ابتدى النهار يميل، وكان هناك زحام عظيم فى كل مكان، وقلوب الناس محلقة، معلقة أعينهم نحو السماء، كمراقبين فى مرصد فضائى، يتابعون الأجرام السماوية فى ظاهرة فلكية فريدة من نوعها، وعيونهم كأنها تليسكوبات ترصدُ حركة كويكب عملاق من نار، على حدود رؤيته بالعين المجردة يتجه نحو كوكبنا أسرع من الضوء، قادم بسرعة ملايين الأميال فى الثانية الواحدة، وقلوبهم يملؤها شعور بخير قريب منهم، لكنه غير مرئي، لم أستوعب سبب الزحام على نحو واضح من النظرة الأولى، ولكن كل الناس فى حالة من الترقب والسرور، وهناك نشوة تصلهم بالسماء عبر خيط نور مصدره قلوبهم..
ورجل يقسم بالمصحف أنه رآها أمس تتجول بثقة على سور )البطرخانة( العتيق، فظنها شابة محطمة تحاول الانتحار، حاول منعها ولكنها اختفت، ثم عادت اليوم؛ لتنفى شبهة الانتحار، وتسبب كل هذا الزحام، والتدافع بين الناس التى تناحرت أيديهم المرفوعة نحو السماء، تشير إلى شيء ما غير واضح معالمه للجميع، ولا الجميع متفقون عليه!
تشبثت بيديّ الاثنتين الصغيرتين فى يد جدتى المجعَّد جلدها، ويزينها وشم صليب شبه باهت يصارع البقاء والزمن، كمن يبحث عن ملاذ يطمئنه من مهابة الموقف، أو ينشد معجزة فوق المعجزة تنهى كل هذا التوتر حوله وداخله.
ومعلم الألحان القبطية بـ)البطرخانة(، رجل خمسينى فاقد نور عينيه منذ طفولته، اندفع كالذى لطش الخمر رأسه، ورتل بصوته الجهورى المحتقن بالبهجة والمخافة:
* فوق القباب سماء ثانية، حمامة حسنة منورة.
باب الخلاص، تابوت العهد، قدس الأقداس، الجوهرة.
ومثل الأطفال هتف من أعماقه رجل فلاح من نواحى )البطرخانة(:
* السلام لك يا )مريم( يا زرع طاهر مبرور.. السلام لك يا )مريم( يا ثمرة لذيذة طعمة.
وامرأة أخرى تبكى فى قلق؛ لأنها لا تتمكن من رؤية (العذراء) مثل الآخرين، رغم أنها آتية لها من بلد بعيد فور سماعها الخبر، إذًن فهى أولى من الآخرين بترحاب أم النور وتجليها، وتتساءل بدموع قلبها ورجفة فى لسانها:
* أتحجبين وجهك عنى أنا؟! حبيبتك أنا؟.. أنا يا ست الناس نظرة تُحيينى.
وجارتنا المسلمة (أم رضوان) ترفع يدها اليابسة المشققة نحو السماء كمن لا ترى فى صفحة عقلها إلا الوصال بالواصلين، وقالت:
عيالى عيالك يا (أم النور)، والنبى تنجيهم!
وقام رجل بسيط مُلِحّ؛ ليستدر عطفها، وقال:
وحياة العدرا، ما تكسفينى يا عدرا.
وفى فمه تدخلت زوجته تثنى على دعائه المُلح، ثم تغنى:
* هاجرين ديارنا وبيوتنا لأجل نزورك بقلوبنا.. اشفعى عنا.. اشفعى عنا.
الجميع ينتظر، ينظرون نحو قبة (البطرخانة)، ويرتلون بصوت جماهيرى ملىء بالزهو والرجاء:
* رشوا الورد يا صبايا، رشوا الورد مع الياسمين، رشوا الورد يا صبايا للبتول نور العينين.
وإذ فجأة رأى الجمع الذين كانوا واقفين نورًا هائلًا قد فج َّمن قبة البطرخانة العملاقة، وأنار الشارع المسربل بالمغيب كشمس بيضاء جديدة خلقها الله لتوه فى يوم عمل ثامن بعد أن استراح، والناس يصيحون كأن نجمهم المفضل قد أحرز هدفَ النصر فى مرمى خصم المنتخب الوطنى فى الدقيقة (تسعين)، وجدتى تشد يدىّ؛ لتجعلنى أرى هذه اللحظة المقدسة، والنادرة من عمر الكون، وتقول لى:
* أترى؟
لم أكن أرى شيئًا فى البداية سوى نور هائل، ولكن جميع من حولى يؤكدون أنهم يرون (العذراء مريم) بذاتها وعزتها تبارك من على قبة (البطرخانة) شعبها المستثار المنفعل.
كاد يجن جنونى كيف لا أراها مثلهم!
ساعدتنى جدتي، ووصفت المشهد لى أنا، ونور عين معلم (البطرخانة) المنطفئ الذى يقف بجوارنا، وأنا أتخيل بينما المعلم ينظر بعيدًا عن مرمى أعين الناظرين، ويقول لجدتى:
* لا داعى للوصف يا مقدسة.. كل شىء واضح كالشمس!
وفجأة توقف الزمن، وساد صمت كالموت حولي، واختفى صوت المتجمهرين بفعل فاعل كلى القدرة غير بشري، ورأيتها فى وسط نور كعينى الرب، كانت أضواء من نور الشمس، شابة جميلة فى العشرينيات من عمرها، ووجهها مستدير ومضىء فى ثوب نورانى كالعباءة الطويلة الفضفاضة، وكل شىء فيها لونه أقرب إلى الثلج من الثلج نفسه، تشبه تمثالًا من الرخام المجلى الذى يكسب الحجر جمالًا وعظمة وحياة، تدور بجسدها الرشيق فى مكانها تبارك الجموع، وتبتسم لهم فى حنو ملكة رحيمة على شعبها الجائع.
وعاد الواقع إلى ذهنى مرة أخرى، وسمعت صوت زغاريد الناس وتهليلهم حلو حولى وصاخب، يفرح الآذان ويؤلمها، استمرت فى التجلى لمريديها قرابة النصف ساعة، ثم ذهبت، ذهبت ولم تعد.
وبعد أن هدأت العاصفة العاطفية التى صنعوها الناس بدعائهم، وبصياحهم وحماسهم وتراتيلهم، تساءلت: هل حقًا رأيتها، أم توهمت ذلك كى لا أتعارض مع رجاء قلوب جموع الناظرين؟ وإن توهمَ لى، فما سر هذه القوة المجهولة التى ملأت قلبى سموًا وسلامًا وخفة، رغم عشوائية حركة الناس شبه الهمجية؟!
لا أتذكر على وجه اليقين إن كنت رأيتها، أم عقلى صور لى ذلك، ولكنى أتذكر جيدًا لونها الأنصع من الثلج، ونورها الأزهى من القمر، وتواضعها الجمّ رغم مكانتها العالية ورفعة مقامها، وأتذكر أن جدتى وضعتنى فى حجرها بعد مظاهرة التجلى الكونية هذه، وربتت على شعرى حتى نمت، وهى تغنى بالصعيدى :
* ماحدش جناكي... نخلتك يا عدرا ... ماحدش جناكى. جناها ولدى يا عدرا... ونام فى هواكى. ونمت.. أو أكملت أحلام نومي.. إن كنت تريد الحق.. أنا لا أتذكر بالضبط..