ثانية،‭ ‬حمامة‭ ‬حسنة‭ ‬منورة‭.‬

باب‭ ‬الخلاص،‭ ‬تابوت‭ ‬العهد،‭ ‬قدس‭ ‬الأقداس،‭ ‬الجوهرة‭.‬

ومثل‭ ‬الأطفال‭ ‬هتف‭ ‬من‭ ‬أعماقه‭ ‬رجل‭ ‬فلاح‭ ‬من‭ ‬نواحى‭ )‬البطرخانة(‭:‬

*‭ ‬السلام‭ ‬لك‭ ‬يا‭ )‬مريم‭( ‬يا‭ ‬زرع‭ ‬طاهر‭ ‬مبرور‭.. ‬السلام‭ ‬لك‭ ‬يا‭ )‬مريم‭( ‬يا‭ ‬ثمرة‭ ‬لذيذة‭ ‬طعمة‭.‬

وامرأة‭ ‬أخرى‭ ‬تبكى‭ ‬فى‭ ‬قلق؛‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ (‬العذراء‭) ‬مثل‭ ‬الآخرين،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬آتية‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬بعيد‭ ‬فور‭ ‬سماعها‭ ‬الخبر،‭ ‬إذًن‭ ‬فهى‭ ‬أولى‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬بترحاب‭ ‬أم‭ ‬النور‭ ‬وتجليها،‭ ‬وتتساءل‭ ‬بدموع‭ ‬قلبها‭ ‬ورجفة‭ ‬فى‭ ‬لسانها‭:‬

*‭ ‬أتحجبين‭ ‬وجهك‭ ‬عنى‭ ‬أنا؟‭! ‬حبيبتك‭ ‬أنا؟‭.. ‬أنا‭ ‬يا‭ ‬ست‭ ‬الناس‭ ‬نظرة‭ ‬تُحيينى‭.‬

وجارتنا‭ ‬المسلمة‭ (‬أم‭ ‬رضوان‭) ‬ترفع‭ ‬يدها‭ ‬اليابسة‭ ‬المشققة‭ ‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬كمن‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬فى‭ ‬صفحة‭ ‬عقلها‭ ‬إلا‭ ‬الوصال‭ ‬بالواصلين،‭ ‬وقالت‭:‬

عيالى‭ ‬عيالك‭ ‬يا‭ (‬أم‭ ‬النور‭)‬،‭ ‬والنبى‭ ‬تنجيهم‭!‬

وقام‭ ‬رجل‭ ‬بسيط‭ ‬مُلِحّ؛‭ ‬ليستدر‭ ‬عطفها،‭ ‬وقال‭:‬

وحياة‭ ‬العدرا،‭ ‬ما‭ ‬تكسفينى‭ ‬يا‭ ‬عدرا‭.‬

وفى‭ ‬فمه‭ ‬تدخلت‭ ‬زوجته‭ ‬تثنى‭ ‬على‭ ‬دعائه‭ ‬المُلح،‭ ‬ثم‭ ‬تغنى‭:‬

*‭ ‬هاجرين‭ ‬ديارنا‭ ‬وبيوتنا‭ ‬لأجل‭ ‬نزورك‭ ‬بقلوبنا‭.. ‬اشفعى‭ ‬عنا‭.. ‬اشفعى‭ ‬عنا‭.‬

الجميع‭ ‬ينتظر،‭ ‬ينظرون‭ ‬نحو‭ ‬قبة‭ (‬البطرخانة‭)‬،‭ ‬ويرتلون‭ ‬بصوت‭ ‬جماهيرى‭ ‬ملىء‭ ‬بالزهو‭ ‬والرجاء‭:‬

*‭ ‬رشوا‭ ‬الورد‭ ‬يا‭ ‬صبايا،‭ ‬رشوا‭ ‬الورد‭ ‬مع‭ ‬الياسمين،‭ ‬رشوا‭ ‬الورد‭ ‬يا‭ ‬صبايا‭ ‬للبتول‭ ‬نور‭ ‬العينين‭.‬

وإذ‭ ‬فجأة‭ ‬رأى‭ ‬الجمع‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬واقفين‭ ‬نورًا‭ ‬هائلًا‭ ‬قد‭ ‬فج‭ ‬َّمن‭ ‬قبة‭ ‬البطرخانة‭ ‬العملاقة،‭ ‬وأنار‭ ‬الشارع‭ ‬المسربل‭ ‬بالمغيب‭ ‬كشمس‭ ‬بيضاء‭ ‬جديدة‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬لتوه‭ ‬فى‭ ‬يوم‭ ‬عمل‭ ‬ثامن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استراح،‭ ‬والناس‭ ‬يصيحون‭ ‬كأن‭ ‬نجمهم‭ ‬المفضل‭ ‬قد‭ ‬أحرز‭ ‬هدفَ‭ ‬النصر‭ ‬فى‭ ‬مرمى‭ ‬خصم‭ ‬المنتخب‭ ‬الوطنى‭ ‬فى‭ ‬الدقيقة‭ (‬تسعين‭)‬،‭ ‬وجدتى‭ ‬تشد‭ ‬يدىّ؛‭ ‬لتجعلنى‭ ‬أرى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬المقدسة،‭ ‬والنادرة‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الكون،‭ ‬وتقول‭ ‬لى‭:‬

*‭ ‬أترى؟

لم‭ ‬أكن‭ ‬أرى‭ ‬شيئًا‭ ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬سوى‭ ‬نور‭ ‬هائل،‭ ‬ولكن‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬حولى‭ ‬يؤكدون‭ ‬أنهم‭ ‬يرون‭ (‬العذراء‭ ‬مريم‭) ‬بذاتها‭ ‬وعزتها‭ ‬تبارك‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬قبة‭ (‬البطرخانة‭) ‬شعبها‭ ‬المستثار‭ ‬المنفعل‭.‬

كاد‭ ‬يجن‭ ‬جنونى‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬أراها‭ ‬مثلهم‭!‬

ساعدتنى‭ ‬جدتي،‭ ‬ووصفت‭ ‬المشهد‭ ‬لى‭ ‬أنا،‭ ‬ونور‭ ‬عين‭ ‬معلم‭ (‬البطرخانة‭) ‬المنطفئ‭ ‬الذى‭ ‬يقف‭ ‬بجوارنا،‭ ‬وأنا‭ ‬أتخيل‭ ‬بينما‭ ‬المعلم‭ ‬ينظر‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬مرمى‭ ‬أعين‭ ‬الناظرين،‭ ‬ويقول‭ ‬لجدتى‭:‬

* لا‭ ‬داعى‭ ‬للوصف‭يا‭ ‬مقدسة‭.. ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬واضح‭ ‬كالشمس‭!‬

وفجأة‭ ‬توقف‭ ‬الزمن،‭ ‬وساد‭ ‬صمت‭ ‬كالموت‭ ‬حولي،‭ ‬واختفى‭ ‬صوت‭ ‬المتجمهرين‭ ‬بفعل‭ ‬فاعل‭ ‬كلى‭ ‬القدرة‭ ‬غير‭ ‬بشري،‭ ‬ورأيتها‭ ‬فى‭ ‬وسط‭ ‬نور‭ ‬كعينى‭ ‬الرب،‭ ‬كانت‭ ‬أضواء‭ ‬من‭ ‬نور‭ ‬الشمس،‭ ‬شابة‭ ‬جميلة‭ ‬فى‭ ‬العشرينيات‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬ووجهها‭ ‬مستدير‭ ‬ومضىء‭ ‬فى‭ ‬ثوب‭ ‬نورانى‭ ‬كالعباءة‭ ‬الطويلة‭ ‬الفضفاضة،‭ ‬وكل‭ ‬شىء‭ ‬فيها‭ ‬لونه‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الثلج‭ ‬من‭ ‬الثلج‭ ‬نفسه،‭ ‬تشبه‭ ‬تمثالًا‭ ‬من‭ ‬الرخام‭ ‬المجلى‭ ‬الذى‭ ‬يكسب‭ ‬الحجر‭ ‬جمالًا‭ ‬وعظمة‭ ‬وحياة،‭ ‬تدور‭ ‬بجسدها‭ ‬الرشيق‭ ‬فى‭ ‬مكانها‭ ‬تبارك‭ ‬الجموع،‭ ‬وتبتسم‭ ‬لهم‭ ‬فى‭ ‬حنو‭ ‬ملكة‭ ‬رحيمة‭ ‬على‭ ‬شعبها‭ ‬الجائع‭. ‬

وعاد‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬ذهنى‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وسمعت‭ ‬صوت‭ ‬زغاريد‭ ‬الناس‭ ‬وتهليلهم‭ ‬حلو‭ ‬حولى‭ ‬وصاخب،‭ ‬يفرح‭ ‬الآذان‭ ‬ويؤلمها،‭ ‬استمرت‭ ‬فى‭ ‬التجلى‭ ‬لمريديها‭ ‬قرابة‭ ‬النصف‭ ‬ساعة،‭ ‬ثم‭ ‬ذهبت،‭ ‬ذهبت‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬هدأت‭ ‬العاصفة‭ ‬العاطفية‭ ‬التى‭ ‬صنعوها‭ ‬الناس‭ ‬بدعائهم،‭ ‬وبصياحهم‭ ‬وحماسهم‭ ‬وتراتيلهم،‭ ‬تساءلت‭: ‬هل‭ ‬حقًا‭ ‬رأيتها،‭ ‬أم‭ ‬توهمت‭ ‬ذلك‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬أتعارض‭ ‬مع‭ ‬رجاء‭ ‬قلوب‭ ‬جموع‭ ‬الناظرين؟‭ ‬وإن‭ ‬توهمَ‭ ‬لى،‭ ‬فما‭ ‬سر‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬المجهولة‭ ‬التى‭ ‬ملأت‭ ‬قلبى‭ ‬سموًا‭ ‬وسلامًا‭ ‬وخفة،‭ ‬رغم‭ ‬عشوائية‭ ‬حركة‭ ‬الناس‭ ‬شبه‭ ‬الهمجية؟‭!‬

لا‭ ‬أتذكر‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬اليقين‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬رأيتها،‭ ‬أم‭ ‬عقلى‭ ‬صور‭ ‬لى‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكنى‭ ‬أتذكر‭ ‬جيدًا‭ ‬لونها‭ ‬الأنصع‭ ‬من‭ ‬الثلج،‭ ‬ونورها‭ ‬الأزهى‭ ‬من‭ ‬القمر،‭ ‬وتواضعها‭ ‬الجمّ‭ ‬رغم‭ ‬مكانتها‭ ‬العالية‭ ‬ورفعة‭ ‬مقامها،‭ ‬وأتذكر‭ ‬أن‭ ‬جدتى‭ ‬وضعتنى‭ ‬فى‭ ‬حجرها‭ ‬بعد‭ ‬مظاهرة‭ ‬التجلى‭ ‬الكونية‭ ‬هذه،‭ ‬وربتت‭ ‬على‭ ‬شعرى‭ ‬حتى‭ ‬نمت،‭ ‬وهى‭ ‬تغنى‭ ‬بالصعيدى‭ : ‬

*‭ ‬ماحدش‭ ‬جناكي‭... ‬نخلتك‭ ‬يا‭ ‬عدرا‭ ... ‬ماحدش‭ ‬جناكى‭.‬ جناها‭ ‬ولدى‭ ‬يا‭ ‬عدرا‭... ‬ونام‭ ‬فى‭ ‬هواكى‭. ‬ ونمت‭..‬ أو‭ ‬أكملت‭ ‬أحلام‭ ‬نومي‭..‬ إن‭ ‬كنت‭ ‬تريد‭ ‬الحق‭.. ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬بالضبط‭..‬