بستان الكتب

رسائل سيلفيا بلاث: سيرة الألم الفادح

سيلفيا بلاث
سيلفيا بلاث

كتب -  ممدوح فراج النابى: 

تمثّل كتابة الذّات (بصفة عامة) وتحديدًا الرّسائل الشخصية (بصفة خاصة) أهمية كُبرى لمؤرخى الأدب ودارسيه على حدٍّ سواء؛ فالرّسائل الشخصية – ببوحها وفضفضتها اللامحدوديْن - تكشف الأبعاد المُضمرة للشخصيات، وكذلك السياقات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعية التى ارتبطت بالزمن المستعاد أو الزمن المفقود. كما أنها تُقدّم المراحل الهامة التى ساهمت فى نحت مسار التكوين النفسيّ للشخصيّة، وفى سبيل ذلك تسعى – دون قصد بالطبع – لأن تُقدّم صورة لتطورات الشخصيّة، وتحولاتها من الحبّ إلى الكراهية، والقوة إلى الضعف، والإقبال على الحياة إلى الانسحاب منها، والمرح إلى الاكتئاب.

فإذا كانت كتابة الذّات - بصفة عامة - بمثابة الإطلاع على التاريخ من أسفل - بمصطلح جيم شارب - فإنّ الرّسائل – بصفة خاصّة - بمثابة الإطلاع على التاريخ المخفى، أو المسكوت عنه، للصفوة وليس للمهمّشِين، على نحو نقيض لما كرّسته مقولة جيم شارب، بردّ الاعتبار للمهمّشين.

الأنا هو الآخر

علاوة على أنها تكشف الصُّورة الخفيّة للحياة الشخصيّة عبر رسائل خاصّة تأخذ طابع الخصوصيّة بين المُرسِل والمُرسَل إليه، فالأساس الأوّل لكتابتها هو الكتمان بعدم إذاعتها على الناس، ومن ثمّ تكتسى طابع الصّدق فى البوح والجرأة فى المصارحة والمكاشفة، أكثر من الكتابات التى تنتمى إلى السيرة الذاتيّة الخالصة، فالأخيرة تكتنفها إكراهات كثيرة تحول دون قول الصدق الخالص، فبقدر ما هى كتابة عن الذات باستعادتها تارة ومواجهتها تارة ثانية، فأيضًا هى كتابة عن الآخرين، حيث تتكسر الحدود بين الذّات والآخر، ويصبح التمييز بينهما عسيرًا، فكما يقول أرثر رامبو اأنا آخرب، فيحضر هذا الآخر الذى شاركه مسيرته أو تقاطع مع تجربته الحياتيّة أو العلميّة، ومن ثمّ تخضع  فى كثير منها - لمبدأ الانتخاب، الذى يقوم بفرز أو تنحيّة ما قد يُظن أنه يسبب ضررًا لمن ترد أسماؤهم فى السيرة، إضافة إلى ذلك يمكن الأخذ فى الاعتبار عامل هشاشة الذاكرة (أى ضعفها بسبب طبيعة المرحلة العمريّة التى يدوّن فيها صاحب السيرة حياته، وهى عادة تكون متأخّرة جدًّا، فثمة مسافة زمانية بين زمن الوقائع وزمن استعادتها / سردها) كعامل مهم وجوهرى فى غياب الكثير من الحقائق، بعكس الرّسائل التى تُسجَّل آنيّا، ولا يعتريها الحذف أو التعديل، ومن ثمّ فنبرة أصدق أعلى، والبوح أَجْلى.

ثمة فارق جوهرى بين الرسائل وأشكال كتابة الذات الأخرى كالسيرة والمذكرات، أن الذات ذ فى السيرة الذاتية، أو المذكرات - وهى تستحضر الماضى الخاص بها تكون فى الغالب فريسة الحنين لما انتهى وانقضى، لذا نراها تعيد تشكيل هذا الماضى فى صورة جديدة، لا وفقًا لما ترسّخ فى الوعى (كما كان) وإنما حسب ما تريده أن يكون فى اللاوعى. فى حين الرسائل شأنها شأن اليوميات - لا تستدعى الماضى، بل تسجّل الحاضر فى لحظة تجلّيه، دون أن يخضع الخطاب للمراجعة أو التغيير بالحذف والاستبدال أو حتى العدول عما احتواه من آراء وتصريحات، بل هى دفقة شعورية واحدة فى لحظة خاصّة جدًّا، وهو الأمر الذى يَدفع - فى كثير من الأحيان - الورثة لرفض نشر الرسائل الخاصة، واعتبار نشرها نوعًا من الفضائح، وهتك الأسرار؛ فيضطرون إلى إعدامها تمامًا.

ثمّة فارق آخر، يتمثّل فى أن الذات وهى تجتر حكايتها، قد يتنوّع غرضها بين استعادة الذات، ومراجعة مسيرتها، وأيضًا السعى لاكتشافها وإثبات خصوصية هويتها ومن ثمّ يكون التساؤل أمام نُقاد السيرة: هل تكتب الذات لتتحرر أم لتحرَّر؟ فى حين أن الذات (وتحديدًا المثخنة بالطعنات) وهى تكتب الرسائل أشبه بالطائر الذبيح، وهو يتعلق برمق الحياة الوحيد؛ تريد أن تتواصل مع الآخر(المرسل له) فالتواصل بالنسبة لها طوق النجاة أو الحياة، فنرى وصفًا للذات فى كافة تجلياتها؛ الفرح والحزن، الانطلاق الاكتئاب، الحبّ الكراهية.تعلى عكس السيرة التى يكون كاتبها حذرًا جدًّا وهو يفصح عن ذاته، حتى فى لحظات ضعفها وانكسارها وهزائمها، فما يسرده لنا منتقيًّا، وخاضعًا لمبدأ الانتخاب والانتقاء، الذى يعمل على غربلة ما يود نشره.

فى ظنى تقترب الرّسائل من اليوميات فى طبيعة تسجيلها للواقع والأحداث بتواريخ محدّدة، حتى ولو لم تكن متوالية كاليوميات، وأيضًا تقترب - بدرجة أو بأكثر - من الاعترافات، بحكم انطوائها على عقد [ميثاق] غير مُصرَّح به بين المرسِل والمرسَل له، بالتصريح بالمواقف العاطفيّة والنفسيّة، وبتسجيل دقيق ذ وإن كان على فترات ذ للحياة اليومية وما تواجهه الذات من مسرات وأحزان، ونجاحات وإخفاقات.

ميثاق العقد غير المصرَّح به هو التكتُّم والسّريّة؛ لأنّها موجَّهة لأشخاص محدودين ومحكومين بدرجة قُرْب (كأحد أفراد الأسرة أو الحبيب/ أو حتى الطبيب الشخصي) تسمح - فى المقام الأوّل بالبوح، وما يترتب على هذا البوح من حفظ الأسرار. على عكس الاعترافات التى يكون نشرها بمثابة إعلان لها، فالفارق أن نشر الاعترافات يكون بمثابة عملية تطهير وعلاج للنفس المـُثخَنة بالجراح، أما الرسائل فلا تبغى التطهير بقدر ما تبحث عن أجوبة لحَيْرتها وتساؤلاتها، ولكن مِن أشخاص موثوق بهم. وأحيانًا لا تبغى شيئًا سوى البوح وفقط.

لذلك كله تلقى الرّسائل الشّخصيّة صدىً أوسع لدى المتلقى عن مثيلاتها من أشكال كتابة الذّات كالسير الذاتيّة، والمذكرات والاعترافات وغيرهم، وعندما يتمُّ اكتشافها تكون بمثابة الحدث المهمّ الذى ينتظره الجميع، وتتكالب عليه دور النشر؛ لأنّ ذ حتمًا - ثمّة جديدًا سيُكتشف من بين سطورها، وما تتضمنه من أسرار وعلاقات لم تكن معلومة من قبل.

الشاعرة المغدورة

ولدت الشاعرة سيلفيا بلاث فى بوسطن فى عام 1932، لأب بولندى كان بروفيسورًا فى علم الأحياء، وأم من أصل نمساوى، كتبت الشعر فى سن مبكّر جدًّا، فازت عام 1952 بجائزة مجلة امدام مدموزيل للكتابة السردية. فى الرسائل التى حملت عنوان (رسائل سيلفيا بلاث (1840- 1963))، والتى صدرت ترجمتها مؤخرًا عن منشورات تكوين أيلول 2019 بتقديم وتحرير فاطمة نعيمى، نحن أمام تفاصيل دقيقة للحياة المأساوية التى عاشتها الشاعرة المغدورة بعد زواجها من الشّاعر البريطانى تيد هيوز (1930 - 1998)، الذى كتبتْ عنه فى رسالة لأمها بعد لقائهما الأوّل فى حفل هكذا: اكتبتُ عنه قصيدتى الأجملب، وتارة ثانية تصفه بأنه االرجل الوحيد فى العالمب، ثمّ وصفته ذ بعد ذلك فى إحدى رسائلها إلى طبيبتها الخاصّة بيوشر - بأنه ارجل ميتب، وما بين رسالتها الأولى لأمها، ورسائلها الأخيرة لطبيبتها، عالم من الغرائبية عن حياة المثقف بعيدًا عن الصُّورة المثاليّة التى يتخيُّلها (أو يصنعها) القراء عنه.

الكتاب جاء فى خمسة أقسام، شغل كل قسم جانبًا من حياتها، منذ طفولتها إلى أزمتها مع زوجها التى انتهت بانتحارها، وفى نهاية الكتاب ملحق بالصور، القسم الأخير يُظهر معاناة سيلفيا من زوجها، وهو واضح فى جملة الرسائل التى تبادلتها مع طبيبتها، وكانت تطلب منها المشورة والعلاج بعد تفاقم الصّدام بينهما، وبدئها فى إجراءات الطلاق.

 المجلدات ظهرت مؤخّرًا تباعًا، فظهر المجلد الأول فى عام 2017، وكشفتْ فيه عن الحياة المضطربة التى كانت تعيشها، الغريب أن الرسائل بدأت فى سن مبكّر جدًّا، كانت فيها فى بيت جدها. أخذت الرسائل فى مرحلة الدراسة شكل اليوميات، حيث كانت تُرسل رسائل إلى أمها وأخيها وباقى أفراد الأسرة بصفة شبه يوميّة، تُطلعنا عبرها عن قائمة بالأنشطة اليومية الأساسيّة من تفاصيل الوجبات والسباحة والتنزُّه إلى ممارستها للفنون والحرف اليدوية. وكأنها تسجّل عبر الرسائل لحياتها بعيدة عن المنزل. وفى مرحلة لاحقة تقدّم تفاصيل الحياة الزوجيّة، وعلاقاتها المتعدّدة بروبرت جورج ريدمان، وديك ربورت همفرى. بالطبع قبل زواجها من تيد.

الرّسائل فى قسمها الأخير كأنها تفكيك لأسطورة الشّاعر المُثقف. فسيلفيا تُقدّم هيوز على أنه رجل أنانى، خالى من المسؤولية، حتى أنها تشبه علاقتهما وكأنه أرادها ابستانى لحديقته لا يهتم بشيء، سوى كتاباته، ونزواته الشخصية، التى كانت سببًا لألم داخلى آل بها إلى النهاية الفاجعة، وهو ما ترتب عليه أن يكون كاذبًا لوقت طويل. كما تستعرض لوحشيته أو عنفه؛ معنويًّا بتحقيره لفظيًّا من شأنها فصارت االنحس والسلسلة التى تخنقه، وجسديًّا بالاعتداء عليها بالضرب، وهو ما سبّب لها الإجهاض كما حكت لطبيبتها بيوشر فى إحدى رسائلها.

تبدأ المعاناة الحقيقية لسيلفيا مع اكتشاف خيانته لها مع اآسيا وايفلب التى كانت متزوجة فى ذلك الوقت زيجتها الثالثة. ما زاد من معاناة سيلفيا وقادها لأن تضع رأسها فى فرن الغاز، هو ليس فشلها فى استرداده، وإنما فى أنانية الشاعر ونذالته. الغريب أن دور الشاعر السلبى فى حياتها لم يتوقف وهما معًا، بل مارسه بعد انتحارها، باتلاف الكثير من رسائلها ويومياتها، وأيضًا بحظره نشر أى جزء من كتاباتها، مبررًا تصرفه هكذا: القد مزقته، أو مزقت أجزاء منه لأننى لم أرد لأولادى أن يقرأوهب.

الأم الملاذ

الرسائل تتوزّع على شخصيات كثيرة من أفراد عائلتها وأصدقائها كمارغو دريكماير، لكن المحور الأساسى شخصية الأم، فمعظم الرسائل مُرسلة إليها، وتسرد لها كافة التفاصيل التى تعيشها يومًا بيوم. كما لا تنسى فى رسائلها أن تتحدث لكل معارفها، عن حياتها، بعد الزواج. ترسل سيلفيا حسب قولها لأمها، كل يوم، وفى المقابل تُرسل الأم لها، لكن رسائل الأم غير موجودة، وعندما لم تصلها رسالة منها تَشعر بالقلق على نحو ما عبّرت فى رسالة الأحد 19 يوليو 1943 لم أتلقَ رسالة منك أمس، أتمنى أن تكونى على ما يرامب. تبدأ رسالتها عادة بأمى العزيزة، أو أمى الأعز، وتنهيها بحبى، الكثير من الحب، وقبلاتى وأحبك بشدة فى بعض الرسائل. قليل من الرسائل التى ترسلها بصيغة مشتركة لأمها وأخيها، كما فى رسالة 5 يوليو 1945.

كانت أوّل رسالة لها بتاريخ 19 فبرلير 1940، أى أنها كانت فى سن الثامنة، أرسلتها لأبيها اأوتو بلاثب تخبره فيها بأنها ستعود إلى المنزل قريبًا، وتسأله سؤالاً غريبًا: هل أنت سعيد بقدري؟ مضمون الرسالة الآخر لا يشير إلى معنى هذا التساؤل، وإن كان يُفهم منه بسبب بعدهما عن بعض، حيث كانت تقيم عند بيت جدها. ثم بعد ثلاث سنوات من رسالتها لأبيها - وكان قد مات بسبب مرضه - أرسلت رسالتها الثانية لأمها اأوريليا شوبر بلاثب فى يناير 1943. فى رسالتها لأبيها تخبره عن رسالة كتبتها لأمها، وتطلب منه أن يقرأها منها. لكن لا أثر لهذه الرسالة وما هو مضمونها، تكشف الرسائل عن العلاقة الوطيدة بينها وبين أمها، بالطبع لو استمرت حياة الأب لكان هناك الكثير من الرسائل بينهما. المثير حقًّا أن غياب الأب فى الرسائل قابله حضور طاغٍ فى قصائدها الشعرية، وكأنها عملت على إعادة تركيب الأب الذى لم تعرفه، إذْ صار غيابه رمزًا لغياب الحياة نفسها.

علاقتها الوطيدة بالأم تتكشف من الرسالة الثانية، فالابنة تسجل لأمها وقائع حياتها وهى بعيدة عنها بالتفصيل، فتقدم لها كشف حساب بنفقاتها، وتحدد لها الوقت، وماذا تفعل، وكم ساعة اقتطعتها فى ممارسة هوايتها فى لعب التنس والموسيقى اقضيت ثلاث أرباع الساعة فى الموسيقى... . كما أن توجيهات الأم حاضرة معها وهى بعيدة، فتخبرها بأنها أكلت وجبة الإفطار بالكامل، وذهبت إلى المدرسة، وأثناء ممارستها العزف مع مارشا، أنها استخدمت أصابعها كما علّمتها وظلت تقول: آهذا هو ما تريده أمى منى فعله.

فى معظم رسائلها لأمها تتكرّر هذه التفاصيل الحياتيّة (الاستيقاط / الفطور / الاستحمام / المذاكرة / ممارسة الهواية / قراءة الكتب / والعزف والاستماع إلى الموسيقى) بالتواريخ والساعات أيضًا. الرسائل المزدوجة تتكرر مرة للأم والأخ معًا، وبالمثل ترسل رسالة مشتركة للجد والجدة. تغيّر اسمها إلى شيرى بدءًا من رسالتها إلى أمها 28 يونيو 1947 أثناء تواجدها فى معسكر صيفى. 

سليفيا ضدّ الحرب

القسم الأول من رسائلها لم يتجاوز نطاق أسرتها وأصدقائها، فمجمل الرسائل عن يومياتها، خاصّة فى الفترة التى قضتها فى المخيم، وهواياتها فى جمع الطوابع، وهناك رسالة لعمتيها كشكر على هدايا. فى القسم الثانى من الرسائل، والتى تشغل الفترة من 1946 ذ 1950، تبدأ فى كتابة القصص، والرسم. ومن الملامح المميزة للقسم الثانى هو ظهور الصديق الألمانى هانز يواكيم نيوبرت، حيث يتبادلان الرسائل، خاصّة بعد إبداء رغبتها فى التواصل مع شاب أمريكى، تختار هى رسالته وتتواصل معه، قدمت له أولاً نفسها ودراستها، إلا أنها كشفت عن إيديولوجيتها فى رفض الحرب، ونبذ العنف، وأيضًا كشفت عن عنصريتها ليس بالمعنى السلبى وإنما سعت إلى تصحيح الصُّور المغلوطة عن الشباب الأمريكى من خلال ما قدمته عن نفسها. تتواصل معه بالرسائل، فتحكى له عن عادات الطعام والشراب، وتصف له عطلة الصيف ونظام الدراسة عندها، وبالمثل يجاوبها هو فى رسالة غير معلومة بالنسبة لنا عن الحياة بعد الحرب، وعادات الطعام وغيرها. ويتبادلان الآراء فى القراءات والهوايات والموسيقى المُفضلة ومواقفهما من الحرب، وتنقل له صورة مصغرة عن الحياة التى يحياها الشباب فى أمريكا، ووسائل الترفيه وما يشغلهم، وفى بعضها تشير إلى التحولات التى حدثت مع دخول الميديا، كالراديو والتليفزيون، وتأثيراتهما السلبية بالطبع.

تؤكّد له فى أكثر من مرّة عن رفضها لفكرة الحرب، وترى أن الحروب كارثية وغير ضرورية، وغير عقلانية وتعلن عن دعوتها لأن ينبذ الجنس البشرى الكراهية والحقد بسبب الثروة والأرض والسلطة، ويكرِّس طاقته لتعزيز الأخوة فى جميع أنحاء العالم. فالحياة بالنسبة لها مقدّسة فكما تقول: اأنا إنسان ولدى تقديس كبير للحياة وسلامة الفردب، ومن ثم يأتى التساؤل لماذا أقدمت على الانتحار، وما هو الضغط الذى كان صعبًا عليها تحمله؟ تكشف رسائل الفترة عن شخصيتها فى مخالفتها لسائر الفتيات اللاتى لا يفكرنّ إلا فى فساتين الحفلات، والأولاد الذين يهتمون بالمال فقط والوجوه الجميلة، هى على العكس تمامًا، تفكّر فى الرفقة الروحيّة وتراها ضرورية للغاية فى عالم تسيطر عليه السطحيّة.

مع منتصف القسم الثالث من الرسائل التى تشغل الفترة (1951- 1956)، وهى الفترة التى كانت فيها روث فى الجامعة بدأت تظهر عليها أعراض الاكتئاب، ففى رسالتها إلى أمها بتاريخ السبت 14 يونيه 1952، بدأت تترجى الأم أن تكتب لها، لأنها كما تقول: افى حالة خطيرة من الشعور بالأسى على نفسىب . ثمّ تزداد حدة الشعور بالحزن مع الرسائل اللاحقة، ومن ثمّ تفقد قدرتها على الذهاب للسباحة. كما يتضمن هذا الجزء من الرسائل نصائحها لأخيها بعد حصوله على منحة جامعة هارفارد.

الشعر الاعترافى

فى رسالتها المؤرخة فى يوم الخميس 29 أبريل 1956 يظهر الشاعر تيد هيوز، وتوضح لأمها مدى انبهارها به هكذا الم ألتقِ برجل مثله يومًاب، وفى رسالة لأخيها (وران) وجاءت بعد شهرين من رسالتها لأمها فى الإثنين 18 يونيو 1956، تحكى له عن زواجها السّرى به، وانبهارها الفائق لدرجة أنها تقول فى تبرير زواجها السري: القد وجدت أخيرًا الرجل الوحيد المناسب لى فى العالمب. تتجاوز الرسالة إعجابها إلى إظهار جماليات شعره، بل تضعه فى مقارنة مع شعراء آخرين، فتذكر أنها قابلت الكثير من الكتَّاب إلا أنهم أشبه بالأقزام أمام هذا الرجل. كما تسرد عن حياته الشخصية وهواياته ..إلخ. كما سردت فى جزء كبير من الرسائل الحياة مع تيد، وتعلُّمه للإسبانية على يد عجوز. وتنقلاتهما فى الأسواق، وغيرها.

رسائل سيلفيا بلاث التى هى أشبه باعترافات عمّا عانته فى حياتها المضطربة مع زوجها، وهو ما آل بانهيارها العصبى، تعد جزءًا من إبداعها الشعرى، ولا تنفصل عنه، ففى شعرها كانت تميل إلى الشعر الاعترافى، خاصّة بعد اكتشافها لقصدية روبرت لويل ادراسات حياتيةب 1959، فالشعر عندها مرآة حقيقية للحياة الفردية منظورًا إليها بعين الشعر الرومانسى، فكان شعر لويل انافذة حقيقية ساعدت بلاث على النفاذ إلى سيرتها الخاصة، إلى الألم الفادح.ب ستكشف بطريق غير مباشر عن معاناتها فى النشر، وتدبُّر النفقات، خاصّة بعد تركها التدريس لاكتشافها أن المهن التعليميّة ذ كما صرّحت لأمها ذ بمثابة االموت للكتابةب، كما تكشف عن أجواء الحياة الثقافية وتكلُّس النقد الجامعى، ونراها تنتقد الكثير من المقالات الصادرة عن أساتذة الجامعات، كاشفة عن عوار رؤيتها وعدم مرونتهم فى تقبُّل أشياء غير مألوفة.

هناك جوانب خفيّة فى حياتها تتناثر - هنا وهناك - فى رسائلها، خاصّة فى رسائلها للصديقين الألمانيين هانز وإدوارد كوهين، فتحكى لهما عن عملها كجليسة أطفال، أو فى مزرعة فى العطلة لتدبُّر النفقات بقطف الفاصولياء وحمل صناديق الفجل وإزالة الحشائش والذرة لمدة ستة أيام فى الأسبوع. وفى فترة لاحقة عملت كنادلة، وعن محاولاتها النشر فى مجلة، وهى فى عمر السابعة عشر وتلقيها أكثر من خمسين رسالة رفض من مجلات سابقة. وبالمثل علاقتها بالدين، فهى لا تذهب إلى الكنيسة كثيرَا، كما أنها مؤمنة بأن الفرد لا بدّ أن يعرف هدفه الخاص ومصيره، ولذا ترفض فكرة الخلاص. وعن رؤيتها السياسية فى هذا السن الصغير، ورفضها لمحاولات حكومات الدول لتدجين الشباب وإرسالهم للحرب، ونقمتها على السياسة الأمريكية، فكما تقول: الا يمكن لأى شخص أن يعتقد أن القنبلة ستشفينا من الشرورب، ومن جملة آرائها فى السياسة قولها إن االديموقراطية والحرية لن تعنيا شيئا فى عالم من الركام والمواد المشعة.

كتاباتها لأمها وأصدقائها على اختلاف جنسياتهم، تكشف ذ بصورة لا تقبل الشك - مدى حاجتها إلى الونس بشخص مُقرب، فهى تشعر بالضياع دون صديقتها اديفىب لدرجة أنها تتخيّل االمكان يبدو فارغًا دون شخص مقرّبب وهذا واضح فى استمالتها لطبيبتها بيوشر، لأن تكتب لها كنوع من استنهاض الشجاعة والمقاومة، فهى دومًا تشعر عندما ترسا لها - كما تخبرها فى رسالتها - ابالراحةب، وبالمثل تشعر ابالتطهر والتجددب بعد محادثاتهما فى الماضى.

ففى بعض رسائلها لطبيبتها ثمة صرخات واحتجاجات وإن كان صامتة عمّا تعانيه من أفعاله، فتقول: اما الذى يمكننى فعله ليتوقف عن النظر إليّ كحارس تطهير؟ ويستبد بها الغضب والاحتجاج على معاملة تيد لها، وكذلك بسبب نزواته الجنسية، ورغبتها فى أن تكون صوتها الخاص، لا مجرد التابع أو مكسورة الجناح: فتقول: اأنا لست بنيلوبى (فى إشارة لزوجة أوديسيوس فى الأوديسة، والتى بقيت مخلصة لزوجها فى غيابه الطويل)، لكننى سأكون ملعونة إذا كنتُ أرغب فى الجلوس هنا مثل بقرة ترضع الأطفال، أنا أحب أطفالى. لكن أريد حياتى الخاصة أيضًا. أريد أن أكتب، ألتقى بالناس وأسافر....

يبدو أن التحولات فى علاقتها بزوجها انعكست على كتاباتها، ففى رواية االناقوس الزجاجىب كانت بطلتها فتاة أمريكية تدعى اإيستر غرينوودب فى ريعان شبابها على شفا انهيار عصبى، حياة البطل لم تكن تنبئ بهذا المصير، وهو نفس ما كانت تشعر به سيلفيا عندما التقت بالشاعر الذى سيكون زوجها، فوصفها له فى رسالتها لأمها، يؤكد المفارقة التى صارت عليها حياتها فيما بعد.