«الكمامة مازالت فى جيبي»

الكمامة مازالت فى جيبى
الكمامة مازالت فى جيبى

أخطر أعدائك هو الذى لا تراه وتستخف به أو تأمن جانبه، وأصعب الحروب تلك التى لا ميدان محدد لها، لا معلومات متوافرة، أو تقديرات لعدد وعتاد وزمن واحتياجات وخسائر، ويدك مكبلةٌ، وعقلك مشتتٌ، فلا يدرى المرء أى سلاحٍ يستخدم، حين يُحارب أشباحًا تُراوغه، تتلفت حولك فلا تجد سوى الفراغ وبعض الجثث والمصابين، فتنسحب قليلاً، وتظنك بأمان، فتسترخى وتتوهم أن خصمك قد حزَّم حقائبه وغنائمه ورحل، لكن بعض الظن إثمٌ وغباءٌ، ففى لحظةٍ مباغتةٍ ينقضُ عليك عدوك الخفى، فيحتل دفاعاتك بصمتٍ، ويُؤلمك بقسوةٍ وتوحشٍ، وينهك قواك حد الهزال، وأعصابك حد الجنون، هذا إذا ما قرَّر الرأفة بك لا إعدامك.. فهل تُعجبك الهزيمة؟!
العالم بأجمعه وبأقوى جيوشه واقتصادياته ونظمه الصحية وعلمائه ما زال يخسر الجولة تلو الجولة أمام «كورونا المحتل الغاشم» الذى يأبى الرحيل عن كوكبنا، رغم أنه أوجعنا بإصاباتٍ بالملايين، وفجعنا بوفياتٍ تقترب من المليونين، فالفيروس الشبح لديه نهمٌ غير مسبوقٍ لحصد الأرواح كمصاصى الدماء، ونحن حتى اللحظة لا نملك رصاصةً فضيةً لملاحقته وقنصه، ماهرٌ جدًا فى ضرب خطوط المقاومة والمناعة، لديه خططٌ خدَّاعة تُفسد مفعول أى دواءٍ، وتُتيح له حرية الحركة، رغم أى إجراءاتٍ احترازيةٍ أو إغلاقٍ وحظرٍ، ولكن متى كانت الأشباح تُعيقها الجدران؟ 
الجائحة لا تكتفى بالأجساد، لكنها تلتهم الأخضر واليابس، بورصات تنهار، نفط تتدنى أسعاره، متاجر كبرى وشركات عابرة أفلست، بطالة تستفحل، فقر يتعاظم، أزمات جوع وغذاء تجوب العالم، أوروبا تستغيث وتستدين وتبحث عن خطة مارشال بقيمة 750 مليار يورو؛ لإصلاح بعض ما أفسدته الموجة الأولى، فما بالك بالثانية الأشد فتكًا والأسرع عدوى؟
كورونا أسقط «ترامب» أرضًا فى أمريكا صحيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وترك لبايدن ورقة مغازلة الشعب باللقاح فقط، فاكتسح.. فماذا عن مصر؟ 
للأمانة عناية الله فقط هى خط الدفاع الأول ضد هذا القاتل الصامت، الذى أقام مأتمًا فى معظم بيوت الوطن، ووضع مستشفيات العزل فى وضعٍ حرجٍ نوعًا ما فى أولى جولات مواجهته، والتهم أكثر من 200 مليار جنيه من «ميزانية الغلابة»، كتداعياتٍ وآثارٍ جانبيةٍ لاقتصاد اعتل وأصابته الأنيميا فى ظل حدودٍ مُغلقةٍ، ومطاراتٍ تُصفِّر الريح فيها، وموانئ مهجورة، والحديث عن السياحة لغوٌ فى الصلاة يُبطلها، وللأمانة أيضًا لم تبخل الدولة بإعانات على قدر استطاعتها لبسطاء بطش برزقهم فيروس لا قلب لديه ليرحمهم، المشروعات لم تتوقف، المصانع لم تطفئ ماكيناتها، الخطط اقتصادية لم تتجمد، رئيسٌ يحرص على ضرب المثل فى العمل الدءوب منذ الصباح الباكر مرتديًا كمامته، محافظًا على مسافة التباعد، باعتباره قدوةً للشعب، يُسافر هنا وهناك بقلبٍ شجاعٍ من أجل مصالح الوطن، ففاتورة الإغلاق باهظةٌ لم تتحملها دولٌ صناعيةٌ عظمى، فما بالك بشعبٍ قوَّته الإنتاجية من شبابٍ مُبتلى بـ"الكافيهات"، وغاضب من منع الشيشة والحفلات، يومه مهدور فى وسائل «الانفصال» الاجتماعى والتيك توك التى تلتهم جهده وماله؟
شباب يرى فى ارتداء «الكمامة» جُبنًا، وفى الأحضان والمصافحة ودًا، وفى استخدام المطهرات «وسوسةً»، وفى العشوائية «بركةً»، ويرفع شعار «سيبها على الله»، شعب معذور حين يرى الفنانين فى المهرجانات عبر شاشات الفضائيات لا يُبالون ويتخففون من الأقنعة الطبية بقدر ما يتخففون من ملابسهم، ولا تردعهم مخاوف، فيلتصقون بجرأةٍ ببعضهم فى الحفلات، وفى المباريات، تجد اللاعبين أحضانهم وقبلاتهم أكثر من أهدافهم، شعبٌ يتخيل بسذاجةٍ أن «كورونا» مؤمنٌ ولا يذبح ضحاياه فى المساجد والكنائس، ولديه من الخجل ما يجعله يُؤجل مهمته فى الأفراح وسرادقات العزاء، ومن الحياء ما يجعله يترفق بالطلبة فى المراكز التعليمية، فى المتاجر الكبرى والشوارع التجارية، فالحشود تلتحم بجرأةٍ غريبةٍ وعن الإجراءات الاحترازية لا تسل !! 
للأسف يد الحكومة منتهى الرقة فى تفعيل القانون والغرامات، والإعلام لا يُمارس دوره التعبوى كما ينبغى فى زمن الحرب، نحن أمام شعب بارعٍ فى المراوغة، فيرتدى الكمامة تفاديًا لكمين الشرطة أو لدخول المترو، ثم يخلعها مُتحررًا وكأنه أحرز نصرًا،  المحلات بعيدًا عن «وسط البلد»، تقوم بتعيين «ناضورجية»، وتفتح أبوابًا جانبيةً لدخول الزبائن، ملاهى ليلية ومراكب عائمة تكتظ بهواة السهر، ودخان الشيشة يخنق تلك الأوكار الضيقة حتى الصباح دون رقيبٍ، مطاعم بلا اشتراطات صحية، أفراح وأعياد ميلاد سرا وعلانية عنوانها العناق والتقارب المرضي، وغيرها من مظاهر اللامبالاة،  شعب غالبيته يتعامل باستهتارٍ لا يليق مع الأمر وبالفهلوة و«التنكيت»، فى أحيانٍ كثيرةٍ، والرهان هذه المرة على الوعى الجمعى، مقامرة غير محسوبة فى ظل ما نراه من فوضى، الموجة الثانية والثالثة تبدو أكثر شراسةً من سابقتها، والفيروس يُبدل من خططه بدهاءٍ، واقتصادنا بالكاد يعاود النهوض بصعوبة  كي يقف على قدميه ويسترد وعيه، والنصر فى هذه الحرب  سيتحقق فقط بالحزم وتفعيل القانون، قبل الاعتماد على الوعى العليل، سنكسب الجولات حين نستدعى كشعب وحكومة أجواء حرب أكتوبر وأفلام أشعلت حماسنا الوطني، ورسخت أن لدينا عدو يجب الحرص منه طوال الوقت، فيلم مثل «الرصاصة مازالت بجيبي» للنجم الراحل محمود ياسين لا ضير أن نستوحي منه عقيدة اليقظة، ونستبدل الرصاصة بالكمامة كسلاح فعال في معركة عنيفة مع كورونا بكل موجاته، كي يستمر قارب الوطن في الطفو والمسير انتظار للقاح يظنه الكوكب أنه طوق النجاة.
[email protected]